صنعاء القديمة

تنمُّر الأسمنت على الطين
دولة الحصباني
March 22, 2020

صنعاء القديمة

تنمُّر الأسمنت على الطين
دولة الحصباني
March 22, 2020

"المدينة جميلة جدا، والبيوت رائعة وكبيرة ومبنيّة بأكملها من الحجارة المقطعة والآجُر البنّي، أما الطرقات فواسعة ونظيفة، والناس أنيقون وجليلون".

  هكذا بدت صنعاء القديمة في عيون الكاتب الإيطالي رينزو مانزوني عقب زيارته للمدينة في القرن التاسع عشر؛ زارها مانزوني بين (1877-1878)، وفي كتابه "اليمن.. رحلة إلى صنعاء"، وصفها بدقة عين لا تتوقف عند سطح المشاهدة؛ المدينة المأهولة بالسكان منذ أكثر من 2500 سنة، ذات التراث السياسي والديني والعمراني العظيم الذي أهلها لتكون ضمن قائمة التراث العالمي في العام 1986، كواحدة من أهم مدن التراث الإنساني التي ينبغي الحفاظ عليها، وعدم المساس بخصوصيتها الفنية والجمالية.

  بحسب رئيس الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية خالد الإبراهيمي، تضم صنعاء القديمة ما يقارب 11 ألف بيت، تتراوح ارتفاعاتها بين 3 إلى 8 طوابق، وأكثر من 40 بستانًا و"مقشامة" (مساحة زراعية حضرية عبارة عن حقل صغير يزرع فيه الفجل والكرّاث وما شابهها من الخضروات).كل ذلك جعل المدينة رائدة فيما يطلق عليه حديثًا (المدن الحدائقية)، حيث كانت المساحات الخضراء والمساحات الفارغة تشكل ما يقارب 65% من إجمالي مساحة المدينة، كما تضم المدينة أكثر من 106 مساجد. تتسم هذه المساجد بتنوع قبابها وصوامعها واختلاف نقوشها وزخارفها، إضافة إلى ما يربو على 30 سمسرة (مبانٍ مرتفعة تستخدم لوظائف مختلفة كبيوت للمال، والتخزين، وأماكن لإيواء المسافرين والزائرين، وغير ذلك). وفي صنعاء القديمة أيضًا، حوالي 45 سوقًا، كل واحد منها مخصص لبيع سلعة معينة أو لحرفة معينة. وإلى جانب ذلك، هناك ما يقدر بـ21 حمامَ بخار، وجميع هذه الوحدات يضمها سورٌ له سبعةُ أبواب، أشهرها باب اليمن.

  الآن وبعد مرور ثلاثة وثلاثين سنة منذ انضمامها لليونسكو، واجهت صنعاء خطر الشطب أكثر من مرة بسبب ما أسمته المنظمة(الانتهاكات الجسيمة) بحق المدينة.

الانتهاكات الحكومية في الواجهة

على مقربة من القلعة(قصر السلاح) وأمام جامع البكيرية التاريخي، يوجد مبنى الأمن القومي بالخرسانة المسلحة، محتلًا مساحة واسعة، في مخالفة جسيمة لمواصفات المدينة وطابعها العمراني. وفي منطقة غير بعيدة، استحدثت الدولة قسما للشرطة في باب شعوب بمواصفات حديثة متجاوزة أيضًا محاذير الاستحداث. ثم استولت على "مقشامة" صلاح الدين لأغراض خاصة بها، وقامت بتحويل بستان عنقاد إلى سوق تجاري. ولم يقف الأمر عند هذا الحد كما يشير المهندس جميل شمسان مدير المكتب الفني بوزارة الثقافة في حديثهلـ"خيوط". فالحكومة أثناء تجديدها لسور القلعة، مقابل العيادات الخارجية لهيئة مستشفى الثورة، ارتكبت أخطاءً معمارية جسيمة؛ حيث قامت ببناء السور بالحجر الأسود والأبيض، وزادت في ارتفاعه فوق حده الأصلي بكثير، لدرجة اختفاء أحد الأبواب السبعة للمدينة: باب ستران، حينها "بررت الحكومة المخالفة بمنع هروب السجناء من القلعة". كما أضاف شمسان أن هناك أيضًا "مخالفات بسيطة" ترتكبها الحكومات المتعاقبة، تتعلق بالطلاء واللوحات العملاقة التي يتم وضعها على واجهات المباني، وفي الأسواق، وعلى السور المحيط بالمدينة.

