ضحايا الحرب غير المرئيين في اليمن

صراع قدرة التحمل مع الاضطرابات النفسية
احمد الولي
April 4, 2020

ضحايا الحرب غير المرئيين في اليمن

صراع قدرة التحمل مع الاضطرابات النفسية
احمد الولي
April 4, 2020
© أحمد باشا

"في العام 2017, اضطر ابني عبد الله محمد -جندي في الثلاثين من عمره- إلى بيع بندقيته التي تعود ملكيتها لـ"الدولة"، بعد انقطاع الرواتب، حتى يتمكن من الالتزام بمصاريف بيته. وحين عاد إلى معسكره بدون البندقية تعرض للسجن. بعد أشهرٍ، ترك المعسكر وبدأ في البحث عن عمل آخر لكنه لم يجد. مع مرور الوقت لاحظنا أن تصرفات عبد الله لم تعد طبيعية، كان مكتئباً ويحدث نفسه، ويفتعل شجاراً بدون سبب، أخذناه إلى مستشفى الأمل للعلاج النفسي في صنعاء، كان لا بد من خضوعه لجلسات علاجٍ نفسيةٍ كما قال الطبيب، لكنه هرب بعد يومين ولا أعرف عنه شيئاً حتى اليوم. منذ سنتين، وأنا أجيء بين وقت وآخر إلى هنا، بالقرب من المستشفى؛ لا أتمنى شيئاً أكثر من أن أصادفه وأعود به إلى بيته وأولاده"؛ هذا ما قاله والد عبد الله (60 عاما).

وبينما كنت أتحدث معه، لم يتوقف عن التحديق في وجوه الداخلين والخارجين.

إن هذه القصة تُلخّص حياة الآلاف من الضحايا غير المباشرين للحرب، أولئك الذين ما عادوا قادرين على التحمل، فينتهي بهم المطافُ في وضعٍ نفسيٍّ معقد. أشخاص سلَبَتْهم الحروبُ أحباءهم أو مصادرَ رزقهم، تاركةً عليهم ندوباً تعدت الآثارَ الجسديةَ، وامتدت إلى دواخلهم.

في البلدان التي تشهد حروباً طويلة الأمد، يتعرض المدنيون لانتهاكات متنوعة؛ مثل القتل والتشويه وغير ذلك. وتأخذ هذه الانتهاكات حقها من الاهتمام والتغطية. غير أن الصحة النفسية في اليمن لا تأخذ حقها من الاهتمام والدعم، بالرغم من تأثيرها على الضحايا وأسرهم.

قالت منظمة الصحة العالمية إن الذين يعانون اضطراباتٍ نفسيةً هم أكثر الفئات عرضة للإهمال في العالم. فالمرض النفسي، بنظر المجتمع، لا يُعدّ مرضاً حقيقياً، بل ضعفاً في الشخصية.

حسب أخصائي نفسي تحدث لـ"خيوط"، فإن أحد أهم أسباب الاضطرابات النفسية هو فقدان الناس لأعمالهم ووقوعهم تحت ضغط احتياجات عائلاتهم، وانسداد الأفق أمامهم.

وقال الطبيب، الذي فضل عدم ذكر اسمه: "منذ العام 2017، استقبلت قرابة 400 مريض، نصفهم على الأقل، كان انسدادُ الأفق وفقدان الراتب وصعوبة الحصول على عمل سبباً رئيسياً في أزمتهم النفسية".

 قبل الحرب، التي اندلعت في آذار/ مارس 2015، كان اليمن البلد الأفقر في العالم العربي. وبعد خمسة أعوام، أصبح واحداً من أكثر البلدان فقراً على هذا الكوكب. إذ تشير إحصائيات أممية إلى حاجة 24 مليون نسمة لشكلٍ من أشكال المساعدات.

كما أن هناك أعداداً لا حصر لها وقعوا فريسةً لأمراض يمكن الوقاية منها، أو –ببساطة- للجوع.

وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن واحداً من كل خمسة أشخاص في مناطق الحرب يعانون من الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات ما بعد الصدمة أو الاضطراب ثنائي القطبية أو انفصام في الشخصية.

وقالت المنظمة التابعة للأمم المتحدة إن هذه النتائج تسلط الضوء على التأثير بعيد المدى للأزمات الناجمة عن الحرب في اليمن.

