احترام العقل، لا تقديسه

في تفسير الظواهر الخارقة وقدرة العقل على استيعابها
أحمد صالح الجبلي
August 26, 2020

احترام العقل، لا تقديسه

في تفسير الظواهر الخارقة وقدرة العقل على استيعابها
أحمد صالح الجبلي
August 26, 2020

"أحب عقلي لكن..  

لا خاليًا من جنون.."

سعيد عقل

في مقال سابق بعنوان "العقل.. التعليم"، تطرقت إلى قيمة العقل الرفيعة، ولكني أخشى أن يفهم مما كتبته أنني أمجّد العقل إلى حدّ التقديس؛ أي تنزيه العقل عن كل خطأ أو فساد رأي. لا! للعقل بالغ الاحترام، ولكن من المَعيب على العقل تقديس ذاته! ذلك أنه محدود بالمعرفة الراهنة التي تحيط به. لذلك ترافق المعرفةَ، التي يكتسبها العقل، أوهامٌ يحسبها العقل من الحقائق التي لا يأتيها الباطل من أية جهة كانت. الأمثلة كثيرة على ذلك، ولكني هنا أضرب مثلًا واحدًا يعرفه القاصي والدّاني. عندما تشرق الشمس نقول: طلعت الشمس، أو الشمس طالعة. المعنى واضح: الشمس تقبع في مكان ما "تحت"، ثم تطلع من "تحت" لتشرق علينا. فبناءً على حالة المعرفة آنذاك، جرت صياغة، أو استخدمت اللفظة المشتقة من المصدر "طلوع". ومع تقدّم المعرفة، توصل العقل إلى أن الأرض كروية، وتدور حول الشمس وحول نفسها، بينما الشمس ثابتة نسبيًّا، أو بالأصح معرفتنا الراهنة تقول بذلك. غير أننا ما زلنا نستخدم اللفظة "طلعت"، و(لم نجد!) لفظة تعبر عن الحالة الحقيقية لعلاقة الشمس بالأرض بما نحن بصدده؛ أليس من قبيل الوهم قولنا: "الشمس طالعة"؟ بلى!  

العقل محدود بحدود معارفه الراهنة.

من جهة أخرى، نسمع عن الكثير مما يرويه بعضهم، وهو ما لا تقوى قدراتنا العقلية الراهنة على قَبوله أو الاتفاق معه؛ فالبعض يعدّه حقائقَ ثابتة، بينما يعدّه آخرون من قبيل الأوهام. نحن هنا في مواجهة "علم التِلِباثيا"، أي المعرفة عن بعد، أو ذوي القدرات "فوق الحاسة".

عَلماني يؤمن بـ"الكرامات" 

ماذا بشأن ما يحكى عن "كرامات" بعض "الأولياء": هذا يسير على الماء، على البحر، وذاك يصلي المغرب في عدن أو في صنعاء أو في أي مكانٍ ما في اليمن، ثم يصلّي العشاء في المسجد الحرام في مكة! بل وربما يصلي الفرض ذاته، المغرب أو العشاء، في المكانين في آن واحد! والأمثلة كثيرة في هذا المضمار...، طبعًا هنا لا أتحدث عن أعمال الشعوذة أو الألعاب البهلوانية التي يمارسها بعضهم، ثم يعدّها بعض السذج من "الكرامات". 

ولكن ما هي "الكرامات" إن لم تكن مظاهر وممارسات لقدرات استثنائية لدى البعض، تسمى أحيانًا "قدرات فوق حسية"؛ أي لا تستطيع أن تقوم بها حواسنا الخمس المعروفة، ولذلك هي أعلى منها. من ذلك ما يعرف عن البعض قدرتهم على تحديد الموقع المناسب لحفر البئر المطلوبة، وهو واقفٌ معك على سطحها. ذلك أنه "يرى" في عمق باطن الأرض ما لا يراه الآخرون. ولفظة "يرى" في هذه الجملة لا يجوز حصرها على القدرة البصرية المعتادة، وإنما هو "يرى" بكيفية لا نمتلكها نحن. 

هي مظاهر وممارسات معروفة منذ القديم، يهتم بها علم "الباراسايكولوجيا". أما آخِر ما يُروى، أو بالأصح آخِر ما عرفته في هذا الشأن، ما عرضته القناة الفضائية الروسية في عام 2017، في برنامج "رحلة في الذاكرة" الذي يقدمه الإعلامي خالد الرشد، عندما استضاف نائب رئيس لجنة أمن الدولة السوفيتية (كي جي بي) – حسب تقديمه، ويصرف النظر عن الأسباب والدوافع التي حدت به إلى استضافته في هذا الوقت على وجه التحديد– والذي روى أكثر من تجربة لذوي "القدرات فوق الحسية"، منها التالية: خلاصة الرواية أن الشخص صاحب القدرات فوق الحسية، كان في إحدى مدن أمريكا الجنوبية، وكان يصدر أوامره لشخص آخر في الاتحاد السوفيتي، الذي كان يستجيب لكل الأوامر وينفّذها على أكمل وجه. فنحن أمام تأثير عن بعد بآلاف الكيلومترات، ولو أن بضعة أمتار، تفصل بين الطرفين، تكفي لتوضيح الظاهرة.   