عمق المشكلة

  منذ انضمام صنعاء إلى قائمة التراث العالمي في1986، لم يصدر قانون الحفاظ عليها سوى في العام 2013، وهو أمر يضع عشرات الأسئلة عن الأسباب التي تقف وراء هذه المسافة الزمنية الكبيرة. يحاول المهندس ياسين غالب، المستشار الفني لهيئة الحفاظ على المدن التاريخية، الإجابة على بعض منها في مقابلة مع "خيوط"، قال غالب إن "السلطات المتعاقبة لا تملك رؤية عامة للاهتمام والحفاظ على الموروث الثقافي، إذ تتعامل معه كأمر ثانوي". وأضافأته، حتى مع صدور القانون، "لا توجد حتى اللحظة لائحة تنفيذية يمكن العمل على ضوئها، رغم المحاولات التي بذلناها نحن والصندوق الاجتماعي للتنمية لعمل مسودة اللائحة هذه. لقد جوبهنا بعدم استجابة وتخاذل غير مبرر من قبل الجهات المعنية وعلى رأسها وزارة الثقافة، حيث كانت المحصلة عدم تفعيل القانون".

  ووفقًا للمستشار الفني ياسين غالب، لا تكمن المشكلة هنا وحسب، بل إن استحداث وزارة الثقافة لـ"قطاع الهيئة العامة للآثار والمدن التاريخية" ضمن هيكلها الإداري، أحدث نوعًا من التضارب في الاختصاصات، وأفقد الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية الكثير من صلاحياتها واستقلاليتها.

  في نفس السياق، يتفق المحامي طارق الحمادي، مستشار الهيئة القانوني، مع ما ذهب إليه ياسين غالب. وفي مقابلة مع "خيوط"، قال إن عمق المشكلة تتلخص في "عدم وجود النية والإرادة لدى الإدارة العليا". وحسب تعبيره، فإن "تنفيذ المخطط (يقصد المخطط الذي رفعته الهيئة) قد يقفل حنفية الاسترزاق بالتراخيص، ويقطع الطريق أمام "لوبي" الفاسدين والمنتفعين الموجودين في جهات متعددة، وهو أمر يقف دونه كل هؤلاء".

خارطة فساد منظم

بعض التجار والمستفيدين يشترون المنازل التاريخية القائمة في صنعاء القديمة، ويغرقونها بمياه الصنابير إلى أن تتخلخل الأساسات وينهار البناء، ثم يبنون مكانها "سماسر" ومراكز تجارية حديثة.

 في سياق إجابته عن أسئلة "خيوط" بشأن تأثير سيطرة ونفوذ رأس المال في المدينة التاريخية، يقول شمسان إن "بعض التجار والمستفيدين لجأوا إلى اتباع أسالي بمبتكرة لخلخلة وهدم المنازل التاريخية القائمة؛ يشترونها من ملاكها ثم يغلقونها ويغرقونها بمياه الصنابير إلى أن تتخلخل الأساسات وينهار البناء. بعدها يبادرونببناء "سماسر" ومراكز تجارية حديثة في قلب المدينة التاريخية. وإضافة إلىذلك، يستولون على المساحات الفارغة مثل مساحات "المرانع" التي قد يصل طول الواحد منها لما يقارب الـ30 مترًا".

