"تقويض مستقبل" الملايين من أطفال اليمن

تقرير جديد يوثق انتهاكات أطراف الحرب في قطاع التعليم
صامد السامعي
August 21, 2020

"تقويض مستقبل" الملايين من أطفال اليمن

تقرير جديد يوثق انتهاكات أطراف الحرب في قطاع التعليم
صامد السامعي
August 21, 2020
ت: أحمد الباشا

خلال أقل من شهر، يبدأ العام الدراسي الجديد في اليمن، بينما لا يزال 500 طفل وطفلة من طلبة مدرسة الثورة في الحديدة، غير قادرين على العودة إلى مدرستهم، التي تتعرض للقصف بشكل مستمر منذ عامين. ومثلهم ملايين الطلبة يواجهون مستقبلًا مجهولًا، حيث توقفت آلاف المدارس عن أداء وظيفتها بسبب دمار ومخاطر الحرب.

لم تشهد اليمن في عصرها الحديث تهديدًا لمستقبلها كما هو اليوم. هذا هو العام السادس من الحرب التي تسببت بأكبر كارثة إنسانية في العالم. وبينما يستمر النزاع ويتعقد بدخول أطراف جديدة أو بتفاقم صراعات داخلية، بات مستقبل ملايين الاطفال مجهولًا أو على المحك بفعل استهداف المدارس. وبحسب منظمة مواطنة لحقوق الإنسان ومركز سيزفاير لحقوق الإنسان: أصبح "واقع العملية التعليمية في البلد أكثر مأساوية من أي وقت مضى".

انفجر النزاع في اليمن خريف العام 2014، عندما أقدمت جماعة أنصار الله (الحوثيين) على اقتحام العاصمة صنعاء وبسط نفوذها بالقوة، وتصاعد في ربيع العام 2015، مع بدء العمليات العسكرية للتحالف بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بطلب من الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا.

   الثلاثاء 18 أغسطس/ آب 2020، أصدرت منظمة مواطنة لحقوق الإنسان ومركز "سيزفاير"، تقريرًا بعنوان "تقويض المستقبل"، يوثق الهجمات على المدارس في اليمن، للفترة من مارس/ آذار 2015، إلى ديسمبر/ كانون الأول 2019. 

    ذكر التقرير مئات الانتهاكات الجسيمة بحق التعليم في اليمن، وبحق مستقبل أطفاله وشبابه، لافتًا إلى أن "أطراف الحرب مارست أشكالًا مختلفة من الاعتداءات والانتهاكات بحق المدارس والمرافق التعليمية".

خلقت الحرب مزيدًا من التحديات أمام أطفال اليمن المحرومين من أغلب مقومات الحياة، وألقت بهم خارج المدارس. كما تسبَّبت بدمار غير مسبوق للمنظومة التعليمية في البلاد. على الرغم من ذلك، يبذل أغلب المواطنين اليمنيين جهودًا مضنية في سبيل الحفاظ على مستقبل أبنائهم.

في محافظة الحديدة، درست إدارة مدرسة "الثورة" البدائل المناسبة لإعادة الدراسة، عندما قررت بحلول نهاية فبراير/ شباط 2018، استئناف العملية التعليمية للطلبة في منشأة بعيدة نسبيًّا عن خطر المواجهات المسلحة.

وبحسب تقرير "مواطنة" و"سيزفاير"، استُؤنفت العملية التعليمية لمئات الأطفال في "مسجد السنة"، لكنها توقفت بعد أسابيع قليلة؛ فقد احتدمت المواجهات العسكرية، ودخلت المنطقة بأكملها في خط التماس، واضطر الأهالي إلى النزوح. 

وعندما عاد الاستقرار النسبي إلى المنطقة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، وعاد عدد من الأهالي إلى منازلهم، قررت إدارة المدرسة استئناف العملية التعليمية للمرة الثانية في (مسجد السبعة العليا)، إلا أن عدد الطلبة الذين عادوا لتلقي دروسهم لم يتجاوز (150 طالب وطالبة)؛ أي قرابة ثلث عددهم الإجمالي.

