19 يناير.. من ذكرى احتلال إلى انبلاج فجر صحيفة

عبدالباري قاسم مؤسس صحيفة "14 اكتوبر"، وأشياء أخرى
نجيب مقبل
January 19, 2022

19 يناير.. من ذكرى احتلال إلى انبلاج فجر صحيفة

عبدالباري قاسم مؤسس صحيفة "14 اكتوبر"، وأشياء أخرى
نجيب مقبل
January 19, 2022


19 يناير 1839م، هو ذكرى يوم الاحتلال البريطاني لعدن على يد القبطان هنس بعد معركة غير متكافئة مع المقاومين من أبناء عدن وبداية عهد استعماري دام 139 عامًا حتى نيل الاستقلال الناجز في 30 نوفمبر 1967م.

صادف هذا اليوم من عام 1968م -أي بعد 50 يومًا من قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية- إصدار العدد الأول من صحيفة وطنية رسمية لحكومة الاستقلال تحت اسم صحيفة (14 أكتوبر)، وفي هذا الاسم دلالة وطنية تخلد يوم قيام ثورة 14 أكتوبر عام 1963م من قمم ردفان.

المقصود بذلك التزامن بين التاريخين من 19 يناير ليكون إعلان إصدار الصحيفة باسم تاريخ ثورة ردفان 14 أكتوبر، إنما هو لمحو ذكرى الاحتلال البريطاني لعدن والجنوب، فكان إصدار أول عدد من هذه الصحيفة الرسمية في هذا اليوم (19 يناير) وباسم (14 أكتوبر) أحد تجليات الدولة الناشئة.

ولقد كان للشهيد عبدالباري قاسم يدٌ في اختيار الاسم وفي توقيت الإصدار، بحسب إفادات متداولة، ومنها إفادة أسرة الشهيد الراحل.

ومن المفارقة اللافتة للنظر أن يصدر قرار رئيس الجمهورية قحطان الشعبي القاضي بإنشاء مؤسسة (14 أكتوبر) للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، وقرار تعيين عضو القيادة العامة للجبهة القومية، السلطة الحاكمة التي استلمت مقاليد البلاد بعد الاستقلال، الأستاذ عبدالباري قاسم مديرًا عامًّا للمؤسسة ورئيسًا لتحرير الصحيفة الصادرة عنها، متأخرًا بيومين أو أكثر، فيما رئيس تحريرها وهيئة التحرير يمارسون مهامهم دون ذلك القرار حتى إنه نشر لاحقًا في الصحيفة.

إشكالية انتساب التأسيس بين الدولة والفرد

لم نتعود في الصحافة الوطنية الرسمية أن يقرن أسماء مؤسسي هذه الصحف كأفراد إذا كان لهم دور في التأسيس والإنشاء، ودومًا ما يقرن باسم الدولة ناكرة لأي دور للأشخاص السياسيين أو الإعلاميين في صنع الإنجاز.

وهذا أمر لم يكن ليشغلني لولا أنني ارتبطت بعلاقة زمالة وصداقة بأولاد أول رئيس تحرير لهذه الصحيفة، وهو الشهيد عبدالباري قاسم الذي قضى نحبه بحادثة الطائرة مع أخيه نور الدين محافظ عدن وثلة من أرقى وأجود سياسي الجبهة القومية السلطة الحاكمة آنذاك.

وجهة نظرنا في هيئة التحرير ولديَّ شخصيًّا، هو أن نعيد الاعتبار لكل من لحق به ظلم سياسي أو تاريخي أو نضالي ونعيد له حقه كقائد في الدولة أو رائد في أي مجال من مجالات العمل ومنها الصحافة.

وبجلوسي مع الدكتور خلدون عبدالباري الذي عرّفني به الكاتب والقاصّ والإعلامي الراحل عبدالرحمن عبدالخالق وكان صديق العائلة، فجمعني بهم لحاجة في نفوس الأبناء والأسرة.

ومنها ما رواه لي عن الوثائق التي يمتلكونها من إرث والدهم، تتعلق بجوانب تنظيمية وسياسية وإعلامية ومحاضر لاجتماعات قيادات الجبهة القومية، وشرح مفصل عن أدواره القيادية في التنظيم، وقصص وحكايات لمواقف وممارسات هذا القيادي الذي تشعر عائلته أنه غبن وظلم حيًّا وميتًا لا لشيء إلا لمواقفه العقلانية واختلافاته السياسية مع تيار مندفع في قيادة الدولة الفتية.

