لا يمكن قراءةُ حاضرِ المملكة العربية السعودية من خلال الماضي وحده، على أهميته؛ فالحاضرُ هو الذي يفتح أعينَنا على الماضي، وعلى المستقبل المُضْمَر في قلب الواقع. مرت السعوديةُ بثلاثِ مراحلَ معروفةٍ ومؤرخٍ لها، ولعل "تاريخ العربية السعودية"، للباحث الروسي فاسيليف، من أهم المراجع، على كثرتها.
العائلة المالكة بدأت بالظهور منذ منتصف القرن الثامن عشر، وقد أخذ الضعفُ يدبُّ في أوصال الدولة العثمانية، وكانت قبائل الجزيرة تقود تمرُّداتٍ ضد النَّيْر العثماني.
في العام 1744، وفد إلى الدرعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كداعيةٍ سَلَفيٍّ يدعو إلى "الكتاب والسنة"؛ فاتفق مع محمد بن سعود على امتلاك ابن سعود السلطةَ السياسيةَ، وامتلاك ابن عبد الوهاب الشأنَ الديني. لا يُفسَّر الأمرُ من هذه الزاوية فقط؛ إذ لا بد من قراءة الصراع بين الدولة العثمانية -الرجُلِ المريضِ حينها- وبين بريطانيا العظمى، وعلاقاتها بشيوخ القبائل في عموم الجزيرة.
صراعاتُ القبائل، والصراعُ ضد الدولة العثمانية الشائخة، واتساعُ النفوذ البريطاني في المشرق العربي هو ما يفسر سرعة صعود ابن سعود، الذي استند إلى الإسلام الحنبلي الدعوي الجهادي، والخبرة والذكاء الاستعماري البريطاني، وفساد الأسرة الهاشمية في الحجاز.
مرت الدولة السعودية بثلاثِ مراحلَ، أو بالأحرى دُولٍ، كما هو معروفٌ. وهي، وإن أقامت علاقاتٍ في مراحلَ معينةٍ مع الأتراك، إلا أن الغالب على تاريخها هو التحالفُ مع بريطانيا في السياسة، والممازجةُ بين الإسلام الدعوي الجهادي والعصبيةِ القبلية والبدوية.
كتاب "إسماعيلية اليمن السليمانية"، للباحث حمود زايد نوفل، يؤرخ لمرحلة الصراع القبلي والطائفي بين إسماعيلية يام في نجران، والوهابية في نجد. ورغم قوة يام، التي هددت الوهابيين في عقر دارهم،إلا أن امتلاكَ العصبية، أو بالأحرى امتزاجَ العصبية لبعض قبائل نَجْد بالإسلام الدعوي، ثم الانفتاح على بريطانيا في مواجهة الأتراك، هو سر نجاح الأسرة المالكة السعودية.
كثيراً ما يشير الدكتور أبو بكر السقاف إلى التفاوت بين مختلف مناطق الوطن العربي؛ ففي حين كانت مصر وسوريا والعراق والجزائر تناضل لطرد الاستعمار، كان شيوخُ الجزيرة العربية والخليج مرتبطين أشد الارتباط ومرتهنين للاستعمار البريطاني. كانت السعودية واليمن العنوانين الكبيرين في المنطقة، اللذين يخوضان معركةً ضد الأتراك؛ على أن اليمن وحدها كانت في مواجهة مع الأتراك والبريطانيين في آنٍ واحدٍ.
في كتاب "زمن الصحوة"، يشير ستيفان لاكرو إلى أن "دولة ظهرت إلى حيز الوجود في العام 1744 بين [سيف] محمد بن سعود، والدعوة الدينية للشيخ محمد بن عبد الوهاب. وَعَدَ الأول بتطبيق الإسلام وفقاً لمفهوم الثاني. نخبتان متمايزتان تقاسمَتا السلطة: نخبةٌ مشيخيةٌ قبائليةٌ سياسيةٌ، ونخبةٌ دينيةٌ».
