وحده جبل بعدان ظل حارس المدينة الأمين والثابت المتبقي فيها الذي لم يتغير، ولم تصل إليه أيدي البشر، ومشاريعهم العشوائية.
خمس سنوات شهدتها المدينة، تعتبر هي الأسوأ في تاريخها، من حيث التوسع العشوائي للعمران على حساب المساحات الخضراء التي لطالما تغنى بها الشعراء، والتي كانت تعتبر رئة اليمن الجميلة.
تقع محافظة إب وسط اليمن، تبعد عن العاصمة صنعاء مسافة تقدر 185 كم، وتقدر مساحتها الإجمالية 6000 كيلو متر مربع.
زحف عمراني.. تخطيط عشوائي
بدأت المحافظة تعاني من الزحف العمراني الذي يغطي وجهها الجميل منذ عشر سنوات، ولكنه تضاعف بشكل مخيف خلال السنوات الخمس الماضية؛ كونها أصبحت ملجأ للكثير من النازحين، والفارين من لظى الحرب ولهيبها، والباحثين عن مناطق آمنة لتأسيس مشاريعهم، فرأس المال يبحث دائمًا عن مكان آمن، وحيثما وجد البشر، وجدت المشاريع.
في هذا الصدد يقول المواطن مالك محمد لـ"خيوط": "يمكنك أن ترى في هذه المدينة كل الوجوه، من كل المحافظات، إذ توافد إليها النازحون في بداية الحرب من عدن وأبين، ثم من صنعاء، وحدث نزوح شبه جماعي كثيف من محافظة تعز إلى إب".
يضيف قائلًا بنبرة حزينة: "بدأ كل شيء يتغير، ارتفاع الأسعار، وزحمة الطرقات، وإيجاد شقة للإيجار أصبح شيئًا نادرًا".
ابتسم ابتسامة باردة وأردف قائلًا: "نحن نرحب بالجميع، ولا نرفض أي أحد يصل إلى المدينة، ولكننا مستاؤون من التوسع العمراني الذي أكل وجه المدينة، وقضى على كل الأماكن الجميلة فيها، وأفقد الكثير منا القدرة على العيش؛ لأن الارتفاع في الأسعار أصبح شيئًا لا يطاق ولا يمكننا تحمله".
السحول، جبل ربي، الأكمة التي كانت تتزين بالخضرة الفاتنة كعروس في ليلة عرسها كل ربيع يحل على هذه المدينة، والطرقات التي لم تكن مزدحمة بهذا الشكل من قبل؛ كانت المدة الزمنية، التي يذهب فيها المهندس سليمان المنتصر من منطقة "مشورة" إلى السوق المركزي في قلب المدينة، لا تتجاوز نصف ساعة، أما الآن فيحتاج لثلاث ساعات للوصول إلى المكان المقصود.
سليمان المنتصر، مهندس معماري، يدير مكتب للاستشارات الهندسية والمقاولات في مدينة إب، يتحدث بصدمة بالغة عن التشوه الذي لحق بالمدينة، وغياب الرقابة على البناء، والعشوائية التي تأكل قلب المدينة، وتقطع شرايينها.
سلكت منطقة السحول، التي عرفناها دائمًا بخضرتها وجمالها، الطريق الذي سلكته المدينة من قبل، ليتراوح سعر اللبنة هناك في حدود عشرين مليون ريال، المثير للاهتمام هي حالة التحايل على القوانين التي تمنع البناء في الأراضي الزراعية، وذلك بأن يتوقف مالك الأرض عن زراعتها لعام أو عامين، ليتم بيع الأرض لاحقًا
يقول سليمان لـ"خيوط": "الزحف العشوائي للعمران أكل الأخضر واليابس، إذ لا توجد مخططات للبناء، ولا أحد يعتمد على التخطيط إطلاقًا، حيث أصبح كل شبر في هذه المدينة قابلًا للبيع".
ارتفاع أسعار الأراضي
على صعيد متصل، ضاعف الازدحام السكاني من أسعار الأراضي بشكل كبير جدًّا، إذ بلغ سعر اللبنة الواحدة في منطقة الدائري لـ100 مليون ريال، وبلغ السعر في الثلاثين 60 مليون ريال.
سلكت منطقة السحول التي عرفناها دائمًا بخضرتها وجمالها الطريق الذي سلكته المدينة من قبل، ليتراوح سعر اللبنة هناك في حدود عشرين مليون ريال، المثير للاهتمام هي حالة التحايل على القوانين التي تمنع البناء في الأراضي الزراعية، وذلك بأن يتوقف مالك الأرض عن زراعتها لعام أو عامين حتى تصبح أرض مجدبة (صالبة)، لا يبدو عليها أنها كانت أرضًا زراعية من قبل، ليتم بيعها لاحقًا لغرض الإنشاءات والبناء.
أبرز المشاكل التي تواجهها المدينة اليوم تكمن في الازدحام السكاني، وضعف البنية التحتية، والتوسع العشوائي للعمران، إضافةً إلى الارتفاع المخيف في الأسعار.
تجدر الإشارة إلى أن آخر تخطيط معتمَد للمدينة، يعود تاريخه إلى فترة حكم الحمدي في السبعينيات من القرن المنصرم، ولم يصدر بعدها أي تخطيط معتمد، باستثناء جزء صغير لمنطقة مشورة السياحية، الذي لم يكن تخطيطًا بالمواصفات المطلوبة.
تداخل العتيق بالحديث
تعتبر مدينة جبلة التي تنام كملكة في المناطق الشرقية لمدينة إب، إحدى قلاع التراث المعماري في اليمن، وأهم المناطق السياحية في المدينة، ومع ذلك لم يشفع لها تاريخها العظيم بأن تسلم من الزحف العشوائي، والبناء الذي يشوه وجهها بطريقة مدمرة، مبانيها التي يتجاوز عمرها 1200 سنة تتداخل جمبًا إلى جنب مع بنايات حديثة أخلت بجمال المدينة وشوهتها.
التوسع العمراني لا يشكل خطرًا، ولا مشكلة في أي مدينة بالعالم، بل هو رمز من رموز النهضة، ولكنه يصبح مشكلة وخطرًا حين يحدث بدون تخطيط، وبدون بنية تحتية، أو بنية تحتية متهالكة، ما يتسبب بتدمير الطبيعة الخضراء التي تمتاز بها المدينة، وتشوه تاريخها وتراثها أيضًا.