دارت بيننا نقاشات حول الدور الذي لعبه الشهيد عبدالباري قاسم في تأسيس الصحيفة والمؤسسة الناشئة، وزودوني بوثائق وقصاصات بخط يد الرجل أثبتت لي أن عبدالباري قاسم كان العقل السياسي والإداري وراء إنشاء وتأسيس وتسمية الصحيفة وتنظيم هيكلها الإداري والتجاري إلخ.

وقد كانت هذه المعلومات كنزًا وثائقيًّا يغري فضولي ومنحني فرصة أن أحاول إعطاء الرجل وقد غاب عن دنيانا شهيدًا ومغدورًا، حقَّه الشرعي في مشروعه الإعلامي والثقافي والسياسي بكونه المؤسس الفعلي لقيام مؤسسة وصحيفة (14 أكتوبر).

كان الشهيد عبدالباري قاسم يتمتع بحس ثقافي وأدبي وله كتابات منشورة في الأيام وكان كاتب قصة قبل أن يكون سياسيًّا وقياديًّا في سلطة الدولة الفتية، وعرف عنه رجاحة العقل واعتدال في الفكر والممارسة في وقت كان السائد من القول والفعل (العنف الثوري المنظم) إبان تثبيت سلطة الدولة، وكانت له مواقف سياسية اعتدالية أوصلته إلى تقديم استقالته عن رئاسة التحرير وعن بعض المناصب وإبداء عدم الرغبة في الاستمرار بقيادة المؤسسة والصحيفة الحديثة العهد لأسباب وتقاطعات يبدو أنها سياسية تتعارض مع موقفه الثقافي والإنساني والأخلاقي ومع توجهه السياسي المعتدل.

نعود لفكرة تأسيس الصحيفة، لأواصل الحديث عن قناعتي الشخصية التي ترسخت لدي بعد فحص هذه الوثائق والمعلومات التي زودني بها أبناء الشهيد عبدالباري عن تأسيس هذا الكيان الإعلامي الجديد بكينونته وأدواته ومساره وبنيته التنظيمية، ورأيت أن وراء هذا التأسيس العظيم للصحيفة رجل ضاع حقه من الذكر بين الجدران الصماء للدولة الوطنية التي حتمًا تنكر حق الأفراد في صناعة إنجازات فردية، فلم ينل حقه في توثيق اسمه كمؤسس لصحيفة (14 أكتوبر)، كما هو الحال في صحيفة (فتاة الجزيرة) لصاحبها المؤسس المحامي والرائد علي محمد لقمان، وصحيفة (الأيام) التي أسسها الوالد الراحل محمد علي باشراحيل، وصحيفة (الطريق) لمؤسسها الإعلامي الرائد محمد ناصر محمد مؤسس وكالة أنباء عدن، وغيرها من الصحف الأهلية الصادرة في عدن قبل الاستقلال.

الأمر هنا يختلط توصيفه لأن الصحف المذكورة آنفًا كانت صحفًا أهلية، بينما صحيفة (14 أكتوبر) كانت صحيفة دولة، وهنا يسهل غمط حق الرجل المؤسس بحقوق الدولة الصماء، المغلبة الحق الجمعي على حساب الحق الفردي.

وينتهي أمام ذلك حق الشهيد عبدالباري في نيل شرف تأسيس صحيفة، وقد أثبتت الوثائق أنه كان يخطط لمشروع المؤسسة والصحيفة على الورق قبل أن تنشأ بمجهوده الشخصي وبفكره ووسائله القيادية التي كانت تتقاطع من مجهود الدولة في الرعاية وتوفير الإمكانات والحماية.

