الحرب والجوع يدفعان كبار السن للعمل الشاق

حين يكون على الشيخوخة أن تغض الطرف عن ترف التقاعد
طلال محمد
September 19, 2020

الحرب والجوع يدفعان كبار السن للعمل الشاق

حين يكون على الشيخوخة أن تغض الطرف عن ترف التقاعد
طلال محمد
September 19, 2020

بجسمٍ نحيلٍ، يَجرّ محمد قاسم الشراعي (61 سنة)، عربته الصغيرة كل صباح في أحد شوارع مدينة إب (وسط اليمن)، ليبحث عن مصدر دخل لإعالة أسرته.

كعادته كل صباح يغادر الشراعي منزله، متجهًا نحو سوق المركزي في المدينة القديمة، لحمل البضائع الثقيلة من السوق بمبلغٍ ماليٍ زهيد لا يتعدى 200 ريال للمشوار.

في حديثه لـ"خيوط"، يقول الشراعي، وهو أبٌ لستِّ بناتٍ ويسكن شقة بالإيجار وسط المدينة، إن ظروف الحياة أجبرته على العمل لتوفير نفقات أسرته، وتسديد إيجار الشقة. مشيرًا إلى أنه يعمل من الصباح حتى الظهيرة، قرابة ثماني ساعات في اليوم، ويحصل على مبلغ 1200 ريال، وفي أحسن الأحوال 1800 ريال.

  كان الشراعي جنديًّا في وزارة الدفاع بالعاصمة صنعاء، لكن منذ توقف راتبه قبل ما يقارب خمسة أعوام، صار يعمل بكدٍّ وتعب كل يوم، وذلك هو الخيار الوحيد لتوفير أدنى ما يسد احتياجات أسرته.

   بصوتٍ مليء بالحسرة يتساءل الجندي القديم: «من أين لنا، ومن الذي سينفق عليك وأنت قاعد في البيت؟!»، ومع إطالة أمد الحرب في البلاد، يزداد الوضع المعيشي سوءًا بالنسبة للشراعي ومن هم في وضعه، خاصة الأشهر الأخيرة، جراء انقطاع المساعدات الإغاثية. 

  يُشير الشراعي إلى أنه كان في حالٍ أفضل "نسبيًّا"، عندما كان يتسلم، كل شهرٍ أو شهرين، سلةً غذائيةً، مقدمة من برنامج الغذاء العالمي، التي بالكاد كانت تسد رمق أسرته، لافتًا في الوقت ذاته، إلى أنه لم يتسلم أية مساعدات إغاثية منذ أربعة أشهر.

  يعكس الوضع الذي يعيشه محمد الشراعي، مدى تأثر ملايين اليمنيين جراء تقليص الأمم المتحدة دعمها الإغاثي لليمن، في ظل الحرب المدمّرة التي تمضي في عامها السادس.

  وطال تأثير الحرب في اليمن كل فئات وشرائح المجتمع، بمن فيهم كبار السن، إذ يضطر كثير ممن هم في سن التقاعد إلى العمل في مهن شاقة، لإعالة أسرهم وتأمين قوت يومهم.

  ويعاني اليمن أكبر أزمة إنسانية في العالم مع حاجة 80% من السكان إلى المساعدات الإنسانية والحماية، كما أن 10 ملايين شخص على عتبة المجاعة، وسبعة ملايين يعانون من سوء التغذية، وفقًا لإحصاءات عن الأمم المتحدة في أغسطس/ آب 2020.

  وفي منتصف يوليو/ تموز 2020، حذرت الأمم المتحدة من مجاعة محتملة «خلال الأسابيع القليلة المقبلة»، مشيرة إلى أن هناك 20 مليون يمني يعانون حاليًّا من انعدام الأمن الغذائي (من أصل 30 مليونًا) في ظل جائحة الوباء العالمي كورونا.

  على الشارع ذاته، وعلى بعد أمتار من المكان الذي يجلس فيه الشراعي، يقف طابور من العمال على الرصيف (حراج العمال)، كثير منهم مسنون، في انتظار فرصة عمل يومية، يسدون بها رمق جوعهم وإعالة أسرهم.

  "حراج العُمَّال" في مدينة إب هو بيئة مصغرة تُلخّص معاناة السواد الأعظم من سكان المدينة، ومدى تأثير الحرب عليهم، وكيف سلبتهم قوت يومهم، وأضرّت بدخلهم المتواضع الذي يكسبونه من مهن شاقة، خاصة بعد توقف صراف الرواتب الحكومية، وتدهور سعر العملة المحلية.

