فصل من شقاء طالبي اللجوء في الهند

من الذي يعرقل طلبات لجوء اليمنيين؟
ابتهال الصالحي
June 23, 2020

فصل من شقاء طالبي اللجوء في الهند

من الذي يعرقل طلبات لجوء اليمنيين؟
ابتهال الصالحي
June 23, 2020

أن تصحو ذات يوم لتدرك أن حرباً واحتراباً يدور حولك وفي وطنك هذا أمر مخيف، وأن تعلم بأن عدد الدول التي قد تسمح لك أو حتى لطفلك الرضيع باجتياز أراضيها لايتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فهذا أمر مفزع.

في الحقيقة، هناك شيء واضح، ومع ذلك يستعصي عليّ وعلى الكثيرين مثلي فهمه. شيء يرتبط بالمواطن اليمني الذي حُكم عليه بذنب ليس ذنبه، حين أقفلت عشرات الدول أبوابها في وجهه، حتى إذا كان فاراً بحياته من رحى حرب لا تكاد ترى لها نهاية. بينما تبقي أبواب هذه الدول مشرعة فقط أمام كل من كان لهم دور وما يزال، في استمرار هذه الحرب. ليس لهم فقط، بل ولكل من له قرابة حربية بهم.

بطل حديثنا في هذا المقال كل من يحمل الجنسية: (يمني).

منذ اندلاع الحرب التي تدخل عامها السادس، فرّ آلاف اليمنيين إلى خارج بلادهم. البعض حطّ رحاله في دول عربية، كمصر والأردن، وقليل جداً في دول الخليج، وآخرون توجهوا إلى تركيا، ماليزيا أو الهند، ومن الهند نبدأ.

إحصائية غير رسمية تؤكد وجود قرابة 100 ألف يمني، موزعين على عدد من المدن الهندية.

في مدينة بونا من إقليم مهاراشترا، يوجد العدد الأكبر من اليمنين الذين قدموا إلى الهند في الغالب لغرض العلاج من جروح خلفتها الحرب، والبعض لم يجد التطبيب لمرض ما أصابه أو أصاب أحد أفراد عائلته. وفي الحالتين، هناك سبب آخر يتخفّى خلف رحلة العلاج، لعله الفرار لينجو بحياته ومن معه بعد أن وصلت الأوضاع الإنسانية إلى مراحل يصعب علينا وصفها، كما تذكر تقارير المنظمات الإنسانية. وفي بونا تجد أيضاً الطلاب المبتعثين للدراسات الجامعية بمستوياتها المختلفة، وقد استكملوا دراستهم خلال السنوات الماضية، لكنهم آثروا عدم العودة إلى الوطن المنكوب.

الكثير من اليمنيين هنا لديهم أسباب تمنعهم من العودة إلى بلدهم، بعد أن تمكنوا من الفرار بأرواحهم من جحيم الحرب التي لم تضع أوزارها بعد. حرب الجوع، وحرب ضياع الأمن والأمان والاغتيالات المتكررة والانقلاب على الحكومة المعترف بها دولياً، بمساندة دول التحالف التي تدّعي مساندة اليمن في محنته. لقد صار يلوح في المشهد ما يهدد بزجّ البلاد في أتون حرب أهلية جديدة في وقت ما تزال الأولى تدار بواسطة نفس اللاعبين.

من حق كل يمني أن يصرخ ويتساءل لماذا نحن بالذات؟ ومن حقه كإنسان أولاً وقبل أي شيء أن ينال إجابة على تساؤلاته!

كثير من اليمنيين هنا، وبعد أن ضاقت بهم ظروف الحياة في بلد غريب عنهم، توجهوا إلى مكاتب الأمم المتحدة طالبين اللجوء الإنساني، لكن الرد كان قاسياً جداً.

أحد موظفي مفوضية اللاجئين في الهند تحدث لبعض اللاجئين، عن ضغوط تمارس على المفوضية من دول الجوار اليمني، لتستمر برفض طلبات لجوء اليمنيين

إحصائية مؤكدة تشير إلى أن أكثر من 200 طلب لجوء تقدمت به أسر يمنية لدى مكتب الأمم المتحدة في مدينة بونا وحدها. بينها طلبات لعائلات كاملة فيها أطفال من مختلف الأعمار، ومن بين هذه الطلبات صحفيون وناشطون. لم يسجل قبول أي طلب منها، ولم يمنح حتى أمل في قبولها. بعض هذه الطلبات مضى عليها أكثر من خمس سنوات، ولا أمل بمنح أصحابها فرصة في حياة أقرب إلى الاستقرار. هنا يحق لنا أن نتساءل مع كل اليمنيين: لماذا بالذات اليمني؟ لماذا لا يجب أن يحصل اليمني على حق اللجوء، في حين كل الطلبات التي تقدم بها آخرون من جنسيات مختلفة، بعضها عربية، نالت حقها من الاهتمام، وحصل أصحابها على حق اللجوء؟ البعض من هؤلاء المحظوظين تم إعادة توطينهم في بلدان أخرى حسب رغبتهم، في حين ترفض طلبات اليمنين، ويرفض حتى إبداء أسباب الرفض.