ولدى توفر هذه القناعة لدي بضرورة إعادة الاعتبار لرجل ساهم في تأسيس صحيفة (14 أكتوبر) وإخراجها من طور التفكير إلى العمل، ومما توفر لدي من وثائق ومعلومات تثبت أحقية في تأسيس هذا الكيان الإعلامي، فاستأذنت أسرة الشهيد أن أصوّر هذه الوثائق والمعلومات لأنشرها، وبالفعل نشرت هذه الوثائق والمعلومات في أحد أعداد الصحيفة التي تزامنت مع ذكرى تأسيسها، لتكشف للقارئ المعاصر وللمهتمين بتاريخ الصحافة تصور الرجل عن مشروع متكامل للإنشاء من حيث شكل وقوام وأهداف ووظائف المؤسسة والصحيفة كفكرة على الورق حتى صارت واقعًا.

ولولا أن أرشيف الصحيفة الإلكتروني محتجز لدى ممثل الشركة لأسباب فنية ومالية، لولا ذلك لعرضت لكم هذه الذخيرة مما نشرته من وثائق ومعلومات.

القصد مما تقدم؛ أني وصلت إلى قناعة بأن الشهيد عبدالباري قاسم يستحق أن يعاد له الاعتبار ومنح الحق له بحمل لقب المؤسس لصحيفة (14 أكتوبر) دون أن يقلل من دور الدولة والتنظيم الحاكم -القيادة العامة للجبهة القومية- في تحمل مسؤوليتها الإجرائية والقانونية في الإنشاء، وهذا ما جاء في قرار رئيس الجمهورية آنذاك والصادر بتاريخ 21 يناير 1968م، بشأن إنشاء صحيفة (14 أكتوبر) وتعيين المدير العام ورئيس التحرير.

ولعلي حملت هذه القناعة معي بعد أن نشرت المادة بصفتي آنذاك نائبًا لرئيس تحرير الصحيفة، وحملت معي صورًا من كل الوثائق والمعلومات التي حصلت عليها من أولاد الراحل، ودخلت على رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير حينها الراحل أحمد الحبيشي حاملًا معي نسخة العدد التي قرأها واستحسن ما فيها من وثائق ومعلومات تنشر لأول مرة، وطرحت عليه فكرة أن نعطي للرجل حقه التاريخي باعتماد صورته واسمه وصفته بأنه مؤسس الصحيفة وأول رئيس لها، فوافق على مقترحي.

وهكذا خرج الحلم من تابوته المغبر إلى فضاء الحقيقة الحية، وعملنا ترويسة نشرت في أعلى الصفحة الأخيرة تتضمن صورته واسمه وصفته كمؤسس للصحيفة.

حملة شعواء وعمياء على الترويسة

استمر الحال كذلك في نشر ترويسة المؤسس عبدالباري القاسم زمنًا زهيدًا، حتى انهالت علينا موجة من الاستنكار والرفض وصلت حد الشتم المعلن من لدن الأستاذ الراحل نجيب قحطان الشعبي -رحمه الله- نجل أول رئيس للجمهورية، حيث استهجن ما قمنا به من إعادة الاعتبار لمؤسس صحيفة (14 أكتوبر)، واستخدم في معارضته كل الوسائل الممكنة وغير الممكنة على حد سواء في هجوم شخصي علينا في قيادة الصحيفة، سواء على أحمد الحبيشي أو علي شخصيًّا، إلى حد استخدام أسلوب التحريض بلغة النعرات المناطقية باعتبارنا غير جنوبيين ونهدف بتجميد شخص مناصب شمالية، وهي نبرة نشاز في استخدام المعارضة، واتُّهِمنا بأننا في قيادة الصحيفة نزيّف تاريخ عدن والجنوب، وغيرها كثير من حمى التلاسن اللفظي.

وحجة الأستاذ نجيب قحطان في معارضة ما عملناه هي أن المؤسس الحقيقي للصحيفة هو والده قحطان الشعبي رئيس الجمهورية؛ لأنه هو من أصدر القرار الجمهوري بإنشاء الصحيفة والتعيينيات فيها، وأن ما قمنا به هو تزييف للحقائق وللتاريخ.

ربما تبدو حجة الأستاذ الراحل نجيب قحطان -رحمة الله عليه- راجحة في نظره، وهو الذي ظل أمينًا في الدفاع عن تراث والده النضالي والسياسي والذي أجحف بحقه بعد الحركة التصحيحية في 22 يونيو 1969م، وكانت انقلابًا على سلطته كرئيس للجمهورية.