  يقف العشرات من العُمّال شاردي الأذهان، يحدقون في وجوه المارة، لعل بينهم شخصًا يُريد عاملًا، فيتسابقون على أية فرصة عمل تؤمن غذاء اليوم لعائلاتهم.

معاناة وحرمان

علي البيضاني، عامل طلاء في الستينيات من العمر، وأحد العُمَّال الذين يفترشون الرصيف كل صباح، منذ الساعة الخامسة، بحثاً عن مصدر دخل لإعالة أفراد أسرته.

  يعول البيضاني 10 أشخاص بمن فيهم أحفاده. يقول لـ"خيوط" إنه يغادر منزله صباحَ كلِّ يومٍ بعد صلاة الفجر، متوجهًا إلى "حراج العمّال" للبحث عن عمل، لكنه يعود إلى منزله في أغلب الأيام بدون عمل. لا تفوته أيضًا الإشارة إلى أن وضعه العملي قبل الحرب كان أحسن حالًا، حيث كان يعمل من خمسةٍ إلى أربعة أيام من الأسبوع. 

  يعاني البيضاني من مرضِ السُّكَّر، ويسكن في شقة متواضعة بالإيجار على أطراف المدينة، ما يضطره لمواصلة العمل رغم كبر سنه، من أجل إطعام أسرته وتوفير قيمة الدواء له ولزوجته المُسِنّة، حسب قوله. يتحدث الرجل المُسنّ بلغة ممزوجة بالأسى والتعب، وتَظهر على ملامح وجهه ملامح الشقاء والحرمان. 

   حال الشراعي، والبيضاني، هو مثال لمشهد يكاد يتكرر في معظم مناطق اليمن، إذ يعمل المسنّون في أعمال شاقة، كأعمال البناء أو حمل البضائع، وهو ما بات ملحوظًا في السنوات الأخيرة، مع تفاقم الوضع الاقتصادي المتأزم وانقطاع مصادر دخل الكثير من العائلات، بتوقف مرتبات موظفي القطاع العام، وتقليص فرص العمل في الكثير من مؤسسات القطاع الخاص، إلى جانب توقف المساعدات الإغاثية جراء انعدام التمويل.

آثار نفسية وجسدية

  عن الآثار السلبية جسديًّا ونفسيًّا على كبار السن جراء انخراطهم في الأعمال الشاقة، يقول الدكتور مصطفى العبسي، إن العمل الشاق لكبار السن له عدة تأثيرات جسدية ونفسية، خاصة في ظروف الحرب.

    وفي حديثه لـ"خيوط" يؤكد البروفيسور العبسي، وهو خبير في الطب السلوكي والعلوم العصبية بجامعة مينسوتا الأمريكية، أن الأعمال الشاقة بالنسبة لكبار السن في ظل ظروف أمنية واقتصادية متدهورة، «تضاعف الإجهاد النفسي والبدني، والإحساس بالضيم والغضب من الظروف المحيطة، وقلة السلامة والعائد المحدود».

  كما يشير إلى أن العمل المرهق، بالنسبة للمُسنّين، يزيد من حدة التوتر والانفعالات السلبية والإحساس بالقنوط واليأس، وأن «كل هذه مشاعر تسهم في زيادة خطر أمراض عدة، بما فيها أمراض القلب والشرايين والسكتة الدماغية، وقد تؤدي إلى اضطرابات نفسية شديدة، وإلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق، خاصة إذا كان العمل يتطلب جهدًا بدنيًّا شاقًّا».

  ويضيف أن ممارسة كبار السن للعمل بحد ذاته «ليس ضارًّا»، لكن بشرط توافر السلامة والأمان، وتوافر معنى إيجابي للشخص من هذا العمل. غير أن الوضع يختلف عندما تكون الأحوال الأمنية صعبة أو تنطوي على مخاطر وعنف، كما هي الأوضاع في وقت الحرب.

ويتابع خبير الطب السلوكي: «بالنسبة للوضع في اليمن مع ظروف الحرب والاضطرابات الأمنية الخطيرة، فإن مصادر الخطر لا تأتي من العمل بحد ذاته، بل من الظروف المحيطة به، وفي هذه الحالة نتحدث عن خطر أكبر بكثير، سواءً للكبار أو للأطفال، وهو الوضع الأمني وافتقاد السلامة، والخوف والهلع في حالة التعرض لأعمال عنف أو مشاهدتها أو مشاهدة ضحاياها». 

ومع استمرار الحرب، تستمر الأسعار في الارتفاع، حيث تستمر قيمة الريال اليمني في التدهور مقابل الدولار، والعملات الأجنبية الأخرى. 


•••
طلال محمد

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English