تقع مدرسة "الثورة" الأساسية للبنين والبنات في مديرية حيس الواقعة جنوب محافظة الحديدة غربي اليمن، وتتكون من ستة فصول، إضافة إلى مبنى الإدارة. بدأت قصة معاناة طلبتها من اللحظة التي وصلت فيها نيران أطراف الصراع إلى حَرَمها بعد ثلاث سنوات من انفجار الحرب. حدث ذلك في 5 فبراير/ شباط 2018. عصر ذلك اليوم أقدم لواء عسكري يتبع ألوية العمالقة، على مداهمة المدرسة واحتلالها، وبعد ساعات لم يكن هناك صوتٌ أعلى من هدير المدافع وأزيز الرصاص.

مدرسة طالها الدمار في تعز - ت: أحمد الباشا
كانت أغلب الهجمات الجوية التي شنت على المدارس "عشوائية"، ولم تجد فرق البحث الميدانية للمنظمة أو شهود العيان الذين قابلتهم، أي أهداف عسكرية بالقرب أو بداخل 140 مدرسة مدمرة أو متضررة

في صباح اليوم التالي، توقف الأهالي عن إرسال أطفالهم إلى المدرسة؛ "لأن ذلك كان يعني إرسالهم إلى الموت"، كما يقول أحد أولياء الأمور. وألوية العمالقة، قوات أمنية وعسكرية شبه رسمية تأسست خلال الحرب الراهنة بدعم من دولة الإمارات التي تشارك إلى جوار المملكة العربية السعودية في تحالف عسكري مساند للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا. وتشارك في الحرب إلى جانب تشكيلات عسكرية ومسلحة أخرى. بمجرد السيطرة عليها تحولت المدرسة إلى هدف لنيران جماعة أنصار الله (الحوثيين) الطرف الآخر في الصراع. ومنذ ذلك اليوم أصبحت المنشأة التعليمية مكانًا خطرًا للذهاب إليه أو التواجد قربه. 

بعد أشهر، انسحبت القوات التي احتلت المدرسة، فاعتقد الأهالي أن الأمان على وشك أن يعود للمنطقة. لكن لم تمر سوى ساعات حتى أدركوا أنه من المبكر الحديث عن الأمان. ما شاهدوه يومها كان تكتيكًا عسكريًّا ينذر بجولة أقسى من الصراع ستشهده منطقتهم؛ حيث استبدلت قوات العمالقة اللواء الأول باللواء السابع، الذي بدوره حوّل المدرسة إلى ثكنة عسكرية ومخازن للسلاح والذخيرة، واستخدام فنائها كموقف للعربات والمدرعات العسكرية، ولا يزال يحتلها حتى اليوم - بحسب التقرير.

أكثر من 2500 مدرسة متوقفة

شهد العام 2018 انخفاضًا ملحوظًا في حِدّة الصراع في اليمن، وتركز القتال في مناطق محددة. وعلى الرغم من ذلك، ذكر تقرير "مواطنة" لحقوق الإنسان، أنها وثقت ما لا يقل عن 60 واقعة اعتداء واستخدام للمدارس خلال 12 شهرًا، منها واقعتا هجوم جوي، و22 واقعة احتلال، و36 واقعة لأشكال أخرى كالاقتحامات، بالإضافة إلى حالة انفجار ذخائر تم تخزيها في مستودعات قريبة من مدارس أوقعت خسائر كبيرة في صفوف الأطفال.

إجمالًا، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، في تقرير عن وضع التعليم صدر مطلع العام 2020: إن عدد المدارس التي توقفت عن العمل بسبب الصراع في اليمن، أكثر من 2500 مدرسة، دُمِّر حوالي ثلثيها (66 في المئة)، بسبب العنف المباشر، وأُغلقت 27 في المئة منها، وتُستخدم سبعة في المئة منها في أغراض عسكرية أو أماكن إيواء للنازحين، فيما وثقت "مواطنة" أكثر من 2000 واقعة انتهاك على المدارس حتى نهاية العام 2019. 

