في السابع من أبريل 2022 وُلد المجلس الرئاسي في اليمن على عجلٍ، كاستجابةٍ لمتغيراتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ ضاغطة أكثر مما كان تعبيرًا عن إرادةٍ وطنيةٍ خالصةٍ.
كان مشهد الإعلان عن تشكيل المجلس في الرياض مشوبًا بشيء من الاحتفالية المرتبكة، وكأنّ الجميع يعرف أنّ الوليد الجديد يحمل منذ لحظته الأولى بذور أزمته الكبرى: الشرعية المعلقة بين مطرقة الداخل وسندان الخارج.
مرت ثلاث سنواتٍ كاملة والمجلس الرئاسي يتعثّر فوق رمال السياسة اليمنية المتحركة عاجزًا عن تثبيت أقدامه، أو بناء مشروع دولةٍ يلتف حوله اليمنيون.
اليوم تبدو الحصيلة شحيحةً، والآفاق مسدودةً، والأسئلة القديمة تتجدد بصورة أكثر إلحاحًا: هل كان تأسيس المجلس الرئاسي خطوةً إلى الأمام، أم مجرد محاولةٍ لإدارة العجز المزمن؟
مشهد الولادة المتعسرة
لم يكن مِيلادُ المجلسِ الرئاسيِّ في اليمنِ حدثًا معزولًا عن السياقِ الطويلِ لتآكلِ الدولةِ اليمنيّة، وانحلالِ بنيانِها منذُ تَفَجُّرِ الأزمةِ الكبرى عامَ 2011. فقد كشفتِ (ثورة الشبابِ) هشاشةَ النظامِ السياسيِّ القائم، وأجبرتْ مراكزَ القوى على القبولِ بتسويةٍ رعَتها (المبادرةُ الخليجيةُ)، لم تُنهِ الأزمةَ بقدرِ ما أجَّلتْ انفجارَها الأكبر.
انطلقت المرحلةُ الانتقاليةُ بعدها على أسسٍ رخوةٍ، سرعانَ ما بدا عجزُها عن لملمةِ التناقضاتِ العميقةِ. ثم جاءَ (مؤتمرُ الحوارِ الوطنيُّ الشاملُ) بين عامي 2013 و2014 كمحاولةٍ لتأسيسِ عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ، لكنه وقعَ هو الآخرَ أسيرًا لاستعصاءات الداخلِ وتدخلاتِ الخارجِ، واصطدمتْ الطموحاتِ الكبيرةَ بجدرانِ الانقساماتِ العميقةِ والمصالحِ المتعارضةِ.
وفي 21سبتمبر 2014 اجتاح الحوثيون العاصمةَ صنعاءَ فاتحين الطريقَ أمام تدخلِ التحالفِ العربيِّ بقيادةِ المملكة العربية السعوديةِ في26 مارس 2015، ومعه دخلتِ البلادُ طورًا أشدَّ تعقيدًا من الفوضى السياسيةِ والعسكريةِ.
تعاظمَ الانهيارُ وبدتْ رئاسةُ عبد ربه منصور هادي كما لو أنها إدارةٌ للفراغِ لا للدولةِ. ومع استفحالِ المأزقِ دُعي الفرقاءُ إلى الرياضِ في محاولةٍ لإعادةِ تشكيلِ الشرعيةِ بما يتواءمُ مع موازينِ القوى الجديدةِ، وتحت رعايةٍ سعوديةٍ مباشرةٍ ودعمٍ أمريكيٍّ بريطانيٍّ معلنٍ.
غير أنَّ المجلسَ الرئاسيَّ الذي خرجَ من رحمِ هذه التسويةِ لم يَبدُ منذ اللحظةِ الأولى أكثرَ من تجميعِ قوى متنافرةٍ: مجلسٌ بثمانيةِ أعضاءَ، لكلٍّ منهم أجندتُهُ الخاصةُ وارتباطاتُهُ الخارجيةُ. فمن رشاد العليمي -الذي يحملُ خلفيةً أمنيةً ومدنيةً- إلى طارق صالح وعيدروس الزبيدي القادمينَ من معسكراتِ النفوذِ العسكريِّ والمناطقيِّ، كان المشهدُ أقربَ إلى اجتماعِ رؤوسٍ لا رأسٍ، ومائدةِ مصالحَ لا وحدةَ مصيرٍ.