معروف –تاريخياً- أن الاستبدادَ الدينيَّ تابعٌ دوماً للاستبداد السياسي وخادمٌ له؛ وهو ما يؤكد عليه العدوُّ الأولُ للاستبداد، عبد الرحمن الكواكبي. الصيغة السعودية -في مراحل الدولة الأولى- شكّلتْ تحالفاً بين طرفين متكافئين في احتياج كلٍّ منهما للآخر؛ فالشأن الديني محتكرٌ لآل الشيخ، بينما السياسة وإدارة السياسة الخارجية محتكرة لآل سعود. يُقَسِّمُ ستيفان السلطة السعودية الأولى (1745- 1811) إلى مجالين، للحفاظ على المظهر المستقل لكلٍّ منهما، ويرى أن في الوهابية تيارين: احتوائياً، وإقصائياً. بدأ الانقسام عند احتلال جيش مصر نَجْدَ، عام 1818. ويفسر الصراعاتِ التي أدت إلى انهيار الدولة الأولى، وأيضاً صراعاتِ عبد العزيز آل سعود مع "الإخوان" المتشددين -كفيصل الدُّوَيْش، شيخ قبيلة مُطَيْر، وضيدان بن حِثْلين، شيخ العُجْمان، وهي قبيلةٌ يمنيةٌ، وسلطان بن حميد بن بجاد، شيخ عُتَيْبة التي ينتمي إليها جُهَيْمان العتيبي- بصراع التفكك والتوحد.
ويرى صاحب كتاب "تاريخ العربية السعودية" فاسيليف أنه "كانت تصرفات الإخوان تبدو للوافدين الأوروبيين وللمتعلمين، من مستشاري الملك، نوعاً من الغلو في التعصب وحتى الوحشية؛ غير أنها كانت تنمُّ عن سعي الجماهير الواسعة، من عرب الجزيرة، إلى الحياة البسيطة التي دعت إليها الوهابية، وتمسكت الجماهير بالدعوة إلى المساواة التي تضمنتها الوهابية، وحاولت تحقيق مُثُلِها عملياً وفق ما ترتئيه. وقد اصطدمت طموحات الإخوان وممارساتهم بالمصالح الفعلية لعليّة الإقطاعيين؛ لذا فإن تسمية هبات الإخوان بأنها [رجعيةٌ سافرةٌ] تبدو مغالاةً في إبراز جانبٍ واحدٍ، بل وغيرَ صائبة؛ فقد كانوا رجعيين بنفس القدر الذي كانت عليه رجعيةُ المشاركين في الانتفاضات الفلّاحية في عصر الإقطاع في أوروبا، بكل ما شهدته من بطشٍ وبأسٍ". والحقيقة أن المقارنة بين انتفاضات الفلّاحين في أوروبا، وبين حركة "الإخوان" خاطئةٌ بالأساس. كما أن مطلبَها للمساواة ملتبِسٌ؛ فزعماء البدو العشائر، من القادة المتشددين، كانوا يطمحون إلى إبادة الشيعة وتطبيق أحكام الكُفار عليهم؛ عكس ما يراه عبد العزيز مع البريطانيين. وكانت الغنائم والحرب مصدرَ الوجاهات والعيش والثراء لديهم. ثم إنهم أيضاً يريدون الاستمرار في الحروب البدوية؛ بينما يطمح عبد العزيز إلى تأسيس دولةٍ لها ارتباطٌ وثيقٌ ببريطانيا، وفيما بعد بأمريكا. ويقيناً، فإن هؤلاء القادة لم يحصلوا أيضاً على حِصَصهم في ولاية الإمارة، والصراعُ في جوهره بين التفكيك والتوحيد. اللافت أنه رغم قمع النظام لهذه الحركة المتشددة، إلا أنه حافظَ أيضاً على تشدُّده في تبنّي الجهاد الطَّلَبي الدعوي، وفي المغالاة والتشدد في التكفير والتفسيق، واحتكار الإسلام البدوي.