بحسب المسؤولين في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ( (UNHCRفإن رفض المفوضية قبول طبات اللجوء مرتبط بالسلطات الهندية التي تقول إن الوضع مستقر وآمن في اليمن، وبالتالي يستطيع هؤلاء العودة إلى ديارهم. وهذا القول يأتي بالطبع، بناء على ما تقوله الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، في أكثر من مناسبة، وعلى ما كانت تصرح به من أنها تسيطر على 80% من إجمالي مساحة اليمن. غير أن الأمر الأكثر غرابة وتأثيراً، ما قاله لنا أحد موظفي المفوضية، وبصورة غير رسمية لكن كمعلومة مؤكدة؛ عن ضغوط تمارس على المفوضية من دول الجوار اليمني، لتستمر برفض طلبات لجوء اليمنيين، وهي ذاتها الدول التي ما تزال تشنّ الحرب في اليمن تحت مسمى “دعم الشرعية”.

بينما تتغافل المفوضية وكل المنظمات الدولية وبالذات التابعة للأمم المتحدة عن مجمل التقارير التي تحت يدها، والتي تشير أغلبها إلى أن البلد يعاني أكبر كارثة إنسانية، وبالطبع هذه التقارير أغلبها في الأساس صادر عن هيئات تابعة للمنظمة الأممية. علاوة على ذلك، فالحكومة المعترف بها دولياً، هي أيضاً فارة من اليمن ومستقرة في الرياض. وبدورنا نسأل هذه الحكومة ومسؤوليها: طالما أنكم تزعمون أن الوضع آمن وتطالبون مواطنيكم النازحين بالعودة إلى الديار، ما بالكم تديرون الحكومة ومؤسساتها من عدة عواصم عربية !

في ذات السياق، دول الجوار اليمني لم تكتفِ بما تمارسه من ضغوط على مفوضية شؤون اللاجئين، ولكنها تضيق على اليمنيين في أراضيها. بلغ هذا التضييق ذروته بالتزامن مع ذروة تعقُّد الأوضاع في اليمن، وحيال كل ذلك، تبقى السلطات اليمنية عاجزة تماماً عن مساندة مواطنيها!

معاناة كبيرة وقصص إنسانية صعبة يحياها اليمنيون في الخارج، في ظل تجاهل كل الأطراف، بدءًا من الحكومة المعترف بها دولياً وسفاراتها، مروراً بالسلطات الهندية، وانتهاء بمكاتب الأمم المتحدة. اليمني في الخارج يقاوم للبقاء، بواسطة الهروب بعيداً عن الوطن لأطول فترة ممكنة، وهدفه الوحيد، النجاة بحياته ومن معه من أفراد عائلته.

يوماً بعد آخر تمر الأيام ثقيلة جداً، وتزداد مرارة الحياة عندما يرى أطفاله محرومين من التعليم في وقت يعجز عن إلحاقهم بالمدارس. الأمر قد يصل عند البعض إلى أكثر من ذلك عندما ينام أطفاله وبطونهم شبه خاوية لأنه لا يستطيع العمل لإشباعهم.

في مكاتب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الهند، كل ما حصل عليه اليمنيون، هو استمارة قيد تحت الانتظار تمنحهم تسهيلات في استئجار المنازل فقط، وأحياناً حتى هذا التسهيل يقابل بالرفض من مالكي بعض المنازل. يرفضون التعامل مع هذه الوثيقة الأممية.

“استمارة قيد تحت الانتظار”، لا تمنح صاحبها الحق في العمل أو الدراسة في الكليات، ولا حتى العلاج في المستشفيات الحكومية، وفي بعض المستشفيات الخاصة لا يمكنهم إجراء أي عملية جراحية.

كما أن هذه الوثيقة لا تمنع عنهم الغرامة المالية في حين قرر اليمني مغادرة الهند؛ إذ يتعين عليه دفع غرامة قد تصل إلى 500 دولار للفرد الواحد، باعتباره خالف شروط الإقامة وبقي بعد انتهاء الفيزا.

لذلك يظل اليمني يتوارى عن الأنظار قدر الاستطاعة، ويحكم عليه أن يعيش في قلق وخوف دائمين من أي مشكلة قد يتعرض لها، لأن السلطات الهندية حينها، سوف تتعامل معه بقسوة، مثل أي مقيم بشكل مخالف على الأراضي الهندية، وربما تصل عقوبته إلى السجن أو الترحيل.