وهكذا بدلًا من أن يكونَ المجلسُ إطارًا موحدًا بدا أقربَ إلى ملتقى هواجسَ متضاربةٍ، تُملِيها حساباتُ الداخلِ وتتقاطعُ فوقَها رهاناتُ الخارجِ.
إدارة أزمة أم إدارة عجز؟
على امتداد ثلاث سنوات بدا المجلس الرئاسي وكأنه يدير أزمةً لا يملك مفاتيحها، أكثر مما يدير سلطةً قادرةً على المبادرةِ وصناعةِ الأحداثِ. كان حضوره في المشهدِ السياسيِّ أشبهَ بظلٍّ باهتٍ لكيانٍ مأمولٍ، أكثر منه جسدًا حقيقيًّا لدولةٍ فاعلةٍ.
في ميادين المواجهة مع جماعة الحوثي عجز المجلس عن إحداث أي اختراق استراتيجي؛ فلا الحربُ حُسمت، ولا السلامُ وُلد. إذ ظلت الجبهات تتحرك ضمنَ حدود الاِستنزاف المتبادل، بينما بدت مبادرات السّلام رهينةَ حساباتٍ متضاربةٍ، غابت عنها إرادة الحسم السياسي الحقيقي.
لم يكن المجلس الرئاسيّ منذ يومه الأول سوى انعكاسٍ مباشرٍ للعبة الإقليم أكثر مما كان تجسيدًا لإرادةٍ وطنيةٍ صافية. السعودية وقد أنهكتها سنواتُ الحربِ الطويلةُ، لم تعد تبحث عن نصرٍ كاملٍ بقدر ما كانت تسعى إلى صيغةِ خروجٍ مشرّفةٍ تحفظ ماءَ الوجهِ، وتبقي لها خيوطَ التأثيرِ مفتوحةً في جنوبِ الجزيرةِ العربيةِ.
وفي جبهةِ بناءِ المؤسسات ظل المشروع الوطني حبيسَ نوايا مؤجلةٍ وشعاراتٍ فضفاضةٍ، بينما تمادت الفجوة بين الأجهزة الأمنية والعسكرية في الاتساع، رغم كل محاولات (اللجنة العسكرية والأمنية) لرأبها.
أما اقتصادُ الحربِ فقد مضى يلتهمُ ما تبقى من قدرةِ الدولةِ على الحياةِ، حيث تزايدت الأزماتُ المعيشيةُ، وانهارت الخدماتُ، وباتت السلطةُ الشرعيةُ عنوانًا متآكلًا، تصارع الزمن أكثر مما تصارع الخصوم.
تحت هذا المشهد القاتم كان الدعمُ الإقليميُّ يسيرُ على سكةٍ من الحذرِ والتذبذبِ: دعمٌ بالحد الأدنى يكفي لإبقاءِ الكيانِ قائمًا، لكنه لا يكفي لبناءِ سلطةٍ قادرةٍ على الفعلِ.
وبينما كانت المفاوضات الإقليمية تُدار في العواصم الكبرى، كان اليمن يغرق أكثر فأكثر في وحل الانقسامات، وتزداد سلطة المجلس هشاشةً يومًا بعد آخر.
رعاة بلا مشروع واضح
لم يكن المجلس الرئاسيّ منذ يومه الأول سوى انعكاسٍ مباشرٍ للعبة الإقليم أكثر مما كان تجسيدًا لإرادةٍ وطنيةٍ صافية. السعودية وقد أنهكتها سنواتُ الحربِ الطويلةُ، لم تعد تبحث عن نصرٍ كاملٍ بقدر ما كانت تسعى إلى صيغةِ خروجٍ مشرّفةٍ تحفظ ماءَ الوجهِ، وتبقي لها خيوطَ التأثيرِ مفتوحةً في جنوبِ الجزيرةِ العربيةِ.
أما الإمارات فقد اختارت أن تمضي في طريقٍ موازٍ: بناءُ نفوذٍ خاصٍّ، عبر أدواتٍ محليةٍ، تعزز حضورها الاستراتيجي بعيدًا عن رهاناتِ الرياضِ الكاملةِ.
وفي قلب هذا المشهد بدا المجتمعُ الدوليُّ وكأنه يتعامل مع اليمن كملفٍّ مؤجلٍ، رهينًا بصفقاتِ الإقليم الكبرى: اتفاقٌ مع إيران هنا، ترتيباتٌ أمنيةٌ هناك، أما اليمنُ فظل معلقًا على حبال الانتظارِ الطويلِ.