و"المَرْنَع"،كلمة دارجة في اللهجة الصنعانية، وتعني الممر المؤدي من بئر الماء والذي يسير في هيئة حيوان جملًا كان أو حمارًا أو حصانًا، لرفع الماء من البئر؛ يسمى في الحديدة "المَجلبة"، ويسمى "مِجلاب" في محافظة الضالع، وفي صعدة، ومأرب، والجوف يطلق عليه "المدَاح"، بفتح الميم، وفي ذمار يسمى "المَحور" بفتح الميم، وفي تصميمه الهندسي هو عبارة عن بناء منحدر الشكل يحتوي بداخله على بئر الماء، ثم منحدرا بميل خفيف يتيح للدابة أو الجملسحب الماء من البئر بسهولة وارتياح، كما يشير هذا التصميم بوضوح إلى حرص اليمنيين الأوائل على الحيوانات ورفقهم بها. ولعل "المرانع" تتواجد في عدد من المدن والمواطن القديمة في اليمن، ولكن تواجدها في مدينة صنعاء القديمة اشتهر أكثر. تشير بعض الإحصائيات إلى أن صنعاء القديمة كان تحتوي على 27 "مرنعًا"، وكانت تشكل حيزًا كبيرًا من الفضاء المفتوح داخل المدينة، لكن مع استحداثات البناء، تغيرت معادلة المساحة المفتوحة في المدينة حاليًا، إذ أصبحت تقدر فقط بـ(53%) من إجمالي مساحة المدينة بعد أن كانت بنسبة (56%) بداية عقد الثمانينات الفائت.

وسرد رئيس المكتب الفني لوزارة الثقافة أمثلة على استحداثات قام بها تجار ورجال أعمال في بنايات تاريخية في صنعاء القديمة، ومنها: "سمسرة البوعاني" التي كانت اليونسكو تكفلت بترميمها بين العامين (1988-1989) عن طريق من دوبها الإيطالي برفارتو. كان برفارتو مشدوها بجمال صنعاء لكن عددا من التجار ورجال الأعمال حولوا بعض السماسر القديمة إلى بنايات حديثة خاصة بهم كمراكز تجارية وسكنية يمكن ملاحظتها بسهولة.

نحن نكابد

الميزانية السنوية للهيئة العامة للمدن التاريخية لا تتجاوز 260 ألف ريال يمني، أي أقل من ألف دولار!

  اليمن زاخر بالمدن التاريخية؛ صنعاء واحدة من ضمن ثلاث مدن على قائمة التراث العالمي، وإلى جانب مدينتي شبام حضرموت وزبيد، هناك أيضًا عشرة مواقع على لائحة الانتظار. هذا الإرث التاريخي كله يفترض أن يقع تحت مسئولية الهيئة العامة للمدن التاريخية، التي لا تتجاوز ميزانيتها 260 ألف ريال يمني، أي أقل من ألف دولار فقط؛ "هذا يعني أننا نعمل بلا ميزانية تقريبًا"، قال خالد الإبراهيمي رئيس الهيئة لـ"خيوط". وأضاف: "نعمل حاليًا جاهدين على إيقاف الاستحداث، ومواجهة زحف الأسواق على الأحياء السكنية، وتنظيم حركة المرور في المدينة، رغم أننا نواجه تركة ثقيلة من التجاوزات التي تبدو مهمة التصدي لها شاقة للغاية، خاصة في ظل الحرب وما أحدثته من تبعات". وتبعات الحربلا تقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بحسب الإبراهيمي، بل هناك أضرار مباشرة وواضحة جراء قصف طيران التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، لكل من أحياء القاسمي والفليحي والمدرسة. وقبل ذلك تأثرت المناطق المحيطة بمبنى وزارة الدفاع في منطقة العُرضي بالتفجيرات خلال الهجوم الإرهابي على مبنى الوزارة في 5 ديسمبر 2013."هذه الجهود في إيقاف الاستحداث أثمرت مؤخرًا بتجاوب من قبل اليونسكو سنعمل على تعزيزه". قال الإبراهيمي.

