نظام الري في خطر

الحواجز والسدود المائية بحاجة لإعادة تقييم
مساعد عقلان
August 19, 2020

نظام الري في خطر

الحواجز والسدود المائية بحاجة لإعادة تقييم
مساعد عقلان
August 19, 2020

ما قام به اليمانيون القدماء كان أكثر بكثير من إدارة الموارد الطبيعية؛ لقد قاموا ببناء وإدارة العديد من التقنيات التقليدية بشكل هندسي بديع. على سبيل المثال، ما تزال العديد من أنظمة المياه القديمة حتى اليوم تمثِّل وجهة للتأمل، على الفن الهندسي الرائع والمبهر الذي تمتع به الأجداد.

التقنيات التاريخية لإدارة وحصاد المياه في اليمن، بما في ذلك السدود والبرك، ومنشآت نقل وتحويل المياه والمدرجات الجبلية، تؤكد كيف كان اليمنيون، تاريخيًّا، قادرين على توظيف مجموعة واسعة من أنظمة حصاد المياه، وبحسب الاحتياج وطبيعة الأرض، وفي مختلف المناطق اليمنية. حصاد المياه في المنزل وفي السهل وبمواد طبيعية ومحلية الصنع، كمادة القضاض، ساعد على توفير المياه طوال العام، ولو بالحد الأدنى.

نظام الري في اليمن القديم يعود تاريخه إلى حوالي الألف الثاني قبل الميلاد، وقد توصل كثير من الباحثين في مجال المياه إلى نتيجة أن اليمنيين كانوا من أوائل الناس في تحقيق مستوى متقدِّمٍ من المعرفة بالمناخ والزراعة وتقنيات الري، ومنها الري السيلي (spate irrigation) الذي بدأ في اليمن قبل أن يتم تصدير هذه المعرفة إلى بلدان أخرى. كانت معظم المناطق الجبلية اليمنية عبارة عن مدرجات، تتخللها مصبات لمياه الأمطار والغيول الجارية على مدار معظم أشهر العام. في المناطق الجبلية أو السهلية، وعلى ضفاف مجاري السيول، التي تتجمع فيها المياه من المرتفعات، تتوزعُ مساحات من الأراضي الزراعية المنبسطة، التي تستخدم فيها السواقي التحويلية لمياه السيول (الري السيلي). التقنيات القديمة تمتاز بأنها صغيرة نوعًا ما، بالمقارنة مع الحواجز الكتلية والخرسانية الحديثة، وتحافظ على المياه من التبخُّر، وتسمح بتسرب المياه إلى باطن الأرض أكثر، وتسمح بمرور جزء من المياه للاستفادة منها في أراضي أسفل المصب. هناك قواعد ومراقيم عِدّة تمّت صياغتها من قبل مستخدمي المياه لإدارة المياه وكيفية توزيعها والاستفادة منها؛ هذه المراقيم تختلف من منطقة إلى أخرى بحسب طبيعة الجريان ونوعية الاستخدام وطبيعة الأرض، وأيضًا بحسب قناعة المستخدمين قديمًا.

غيّرت الثورة التكنولوجية والسكانية والتوسع العمراني، من الطبوغرافية الطبيعية للأراضي القابلة للزراعة الأمر الذي أثر على تغذية المياه الجوفية وتغيير مجاري السيول

مع الثورة التكنولوجية، وتزايد عدد السكان والوظيفة وفرص العمل الأخرى، والهجرة الداخلية والخارجية، والاستيراد للحبوب واللحوم، وتوافر تقنيات الحفر واستخراج المياه الجوفية، بدأ استخدام التقنيات القديمة بالانحسار شيئًا فشيئًا. في الجانب الآخر، وبعد حوالي 50 عامًا من استخدام المياه الجوفية العميقة، جفّت كثير من الينابيع والغيول وأصبحت كثير من أحواض المياه تعاني من الاستنزاف والتناقص السنوي، وصل في بعضها إلى أكثر من 4 أمتار سنويًّا، كما هو الحال في حوض صنعاء. الرصف والتحضر والتوسع العمراني والطرقات في الريف والحضر، غيّر من الطبوغرافية الطبيعية للأراضي، وغطّت كثيرًا من الأراضي القابلة للزراعة؛ الأمر الذي أثر على تغذية المياه الجوفية وأثر أيضًا على كثيرٍ من مجاري السيول، وغيّر من اتجاهات بعضها، وزاد من كمية الجريان فيها –  كما هو الحال في سائلة صنعاء – وهذا بدوره أدّى إلى تغيير ملامح كثير من الأراضي والوديان الأخرى.