وخلال الفترة التي يغطيها تقرير "مواطنة" و"سيزفاير"، وثقت المنظمة ما لا يقل عن 153 هجمة جوية نفّذتها قوات التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، على - أو بالقرب من - مدارس ومرافق تعليمية في 16 محافظة يمنية.

كانت أغلب الهجمات الجوية التي شنت على المدارس "عشوائية" بحسب التقرير، "لم تجد فرق البحث الميدانية للمنظمة أو شهود العيان الذين قابلتهم، أيَّ أهداف عسكرية بالقرب أو بداخل 140 مدرسة مدمرة أو متضررة؛ بمقابل 13 مدرسة تعرضت لهجوم جوي كانت بالفعل تُستخدم كمقرات لعقد لقاءات غير مدنية أو كسكن أو مطابخ لجنود أو مقاتلين، أو كمخازن، أو كانت محل شبهات لتواجد عسكري فيها أو بالقرب منها وبأشكال متفاوتة، منها بين أشكال أخرى: نقاط تفتيش، عربات عسكرية، مسلحين، مسؤولين عن التعبئة العسكرية". وقد وجدت المنظمة أن الضرر الذي لحق بالعين المدني (المدرسة)، "كان يفوق - كما يبدو - ذلك المرجو إلحاقه بالهدف العسكري المحدد أو المشتبه فيه".

ووثق التقرير 36 هجمة برية بالقذائف ومضادات الطيران والمواجهات العسكرية بالرصاص الحي، استهدفت مدارس ومرافق تعليمية في مناطق جغرافية مختلفة، و171 واقعة استخدام عسكري واحتلال للمدارس في 14 محافظة. 

  كما أفاد التقرير بأن جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والقوات الموالية للرئيس هادي والمقاومة الشعبية بفصائلها المختلفة، وقوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًّا، وجماعة (أنصار الشريعة)، تشاركت في هذه الانتهاكات، وأنها تتحمل مسؤوليتها.

مدرسة أسماء - المنصورية - الحديدة

ولم تكن هذه صور الاعتداءات الوحيدة؛ إذ قالت "مواطنة" و"سيزفاير" في التقرير: إن المدراس في شتى أرجاء اليمن شهدت انتهاكات مختلفة، وعرضت وقائع لانتهاكات قالت إنها لا تشكل أنماطًا متواترة – ضمن الهجمات الجوية والبرية، والاشتباكات، والاحتلال، واستخدام المدارس لأغراض عسكرية – لكنها تمثل خروقات للقانون الدولي، لما سببته من أضرارٍ جسيمة بالمدارس اليمنية.

عند الحديث عن مساوئ الحرب في اليمن وآثارها الكارثية على التعليم ومستقبل الأطفال، يمكن أخذ مدرسة "عمار" في القبيطة محافظة لحج، كنموذج؛ حيث تعرضت لخمس هجمات عسكرية

وقد "استخدمت العديد من الأساليب لإحداث أضرار بالمرافق التعليمية"، بحسب التقرير، منها: التفخيخ بعبوات ناسفة، وزراعة الألغام في محيط المدارس، وإلحاق أضرار مادية وبشرية بالمدارس نتيجة تخزين مواد متطايرة أو ذخائر داخلها أو بالقرب منها، وإتلاف الأثاث المدرسي ونهبه، والاعتداء الجسدي على المعلمين والمعلمات".

ووثّقت "مواطنة" في التقرير، 20 واقعة انتهاك تحت هذا النمط، وقعت في 9 محافظات، وأسفرت عن مقتل 15 طفلًا، وجرح 100 مدنيّ، بينهم 45 طفلًا، وتسببت في إيقاف، مؤقت أو كلِّي، للعملية التعليمية في بعض المدارس.

وتذكر المنظمة في التقرير أن الوقائع التي تضمنها، لا تمثل العدد الإجمالي للهجمات، كما لا تحصر الأنماط التي تعرضت لها المدارس والمرافق التعليمية أثناء النزاع المحتدم في اليمن. ويقول التقرير: إن "هذه الوقائع تقدّم توضيحًا تفصيليًّا حول أبرز أنماط الانتهاكات، والآثار المروعة لها على واقع العملية التعليمية وتداعياتها على الطفولة والمستقبل".