لكن وجهة نظرنا في هيئة التحرير ولدَيَّ شخصيًّا، هو أن نعيد الاعتبار لكل من لحق به ظلم سياسي أو تاريخي أو نضالي، ونعيد له حقه كقائد في الدولة أو رائد في أي مجال من مجالات العمل، ومنها الصحافة.

وكما لحق الظلم بحق رئيس الجمهورية السيد قحطان الشعبي وابن عمه عبداللطيف الشعبي رئيس الوزراء وغيرهما، فإننا من باب إرجاع الحقوق، شرعنا في أن نعيد للشهيد والسياسي والمثقف عبدالباري قاسم حقه ودوره في بناء وتأسيس صحيفة (14 أكتوبر).

ونحن هنا نلتقي مع الأستاذ الراحل نجيب قحطان في هدف إرجاع الحقوق، لكن الخلاف بيننا هو قناعتنا بأن إصدار القرار الجمهوري ليس وجيهًا لاعتماد رئيس دولة مؤسسًا لصحيفة!

ومما وصلنا من معلومات حول التصعيد الذي قاده الأستاذ الراحل نجيب قحطان حول ما قمنا به من نشر ترويسة المؤسس عبدالباري قاسم، شكواه ضدنا التي تقدم بها إلى وزير الإعلام في حكومة الوفاق الوطني حينها الأستاذ علي أحمد العمراني.

ومن طريف الردّ الحصيف الذي أجاب به الأستاذ العمراني قوله للراحل نجيب قحطان، كما ورد إلينا، والعهد على الراوي:

- يا أستاذ نجيب قحطان، والدكم الرئيس الراحل قحطان الشعبي أسس دولة، وأنت تبحث له عن تأسيس صحيفة!

أعتقد أن هذا الرد الحصيف وإن كان في طياته شيء من محاولة تقليل حدة التوتر التي انتابت الأستاذ الراحل نجيب قحطان، ولكنها كما أرى تحمل الحقيقة بعينها.

استمر نشر ترويسة المؤسس في الصحيفة حتى جاء يوم 2 ديسمبر من عام 2013م، وسماعنا القرارات الجمهورية بشأن تعيينات جديدة في قيادة المؤسسة تحت عنوان نظام المحاصصة الحزبية المتبعة حينها، وخروجنا من قيادة الصحيفة.

ومن المخجل أن ورد على لسان رئيس التحرير الجديد حينها قوله باللهجة العدنية الدارجة قولًا ومضمونًا والخالية من لباقة في القول أو كياسة في الطرح:

- أيش من مؤسس! وما هذه الخزعبلات!

وأمر بشطب الترويسة ولم ترَ النور من يومها حتى يومنا هذا.

بالنسبة لي كان الأمر يستحق العناء؛ لأن ضميري المهني والأخلاقي شعر بالاطمئنان لما قمنا به من إعادة اعتبار شخصية وطنية مرموقة ساهمت بالفكر والعمل في تأسيس هذه الصحيفة العريقة، ولديَّ من الرضا الذاتي بأنني أثرت هذه القضية للتاريخ وتحقيقًا للحق الأدبي والتاريخي لرجل كانت بصمات التأسيس ناصعة على صدر الصفحات الأولى للصحيفة، وفي البنية الأولية التي تشكلت منها صحيفة (14 أكتوبر).

فمن هو الشهيد عبدالباري قاسم؟

مما توفر من معلومات ضافية عن الشهيد الراحل يمكن سرد التالي:

- وُلد في السابع من نوفمبر 1926م، من أسرة عدنية بحي (كريتر) في مدينة عدن، ودرس في صباه القرآن الكريم، والفقه، والحديث، وعلوم اللغة على يد أبيه الذي كان عالمًا معروفًا، ثم درس المرحلتين: الابتدائية والمتوسطة، في عدد من مدارس مدينة عدن.

- تعيّن مدرِّسًا لمواد التربية الإسلامية واللغة العربية في إحدى مدارس مدينة عدن، ثم عمل محررًا صحفيًّا لفترة قصيرة في صحيفة (الأيام).

- سافر إلى المملكة العربية السعودية عام 1955م؛ حيث عمل هناك في إدارة إحدى الشركات حتى عام 1962م، ثم عاد إلى مدينة عدن، ومنها إلى مدينة تعز؛ حيث عيّن مسؤولًا إعلاميًّا لتنظيم (الجبهة القومية).