بعض الأسر ضاق بها الحال، واضطرت للعودة إلى اليمن، من منطلق: نموت في وطننا أفضل من أن نموت في الغربة مرتين: موت الذل والخذلان

بالتالي يبقى اليمني هنا في سجن كبير، رغم غياب الحواجز والأسلاك الشائكة. ومع ذلك تجده ممتناً فقط لكونه يشعر بالأمان على حياته بعيداً عن رصاصة قناص أو صواريخ تمطرها السماء فوق مدينته أو قريته. ليكتشف أنه هرب من وطن يمكن أن يراق فيه دمه، إلى بلد تهدر فيها كرامته. بلد غريب يرفضه ويذله، ولكنه يبقيه على قيد الحياة في ذات الوقت.

ماجد، الصحفي الذي أهدرت جماعات متطرفة دمه، غادر مدينة الحديدة إلى جيبوتي في عام 2015. يتحدث ماجد واصفاً مغادرته للمدينة التي طالما عشق صباحات سواحلها وتأمل الغروب من شاطئها مع رفاقه الذين تركهم خلفه: “رحلت على مركب صغير (زعيمة) تستخدم لنقل المواشي. دفعت لمالك المركب مبلغ 200$ حتى يقلني مع 21 شخصاً آخرين، وجميعنا كنا فارّين من الموت، ولكل منّا حكاية تختلف فصولها، لكن الدافع واحد؛ النجاة بالروح”.

وصل ماجد إلى الهند عبر جيبوتي في رحلة طويلة ومضنية استنفدت كل ما لديه من مال، لكنه كان يمنِّي نفسه أن أرض غاندي، أرض التسامح والسلام، ستفتح له ذراعيها وتمنحه الأمان، وأن مظلة الأمم المتحدة ستحميه من أعداء الحياة المتربصين به في وطنه حال عودته. لكنه تفاجأ بواقع لا يشبه الصورة التي رسمتها مخيلته، وفي لحظة، تتبدد كل أحلامه.

ماجد يواجه الآن حياة صعبة كغيره من اليمنيين، قلّما يجتمعون لتجاذب أحاديث الحنين للوطن الذي كان لهم، أو حتى أحاديث عن الأهل الذين تركوهم هناك، والكثير من الأخبار المحزنة عن بلد تقطعت أوصاله على مرأى ومسمع العالم أجمع.

فؤاد أيضاً؛ خرج هو الآخر هارباً لكن من وسط صنعاء، بعد أن لوحق من أحد مشرفي جماعة أنصار الله (الحوثيين) لأنه حاول أن يقول له “لا”. فرّ فؤاد متنقلاً بين المدن اليمنية حتى وصل إلى عدن ليستقر فيها. لكن هذه المدينة التي طالما فتحت ذراعيها للملهوف والباحث عن الأمن والأمان، رفضته هذه المرة، لأن هناك من قرر أن أي قادم من خارج حدود ما قبل العام 1990، هو عدو متربص بأمن المدينة.

اعتُقل فؤاد أكثر من مرة، فقط لأنه ينتمي إلى محافظة شمالية، وفي جميعها كان يرحل على متن مركبة مخصّصة لنقل المواشي، عشرات المواطنين من المحافظات الشمالية، في تصرّف عنصري نددت به منظمات دولية كثيرة. لكن ذات المنظمات، لم تحرك ساكناً، واكتفت بما تستطيع فعله عادة؛ إصدار بيانات التنديد والشجب المستهلكة. آخر مرة عاد فؤاد إلى عدن متخفياً عبر قرى محافظة لحج المحاذية للمدينة، ومنها إلى جيبوتي بحراً، في رحلة أشبه بالانتحار. من جيبوتي سافر إلى الهند. كان هذا ما يميز قصة فؤاد، أما بقية السيناريو فلم يختلف كثيراً عن قصة ماجد!

ماجد وفؤاد مع أسرته والعشرات من الأسر اليمنية الأخرى المتواجدة في الهند لم يتركوا باباً بحثاً عن فرصة لحياة طبيعة في بلد المهاتما غاندي إلا طرقوه؛ من مكتب الأمم المتحدة للمفوضية العليا إلى شؤون اللاجئين، مروراً بالمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان، حتى سفارات وقنصليات الدول العربية المجاورة لليمن حاولوا معها، لكن جميع تلك الأبواب كانت موصدة بشدة أمامهم، وذنبهم الوحيد، جوازهم اليمني.

لا يحق لهم العمل، ولا حق لهم في إلحاق أبنائهم بالمدارس، والمدارس القليلة التي قبلتهم، فرضت عليهم رسوماً دراسية باهضة جداً، مقابل أن تغضّ الطرف عن أنهم يعتبرون مقيمين غير شرعيين على أرض الهند.

بعض الأسر ضاق بها الحال، واضطرت للعودة إلى اليمن، من منطلق: نموت في وطننا أفضل من أن نموت في الغربة مرتين: موت الذل والخذلان.

•••
ابتهال الصالحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English