يؤثر الترابط الكبير بين فقدان الناس لأعمالهم وعدم الشعور بالأمان في بيئةٍ تشهد صراعاتٍ مسلحةً، بشكل آو بآخر، على صحتهم النفسية، خصوصاً في البلدان التي لا تقدم أي رعاية لمواطنيها.

وشهدت عياداتُ ومراكزُ العلاج النفسي في اليمن ازدياداً في زيارات المرضى، لاسيما خلال سنوات الحرب الخمس الماضية.

وقال مصدر في مؤسسة الإرشاد الأسري بصنعاء لـ"خيوط" إن عددَ من يحتاجون للمساعدة النفسية في ازدياد. وأضاف: "التأثير الناجم عن الحرب لا يقتصر على الذكور، مثل ما هو سائدٌ؛ بل هناك نساءٌ وبأرقامٍ كبيرةٍ، وكذلك أطفال".

  ويتعين عليك، إذا ما أردت الحصول على جلسةِ علاجٍ نفسيٍّ مجانيةٍ في مؤسسة الإرشاد، أن تستيقظ باكراً لتكون ضمن أول ستين شخصاً سيتم إدخالُهم كل يومٍ للعرض على مختصين نفسيين، أو قد يتطلب الأمر أن تقضي ليلتك بجوار المركز للحصول على موعد مبكر.

وبسبب الأعداد الكبيرة التي تفوق قدرة الأطباء والمؤسسة على استيعابها يومياً، أصبح الدخول لمن يصل أولاً، ومن يكون رقمه بعد الستين عليه أن يعود في يوم آخر.

إن أولئك الذين يقصدون مراكز العلاج ترعبهم فكرةُ أن يفقدوا عقولهم في يومٍ ما. عددٌ كبيرٌ من الناس رفقة ذويهم يلتمسون علاجاً يعيد لهم حياتهم السابقة التي توشك أن تُسلب منهم دون إرادتهم.

  ومع تصاعد المخاوف من انتشار جائحة كورونا في اليمن، يمكن أن يكون المصابين باضطرابات نفسية أكثر عرضة للتوتر والخوف، الذي تفيد معلومات طبية بأنه يؤثر سلباً على جهاز المناعة.

ويؤثر الترابط الكبير بين فقدان الناس لأعمالهم وعدم الشعور بالأمان في بيئةٍ تشهد صراعاتٍ مسلحةً، بشكل آو بآخر، على صحتهم النفسية، خصوصاً في البلدان التي لا تقدم أي رعاية لمواطنيها.

في منتصف آذار/ مارس 2017، وبينما كنت أغطى -رفقة بعض الزملاء في منظمة "مواطنة"- إحدى أكثر الهجمات الجوية دموية، والتي استهدفت سوق "مستباء" في محافظة حجة، وراح ضحيتها العشرات بين قتيلٍ وجريحٍ، كان علي حسن فقيه (35 عاماً) يدوس بقدمه على ترابٍ رطبٍ، لترتيب مساحةٍ صغيرةٍ، وسط الدمار، تكفي لطاولةٍ خشبية متداعيةٍ بطول مترٍ في مترٍ، واضعاً عليها حُزَماً من الكراث والفجل للبيع.

كانت أشلاء الضحايا متناثرةً من حوله، ورائحة الموت تسيطر على المكان. وقال علي، الذي لم يمضِ على فقدانه لشقيقه وبعض أقربائه جراء القصف 48 ساعة: "لا يمكنني أن أجلس بدون عملٍ، توقفي ليومٍ واحدٍ يعني عدم قدرتي على إطعام أطفالي الثلاثة".

وأضاف: "بعض الجثث لا تزال تحت الأنقاض. وكما ترى، قمنا بردم الحفر الناتجة عن الصواريخ، ودفن الأشلاء، وأعدنا تأهيلَ جزءٍ من السوق من أجل لقمة عيشنا.لا وقت للحزن، من أين سنأكل؟ من سيعطينا؟".

وبقدرِ ما مثّل لي هذا أمراً يصعب فهمه، فإنه يعكس تشبثَ الناس بمصدر رزقهم، وخوفَهم من فقدانها قَدْرَ خوفهم على خسارة أعزاء أو أقرباء.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English