- عاد إلى مدينة عدن عام 1966م، ومنها سافر إلى حضرموت لتعزيز العمل التنظيمي لـ(الجبهة القومية) هناك، ثم تعين عام 1967م مسؤولًا تنظيميًّا للجبهة في مدينة (لودر)، وبلاد (العواذل)، ومناطق أخرى.

- تعيّن رئيسًا لمجلس الإدارة، ومديرًا عامًّا لمؤسسة (14 أكتوبر) للطباعة والنشر، ورئيسًا لتحرير صحيفة (14 أكتوبر) اليومية التي صدر العدد الأول منها بتاريخ 19/1/1968م بقرار من رئيس الجمهورية آنذاك قحطان الشعبي، وهو الذي اقترح هذا الاسم للمؤسسة وللصحيفة.

- وفي عام 1969م تعيّن قائدًا لمحافظة حضرموت، وكُلّف بإعادة ترتيب الأوضاع فيها؛ نظرًا لعلاقته الحسنة بأبناء المحافظة.

- تعيّن في العام نفسه وزيرًا للثقافة والإرشاد، ووزيرًا بالوكالة لوزارة التربية والتعليم، وعضوًا في اللجنة التنظيمية لـ(الجبهة القومية)، ثم استقال من منصبيه الوزاريين عام 1970م؛ فتعيّن بعدها سفيرًا مفوضًا فوق العادة لجمهورية اليمن الديمقراطية في الصومال، وافتتح في العام التالي سفارتي اليمن الديمقراطية في كلٍّ من: كينيا، وتنزانيا، وتعيّن سفيرًا غير مقيم، إضافة إلى عمله السابق.

موهبته الأدبية

ظهرت موهبته الأدبية في كتابة الشعر والقصة في سن مبكرة، ونشر عددًا من أعماله الأدبية في صحيفتي: (فتاة الجزيرة)، و(الأيام)، وشارك في تأسيس (النادي الثقافي) في مدينة عدن.

أدواره السياسية والنضالية

- التحق بحركة (القوميين العرب) منذ تأسيسها، والتحق بالفرقة اليمنية المتطوعة للدفاع عن فلسطين عام 1948م، وأثناء عمله في المملكة العربية السعودية سافر إلى مصر ضمن طلائع المتطوعين للدفاع عن مصر ضد العدوان الثلاثي عام 1956م، وبعد عودته إلى اليمن؛ شارك في تأسيس تنظيم (الجبهة القومية)، وشارك في مؤتمرها الأول، وفي وضع "الميثاق الوطني"، الدليل النظري للجبهة، ثم تنقل في عدد من المناصب الفكرية والتنظيمية داخل الجبهة، وعُرف باسمه التنظيمي (حسين عبّاد)، وفي المؤتمر الرابع للجبهة عام 1968م تعيّن عضوًا في القيادة العامة للجبهة، وعضوًا في اللجنة التنفيذية، واختير في العام نفسه مبعوثًا شخصيًّا للرئيس قحطان الشعبي إلى أندونيسيا؛ لإقامة علاقات دبلوماسية مع اليمن الديمقراطية.

- حضر عددًا من المؤتمرات المحلية والدولية؛ منها: المؤتمر القومي الأول لقادة الإعلام العربي، الذي عقد في مدينة القاهرة بدعوة من الرئيس جمال عبدالناصر عام 1968م، وترأس وفد اليمن الديمقراطية في مؤتمر البرلمانيين العرب الذي انعقد في القاهرة عام 1970م.

يكفي القول إن أول رئيس تحرير لصحيفة (14 أكتوبر) كان أديبًا وكاتبًا، وهذا الإرث خلف بعده ميزة أن يتعاقب على رئاسة تحريرها على مدى 54 عامًا أدباء وشعراء، أمثال الأديب والقاصّ إبراهيم الكاف، والشاعر أحمد الحبيشي، والشاعر والأديب نجيب مقبل، والكاتبة نادرة عبدالقدوس، والأديب والقاصّ محمد عمر بحاح كمدير للتحرير، والكاتب الفني الراحل شكيب عوض كنائب لرئيس التحرير، والقائمة تطول.