وهكذا وجد المجلسُ الرئاسيُّ نفسَه لا يملك قوةَ الفعلِ الذاتيةِ، ولا يحظى برعايةٍ إقليميةٍ تحملُه نحو مشروعٍ متكاملٍ. معلقًا بين دعمٍ يتآكلُ ومشاريعَ إقليميةٍ متنافرةٍ، غارقًا في تفاصيل الخلافات اليومية، وعاجزًا عن تقديم أفق وطني جامع.
مفترق طرقٍ بلا إشارات
اليوم بعد ثلاث سنواتٍ تقف اليمنُ أمام مفترق طرقٍ مصيريٍّ. الأسئلةُ الكبرى التي تلوحُ في الأفقِ لم تعد تحتمل التأجيل: هل يستطيعُ المجلس الرئاسي وقد خبر معنى السلطةِ دون أدواتها، أن يعيد صوغ شرعيةٍ وطنيةٍ تتجاوزُ ثنائيةَ (الشرعيةِ) و(الحوثيينِ)؟
مرور ثلاث سنواتٍ على تأسيس المجلس الرئاسي يكشفُ أن معادلات التوازنات الهشة والرهانات الخارجية لا تصنع دولًا، ولا تؤسس لشرعيةٍ قادرةٍ على الصمود. إن الشرعية لكي تكون حقيقيةً وراسخةً لا بد أن تنهض على مشروع وطنيٍّ نابعٍ من إرادة الداخل، لا من أوهام الخارج.
هل هناك فرصةٌ حقيقيةٌ لبناء شراكةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تعيد تعريف مفهوم الدولة لا بوصفها غنيمةً متنازعًا عليها، بل إطارًا جامعًا للمواطنةِ والحقوقِ المتساويةِ؟ أم أن المشهد مرشحٌ لمزيدٍ من الانقسامِ حيث تتحولُ كلُّ رقعةٍ من رقعِ اليمنِ إلى ساحةِ نفوذٍ منفصلةٍ، تدخل البلادُ معها مرحلةً جديدةً من التشظي، قد تكون أشدَّ قسوةً وتعقيدًا من كلِّ ما سبق؟
الحقائقُ على الأرضِ لا تمنحُ الكثيرَ من أسبابِ التفاؤلِ لكنها تفرضُ حقيقةً لا مفر منها: أن لا خروجَ لليمن من أزمتهِ إلا بقرارٍ وطنيٍّ حرٍّ، يستعيدُ السيادةَ السياسيةَ من براثن الخارج، ويعيدُ الاعتبارَ لفكرةِ الدولةِ بوصفها المشروعَ الجامعَ لكلِّ اليمنيين، لا مجرد غنيمةٍ لطرفٍ دون آخر.
شرعيةٌ بلا مشروع، ومجلسٌ بلا دولة
مرور ثلاث سنواتٍ على تأسيس المجلس الرئاسي يكشفُ أن معادلات التوازنات الهشة والرهانات الخارجية لا تصنع دولًا، ولا تؤسس لشرعيةٍ قادرةٍ على الصمود. إن الشرعية لكي تكون حقيقيةً وراسخةً لا بد أن تنهض على مشروع وطنيٍّ نابعٍ من إرادة الداخل، لا من أوهام الخارج.
مشروع يعيد تعريف السياسة بوصفها التزامًا بمصالح الناس لا مصالح القوى، ويعيد للوطنِ معناه المفقود ويؤسسُ للخروج من أَسرِ الحربِ إلى أفقِ الدولةِ والسلامِ.
وما لم يُدرك الفاعلون في المشهد اليمني هذه الحقيقة الجوهرية فإن المجلس الرئاسي ومعه البلاد كلها سيبقيان يدوران في حلقةٍ مفرغةٍ، حيث تتغير الأسماءُ وتتشظى الخرائطُ ويبقى الوطنُ معلقًا على أبواب المجهول.
وفي النهاية لا يزال اليمن عالقًا في دوامةٍ لن يخرج منها إلا بتغييرٍ جذريٍ في منطق السلطة ومفهوم الدولة. لا يمكن لأيِّ حلٍ أن يأتي من الخارج أو من رعاةٍ إقليميين، بل من إرادة الشعب اليمني الذي يستحق قيادةً تبني له دولةً حقيقية، لا مجرد حكومة مؤقتة. وسيظل السؤال مرفوعًا إلى الأبد: هل يُكتب لليمن أن ينهض، أم أنه محكومٌ بالانهيار المستمر؟