كما صرّح ضيف البرنامج أن جهاز الاستخبارات له صلات عديدة بمثل هؤلاء أصحاب القدرات الاستثنائية، فوق الحسية، وأنهم يستفيدون من قدراتهم تلك في عمل الاستخبارات، وأن ذلك يحصل أيضًا في العديد من استخبارات الدول.   

يتنبأ بعض العلماء بأن المستقبل سوف يشهد حقائق تعد اليوم من قبيل المحال، مثل انتقال الشخص من مكان إلى آخر بدون أية وسائط، كالسيارة والطائرة...

ما له علاقة بهذه المقالة هو الكيفية التي يستقبل بها عقلنا المحترم مثل هذه الظواهر فوق الحسية. أيصدّقها، وهو على الأرجح لا يقوى على تفسيرها، أم ينكرها، أم لا هذه ولا تلك، ويظل لامباليًا حيالها؟ أنا هنا أتوجه إلى العَلماني – والأكثر دقة: العالَماني (نسبة إلى العالَم) – الذي يحترم العقل، وليس إلا العقل! وأنا معه في ضرورة احترام العقل. ولكنّا هنا في معضلة، ذلك أن العقل في محنة؛ لأنه لا يتمكن إلى الآن من امتلاك حقيقة سرّ هذه الظواهر غير المعتاد عليها هذا العقل الراهن، بما يمتلكه من معرفة راهنة. هذا من جهة، وهو، في الوقت نفسه، من جهة أخرى، لا يستطيع نكران هذه الحقائق. والخلاصة أنّ على العقل تصديق غير المعقول، وَفق قدراته المعرفية الراهنة. والخلاصة الأخرى أنّ احترام العقل لا يجوز أن يقود إلى تقديسه، أي تنزيهه عن العيوب، والاعتقاد بكماله المطلق.  

أمّا محاولة تفسير مثل هذه الظواهر فأمرها عسير بالطبع، إن لم يكن مستحيلًا اليوم. ولكن لنحاول. ولنأخذ ذلك الرجل الذي تحدث عنه ضيف البرنامج المشار إليه أعلاه. فثمة احتمالان: إما أن الرجل يمتلك تلك القدرة البصرية ليرى ما يحدث في مكان يبعد عنه كل تلك المسافات البعيدة، أو أنه هو نفسُه "ينتقل" بكيفية ما، بقدرة ما، إلى المكان المطلوب منه شرح ما يدور فيه من حركة، أو التأثير في الآخر في ذلك المكان.  

العلم، من جانبه يحاول، أو بالأصح يعمل منذ عقود على تفسير العديد من الظواهر، معتمدًا على ترسانته المعرفية المتطورة باستمرار. ومما له علاقة بهذا الشأن، ما أثبته العِلم من أنّ إلكترونات الذرة يتواجد كلٌّ منها في مكانين في الوقت نفسه. كما يتنبأ بعض العلماء بأن المستقبل سوف يشهد حقائق تعد اليوم من قبيل المحال، مثل انتقال الشخص من مكان إلى آخر بدون أية وسائط، كالسيارة والطائرة والصاروخ... وغيرها، سوف ينتقل عبر الأثير وفي غضون لحظات معدودة! 

(وللمزيد من هذه المعلومات، يمكن العودة إلى كتاب "فيزياء المستحيل" إصدار "عالم المعرفة" في الكويت، العدد 399، العام 2013).

ولكن ماذا لو نقلنا المسألة برمّتها إلى مكان آخر؛ إلى قدرات المخ. ذلك أن نسبة خلايا المخ النشيطة التي نستفيد منها في حياتنا اليومية لا تتعدى نسبتها، عند أكثر المتفائلين، العشرة بالمئة من العدد الكلي لخلايا المخ. فماذا لو نشطت خلايا أخرى؟ ما تأثيرُها على الحواس التي نمتلكها؟ هل سنمتلك حواسًا أخرى إضافةً إلى حواسنا المعروفة، أم ستتضاعف قدرات هذه الحواس، أم ستتوافر كل هذه القدرات الجديدة والمضاعفة؟         

غير أن زيادة قدرات الحواس، في اتجاه معين، قد يقودنا إلى التهلكة، أو إلى ما هو أسوأ بكثير من التهلكة! ولنتخيل فقط أن قدراتنا السمعية تضاعفت إلى الحد الذي نستطيع معه، وليس لنا خيار آخر، سماع حتى دبيب النمل وغيرها من الأصوات الدقيقة للغاية؟!  

"إذا لم تبدُ الفكرة من البداية عبثية، فلا أمل فيها" 

ألبرت آينشتاين


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English