التجريب في التراث تخريب

شمسان: لا يوجد تنسيق بين الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية، والمجالس المحلية، وأقسام الشرطة، ووزارتي الثقافة والأشغال العامة، ووزارة الأوقاف التي تمتلك أكبر حصة داخل المدينة، وأكثر جهة تتصرف بمنأى عن الضوابط المطلوبة للحفاظ على المدينة.

  "غالبية التعيينات لا تخضع لمعايير الكفاءة في المجال الثقافي والتاريخي بشكل عام. هناك ارتجالية ومحسوبية أنتجت كل هذا الخراب، وللأسف الشديد القانون لا يطبق إلّا على البسطاء". قال المستشار ياسين غالب، الذي أبدى أسفه أيضًا لغياب المعيارية في أداء الهيئة، إن الهيئة "ليس لديها إحصائيات واقعية بعدد المخالفات، سواءً كانت جسيمة، أو متوسطة، أو بسيطة".

  من جهته أشار المهندس جميل شمسان إلى "غياب التنسيق بين الجهات المعنية"، ابتداءً بالهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية، والمجالس المحلية، وأقسام الشرطة، ووزارتي الثقافة والأشغال العامة، ووزارة الأوقاف التي تعتبر أكبر جهة حكومية تمتلك أكبر حصة داخل المدينة، وأكثر جهة تتصرف بمنأى عن الضوابط المطلوبة للحفاظ على المدينة.

المدينة ضحية مثلنا

  يبدي المواطن عبد الله الماوري (50 سنة)، وهومن سكان صنعاء القديمة، امتعاضه الكبير من الجهات الحكومية المعنية بالحفاظ على المباني التاريخية؛ فالعديد من المباني آيلة للسقوط على مرأى ومسمع منها. وأشار الماوري إلى أن الكثير من أهالي صنعاء القديمة "انتقلوا للعيش في مناطق جديدة بسبب مشاكل كثيرة، على رأسها تكاليف إصدار تراخيص الصيانة والترميم". عائلات كثيرة انتقلت من صنعاء القديمة بسبب صعوبة الحصول على بعض الخدمات كصهاريج الماء التي لا تستطيع الشاحنات إدخالها إلى وسط المدينة القديمة. وبشأن المخالفات يضيف الماوري لـ"خيوط": "مخالفتنا كمواطنين بسيطة مقارنة بمخالفات الدولة نفسها وكبار التجار والمتنفذين". في نفس السياق قال محمد الغزالي وهو رجل سبعيني من سكان الأحياء المحيطة بسوق الملح: "هناك تغييرات كبيرة طرأت على المدينة، وبصفتي أحد السكان الأصليين، أشاهد إلى أي مدى طال المدينةَ العبث والاستحداث. سوق الملح وكل الأسواق كانت تتكون من طابق واحد لإتاحة المجال للرؤية، ووحدها "السماسر" كانت متعددة الطوابق. الآن تم تشويه هذا المخطط كليًا، إضافة لزحف الأسواق إلى داخل الأحياء السكنية. هذا لا يقلق راحة القاطنين وحسب، بل يؤثر على الأساس الحامل للبيوت التي يتم تحويل أدوارها الأرضية لدكاكين ومحلات تجارية".

 بابٌ أخير

  لا يبدو الحديث عن ضرورة إصدار لائحة تنفيذية لقانون الحفاظ على صنعاء القديمة أمرًا ترفيًّا مهما كانت الظروف، خاصة مع زحف الاستحداث القائم على قدم وساق، بل إن العمل على إصدارها في أسرع وقت مهمة وطنية ومعركة هدفها حماية تاريخ عاصمة اليمن. وقبل هذا وذاك سيبقى موضوع الحفاظ عليها نقطة اختبار قائمة أمام جدية ونزاهة السلطات المتعاقبة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English