استشهد في 30 أبريل 1973م، مع عدد من الدبلوماسيين من أنصار الرئيس السابق قحطان الشعبي، في حادث الطائرة المتوجهة من مدينة عدن إلى محافظة حضرموت، والمعروفة بـ"طائرة الموت"، فانفجرت في أجواء محافظة شبوة، وذلك عقب انتهاء مؤتمر الدبلوماسيين الأول الذي دعت إليه القيادة السياسية في عهد الرئيس الراحل سالم ربيع علي (سالمين).

لمسات ختامية لا بد منها

أردت بهذه المناسبة ذكرى تأسيس صحيفة 14 أكتوبر الـ54، أن أذكّر الناس بهذا العَلَم الذي تمتع بميزة السياسي المحنك والقيادي الراجح في وقت كانت العقلانية خرقًا للعادة، وكان مبدأ الاجتثاث لما سمي بالعهد البائد سائدًا، والذي اتهم فيها أفضل كوادر الوطن وبالخصوص أبناء عدن؛ إما بالعمالة للاستعمار أو بالانتماء للعهد الاستعماري البائد، فيما كان هو يؤمن بالحوار والجدال والتقريب بين وجهات نظر رجال الثورة مع أناس لا دخل لهم بالاستعمار وأعوانه ولا ذنب لهم سوى أنهم عاشوا تلك الفترة وخدموا في وظيفة عامة لا صلة لها بما روج حينها ببقايا الاستعمار، وظل هذا السياسي الرفيع والمثقف الواعي يرقع فجوات هنا وهناك، رغم أن صوته الهادئ والعاقل لا يعجب الدم الحار الذي تملك البعض من الثوروجيين الذي آمنوا بمبدأ العنف الثوري المنظم خطأ لتصفية الحسابات مع الغير المخالف أو المحايد.

ولعل الحادثة التي رواها لي نجله د.خلدون بحمايته لعدد من المعتقلين من رجال الدين الذين اكتشف اعتقالهم في أبين، فذهب إلى معتقلهم ليعتذر عن خطأ اعتقالهم وراح يحاضر فيهم بالقول بأن ثمة عهدًا جديدًا وُلِد في أرض الجنوب بعد الاستقلال وأن على الجميع أن يتفهم هذا التحول الوطني، ثم أهدى كل واحد منهم هدية، عبارة فوطة وشميز ومبلغ مالي من جيبه، وأمر بإطلاق سراحهم بعدها.

بهذه المعقولة السياسية أدار الشهيد الرائد عبدالباري قاسم الكثير من أخطاء رجال الثورة المراهقين سياسيًّا.

ولعل المتصفح للأعداد الأولى من صحيفة (14 أكتوبر) وافتتاحياتها التي كتب الكثير منها تكشف عن توجهه الرشيد في وقت عصيب ومفصلي من قيام الدولة الوطنية بعد نضال كفاحي وسياسي، وشوائب وأخطاء كارثية كثيرًا ما تشوب الثورات وقيام الدول الوطنية الناشئة.

 فكان الشهيد عبدالباري رجل إطفاء بالقلم والموقف والممارسة.

فهو سليل العلم والثقافة وابن مدنية عدن وحضارتها، وذو عقل سياسي منفتح، يغلِّب المنطق على السلاح، ويرى أن الوقت قد حان لإيقاف نهر الدم الذي جرى في عهد الكفاح المسلح، وبأن يسود عهد الأمان السياسي والمجتمعي.

ولذلك فإن الرجل في كل منصب يتولاه يقف معارضًا لما يحدث ويقدم استقالاته المتكررة في تعبير عن رفضه لما يحدث من تهور سياسي ومراهقة ثورجية في تحليل الأمور والمواقف، وقد اصطدم الرجل وهو في في رومانسيته الوطنية هذه، بموج جارف من العقليات المتهورة، حتى أفضت به إلى الإقصاء خارج البلد سفيرًا في الصومال ثم شهيدًا في حادثة المطار الغادرة.

يقينًا أن بصمات التأسيس التي خلفها في الصحيفة خلفت وراءها شيئًا من العقلانية والمعقولية وتأصيل سياسة التنوير الثقافي والاجتماعي في سياسة الصحيفة التحريرية رغم الخضات السياسية التي عاشتها البلاد ودورات العنف التي اكتوت بها.