الآن وفي ظل تزايد هطول الأمطار بشكل أكبر من المعتاد، قد يساعد هذا على عودة الأراضي الخضراء والينابيع والغيول إلى ما كانت عليه، وقد يساعد أيضًا على استقرار مناسيب المياه الجوفية، إلا أن الأمر مقلقٌ فيما يخص المناطق الواقعة على مجاري السيول والحواجز المائية، التي نَفِدَت من قبل، وبسعات تصميمية ربما أقل مما يمكن أن تحدثه الأمطار الغزيرة الحاصلة في الفترة الأخيرة. ومثالًا على ذلك الحاجز المائي الذي انهار مؤخّرًا في الرونة – محافظة عمران، والذي هو عبارة عن كتلة ترابية (أحد أنواع الحواجز المائية) مغطاة بشريحيتين؛ شريحة أسمنتية من الداخل، وشريحة حجرية مع الأسمنت من الخارج. كتلة الحاجز كانت قادرة على مقاومة ضغط المياه والرواسب المتراكمة طيلة السنوات الماضية، وما حدث أثناء الانهيار أن كمية المياه زادت عن قدرة المفيض؛ الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع منسوب المياه إلى ما فوق الحاجز الإضافي الذي تم بناؤه مؤخَّرًا. بدأ الانهيار أسفل الجزء العلوي الإضافي من الداخل، وزاد تدفق المياه إلى الجسم الخارجي للحاجز، وبشكل كبير؛ مما أدّى إلى تآكل الطبقة الخارجية للسد، واستمرار النحر التدريجي من الخارج إلى الداخل حتى حصل الانهيار الكلي للحاجز المائي. 

(صورة بيانية توضح بشكل تقريبي ما حدث للجانب المنهار من الحاجز)

وبغض النظر عن كفاءة جميع الحواجز والسدود المائية في اليمن، وعلى افتراض أن جميعها قد صُمِّمت ونُفِّذت بشكل جيد، فإن الأمطار في الآونة الأخيرة فاقت المعتاد، وقد تتجاوز القدرات التصميمية للحواجز المائية، الأمر الذي يهددها بالانهيار. ومن هذا المنطلق أصبح لزامًا على الجهات الرسمية والشعبية أخذَ الأمر بمحمل الجد، وإنشاء غرفة عمليات (خبراء وفنيين – خط ساخن – مضخات متنقلة ومعدات)، والعمل على إعادة تقييم ودراسة الحواجز والسدود المائية، خصوصًا تلك التي قد تؤثر على السكان في حالة الانهيار – لا قدر الله – والاهتمام بشكل كبير في المفيض وقاعدة الحاجز من الخارج.

 عَمَلُ مخارج وحواجز أصغر للمياه قبل السدود لتخفيف ضغط المياه عليها، مهمٌّ أيضًا، ليس لتخفيف آثار السيول على الحواجز فحسب، بل أيضًا لتخفيف آثار هذه السيول نفسها على السكان والأراضي الواقعة على جنبات مجاري تلك السيول. ومن أنجح الحلول لتخفيف الجريان (الأمر نفسه لتخفيف آثار الجفاف)، هو بتفعيل التقنيات القديمة لحصاد المياه من سقايات وسواقي ومعاقم ومدرجات وبرك ومواجل، وغيرها من التقنيات التي تختلف مسمياتها من منطقة إلى أخرى، والتي تعمل على توزيع المياه على مساحات أكبر، ولِمَا لها من أثر إيجابي كبير في الزراعة وتغذية المياه الجوفية، ولا يمكن أن تُحدِث مثل هكذا أضرار في حالة حصل لها انهيار.

من جانب آخر، ساعدت الأمطار الأخيرة على امتلاء العديد من السدود والحواجز المائية ذات الأعماق الكبيرة، وقد تم تسجيل حوادث غرق كثيرة خلال هذا الموسم، بسبب السباحة في عدد منها. مسببات الغرق كبيرة، أبرزُها الطَّميُ المخلوط مع المياه والأحجار على جوانب وقيعان الحواجز المائية والسدود، والكثير من الرواسب. وبحسب مصادر محلية، فقد سجلت حالة وفاة في 13 أغسطس/ آب 2020، لشاب في مقتبل العمر، على إثر سباحته في سدّ نجد بمديرية الرضمة- محافظة إب، ولم يتمكن الأهالي من إخراج جثته حتى وصول خبير إنقاذ من صنعاء.

لا تحظى هذه السدود والحواجز ومجاري السيول برقابة جيدة؛ فالسباحة فيها مخاطرة كبيرة، والحذر واجب؛ لذا من المهم إصدار تعميم رسمي بمنع السباحة في جميع الحواجز والسدود المائية.


*الصورة: حاجز الرونة في محافظة عمران شمال اليمن، تم تنفيذه عام 2005، ويتسع 252000 متر


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English