حركة جيهمان العتيبي هي بمثابة إعادة الحرب جَذَعَةً كما يقال. وجهيمان من قبيلة عتيبة التي قمعها عبد العزيز بقسوةٍ متناهيةٍ. وهو ينحو نفسَ منحى "التشدد"، واعتبار النظام السعودي لا يطبق الإسلام الصحيح. والمشكلة أيضاً أنه، بعد قمع تمرد جهيمان، حافظ النظامُ على التشدُّد وتبنّي نفس نهج جهيمان في نشر الدعوة وفرضها على المعتقدات الأخرى.
التطوراتُ الحالية، والانقلابُ الذي قام به محمد بن سلمان في مواجهة التيار الصحوي -كما يسميه أنصارُه- يتّسم بالقَمع، ولكنه يُبقي على جذر التشدد في طبيعة النظام القائم، في مصادرة الحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، وقمع المرأة، والمضي في التمييز بمختلِفِ صوره وأشكاله، والارتهان أكثرَ فأكثرَ للاتجاه الأكثر عداوةً للقضايا العربية والإسلامية والإنسانية في البيت الأبيض، وبالأخص ضد الفلسطينيين، ومنها "صفقة القرن".
وحقاً، فإن المجاليْن، المستقلّيْن نسبياً، والندِّيَّيْن ظاهرياً، قد اختلّا، وبدأت الكفةُ تميل -كطبيعة الأمور- لصالح الأمير السياسي ضد الشيخ داعية الإسلام. وقد بدأ الميلُ رجحاناً منذ تمرد جهيمان العتيبي، ذي الجذر القبلي.
تتحول المملكة، في ظل ولاية عهد ابن سلمان، إلى تفرُّد الاستبداد السياسي. ويُعمَّمُ القمعُ ضد الجميع، بما في ذلك الداعية الإصلاحي، ويطال العديدَ من أفراد الأسرة المالكة.
المملكة الآن أمام استبدادٍ وتفرُّدٍ يقضي على "الديمقراطية" داخل العائلة وتعدُّدِ مراكز القرار، لمَرْكَزَتِه في فردٍ واحدٍ وحيدٍ، وهو محاصرٌ بالحرب على اليمن، و"صفقة القرن"، والخلافِ مع قطر، وابتزازِ ترامب، وخلافاتِ العرش، ومقتلِ خاشقجي، وتطوراتِ ما بعد كورونا.
نَقْلُ الحكمِ من الجيل الأول إلى الثالث خطوةٌ تجديديةٌ مهمةٌ داخل الأسرة؛ وهو انقلابٌ لا يمكن التقليل من أهميته كتجديد الحكم العائلي التراتُبي، كما أنه يمثل انقلاباً على رجل الدين الداعية، لصالح السياسي، كقراءة المفكر العربي عبد الله العروي، في مقاله "ثلاثة رجال وثلاثة تعريفات". غير أن فَرْض التغيير من أعلى، حتى لو كان مستجيباً لمصالح البعض، فإنه غالباً ما يترافق مع القمع، ويبقى مهدداً بالاصطدام بالإرادة العامة للجماهير، وتجاهلٍ لدور الطبقة الوسطى الكبيرة والقوية في مختلف مجالات الحياة العامة في المملكة.
طوال المراحل الثلاث من الحكم السعودي، ظلت العائلةُ حريصةً على تجريم الأحزاب، والتعددية السياسية والحزبية والنقابية، وحتى الدينية. كما حرصت على إضعاف الجيش؛ بحيث تكون الأسرةُ هي الحزبَ الأقوى والأقوى من الجيش الذي تقوده، والموزعِ بين ثلاثة أقطاب داخل الأسرة الواحدة. والسؤال المهم: هل الانقلاب داخل الأسرة، والإجراءاتُ الوقائيةُ المفروضة مِنْ أعلى، كافية؟ وهل تقي الحكم من رياح التغيير التي تجتاح المنطقة والمحيط؟ وحقاً، فإن الجميع في انتظارِ ما بعد سلمان، وما يجري في العالم، وتحديداً في أمريكا.