ومنذ اندلاع الحرب في اليمن، عملت "مواطنة" على رصد انتهاكات حقوق الإنسان عبر شبكة من الباحثين الميدانيين، وأصدرت سلسلة من التقارير، قالت إنها سعت من خلالها إلى تذكير الأطراف المشتركة في الصراع بمبادئ حقوق الإنسان والقوانين المحلية والدولية ذات الصلة.

ركام المدارس (واقعة)

حتى العام 2015، كان 800 طالب و100 طالبة يدرسون بشكل منتظم في مدرسة "عمار" الواقعة في منطقة الشريجة بمديرية القبيطة، محافظة لحج جنوبَ البلاد. بنهاية العام الدراسي 2018/2019، كان عدد الطلبة الذين توقفوا عن التعليم أو انتقلوا مع أسرهم إلى مناطق أخرى أكثر من النصف، ولم يجد البقية من خيار غير مواصلة تلقي تعليمهم تحت الأشجار، بعد أن تحولت مدرستهم إلى كومة من الدمار خلال ثلاث سنوات من الحرب. 

مدرسة "عمار" -الشريجة - لحج

عند الحديث عن مساوئ الحرب في اليمن وآثارها الكارثية على التعليم ومستقبل الأطفال، يمكن أخذ مدرسة "عمار" كنموذج؛ حيث شنّت الأطراف المتصارعة خمس هجمات عسكرية على المدرسة. 

وبحسب التقرير، كانت الأولى عندما قامت جماعة أنصار الله (الحوثيين) في 22 مارس/ آذار 2015، باحتلالها واستخدام جزء منها كثكنة عسكرية "ما عرّضها لأخطار جسيمة". تَلَى ذلك شنُّ المقاتلات الجوية التابعة للتحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، هجمتين جوّيتين، الأولى في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، والثانية في 27 يوليو/ تموز 2016.

وفي 24 أغسطس/ آب 2016، شنّت قوات تتبع جماعة أنصار الله (الحوثيين) والرئيس السابق صالح، هجومًا بريًّا بثلاث قذائف على المدرسة التي كانت قد انسحبت منها في وقت سابق، لتعود وتتمركز بالقرب منها. وفي 20 فبراير/ شباط 2018، قامت القوات الموالية للرئيس المعترف به دوليًّا، هادي، بقصف المدرسة، أثناء تقدّمها من الناحية الشرقية لمنطقة الشريجة بصاروخ كاتيوشا.

تتكون المدرسة من ثلاثة مبانٍ وتحتوي على 14 قاعة دراسية، معمل علوم ومخزن لمستلزماته، مخزن للكتب، ومكتبين إداريين. ونتيجة لاستهدافها المتكرر، تدمر 11 فصلًا دراسيًّا، إضافة إلى المكتبين الإداريين ومخزن الكتب والمعمل بشكل كلي، كما أُتلف أثاث المدرسة، وتضرر السور والبوابة الخارجية. 

نفذ فريق البحث في "مواطنة" زيارة ميدانية إلى المنطقة، وأورد التقرير عن أحد المعلمين قوله: إن الهجمات على المدرسة تتالت منذ مارس 2015، حتى توقفت الدراسة تمامًا في يوليو/ تموز 2016.

ونقل التقرير عن شهود عيان قولهم، إن المنطقة كانت تشهد اشتباكات محتدمة بين قوات هادي وجماعة أنصار الله (الحوثيين) أثناء الهجمة البرية الأولى. وفي هجوم 2018، كانت جماعة أنصار الله (الحوثيين) قد سيطرت على المنطقة المحيطة بالمدرسة.

  ومنذ خروج مدرسة عمار عن الخدمة، يتلقى عدد من طلابها الحريصين على مواصلة تعليمهم، الدروسَ في خيام وتحت الأشجار وبداخل كهوف ومجاري السيول في منطقة "المليح"، مديرية القبيطة بمحافظة لحج. هذه ليست حالة فريدة من نوعها في اليمن، حيث يمكن القول إنها صورة مصغرة لما يحصل في البلد من دمار بسبب الحرب.


•••
صامد السامعي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English