ورغم ذلك بقي في عمق الصفحات الداخلية للصحيفة سياسة تحريرية تنتصر للثقافة والأدب والشعر والتحقيقات المجتمعية والتنموية، وبقي فيها شيء مهم استمر من يوم تأسيسها حتى يومنا هذا، وهو ثقافة التنوير المجتمعي والثقافي والتاريخي والرياضي والإنساني، رغم الطابع الرسمي للصحيفة المعبر عن سياسة الدولة القائمة.

ويكفي القول إن أول رئيس تحرير لصحيفة (14 أكتوبر) كان أديبًا وكاتبًا، وهذا الإرث خلف بعده ميزة أن يتعاقب على رئاسة تحريرها على مدى 54 عامًا أدباء وشعراء، أمثال الأديب والقاصّ إبراهيم الكاف، والشاعر أحمد الحبيشي، والشاعر والأديب نجيب مقبل، والكاتبة نادرة عبدالقدوس، والأديب والقاصّ محمد عمر بحاح كمدير للتحرير، والكاتب الفني الراحل شكيب عوض كنائب لرئيس التحرير والقائمة تطول.

فالمزاوجة بين والثقافي والإعلامي حاضرة بقوة في قيادة الصحيفة منذ يوم تأسيسها.

يقول الأديب والقاصّ والصحفي المخضرم محمد عمر بحاح مدير التحرير الأسبق في سبعينيات القرن الماضي والذي كان له الفضل -بعد الله تعالى- في دخولي عالم صاحبة الجلالة في صيف عام 1977م كمحرر مساهم، في معرض ذكرياته عن أيامه الأولى في رحاب الصحيفة في مقالة بعنوان (ذات عدن.. ذات أكتوبر) المنشورة في صحيفة (14 أكتوبر) في عددها الصادر في 19 يناير 2018م:

"عبدالباري قاسم، مهندس مشروع إنشاء مؤسسة 14 أكتوبر للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، والتي صدرت عنها صحيفة (14 أكتوبر) في 19 يناير 1967م، وكان قرار إنشائها من أول القرارات التي صدرت عن رئيس الجمهورية (قحطان الشعبي) بعد الاستقلال".

وفي معرض حديثه عن الدور الثقافي للصحيفة يقول:

"... كان عندنا في هيئة تحرير (14 أكتوبر) مشروعٌ ثقافيّ، ورؤية ثقافية بأن المشروع السياسي للثورة الوطنية الديمقراطية لا يمكن أن يكتب له النجاح دون مشروع ثقافي، وكنا نعتقد أن عماد هذا المشروع ليس النظرية المجردة والمحلقة في الخيال، بل في الثقافة بمعناها الواسع؛ الأدب، الفن، الشعر، القصة، النقد، وهكذا وجد الأدباء والكتاب في الصحيفة فضاء مفتوحًا لكل الاتجاهات والأشكال الأدبية".

وهذا ما يطابق رؤيتنا اليوم بعد أكثر من 40 عامًا، بأن مدخل الإعلام الصحيح هو الثقافة، وأن الصحافة الرسمية بما تحمله من قيود حكومية، فيها ثمة مساحة داخلية لصنع مخرجات للتنوير في مختلف المجالات والاتجاهات، وهذا ما يفسر انخراط كثير من المثقفين والمبدعين في صحيفة (14 أكتوبر) وتمسكهم بهذا الحبل المتين (الثقافة والتنوير) رغم التقلبات السياسية الحادة ودورات العنف التي كان أولُّ ضحاياها الصحفيين.

ومن محاسن الأقدار أن تكون صفحتا الثقافة والرياضة من أساسيات الإصدار اليومي في صحيفة (14 أكتوبر) منذ يوم التأسيس، ولم تحد عن هذا الخط الجميل قيد أنملة، فربما يتأخر إصدار أحدهما يومًا بسبب ظروف إعلانية أو زحمة مواد، لكنها لا تغيب عن مشهد الإصدار اليومي.

ولعل ما يعزز هذه القناعة، تلك الغيرة الثقافية التي تولدت في قيادات الصحيفة المتعاقبين والمنتمين في الأصل للإبداع والثقافة منذ أول رئيس تحرير: عبدالباري قاسم حتى العبدلله آخر رؤساء التحرير.


•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English