عن الرحيل الصادم للطبيبة آمال الذبحاني

كورونا مستمر في إزهاق أرواح أطباء اليمن
صامد السامعي
June 21, 2020

عن الرحيل الصادم للطبيبة آمال الذبحاني

كورونا مستمر في إزهاق أرواح أطباء اليمن
صامد السامعي
June 21, 2020

لم تكن مرّت ساعتان من مساء الأول من يونيو/حزيران 2020، عندما انتشر في صنعاء خبر الرحيل "الصادم" لواحدة من أمهر أطباء العيون في اليمن على إثر إصابتها بفيروس كورونا. في الساعة الثانية بعد منتصف ذلك اليوم، نعَت نقابة الأطباء والصيادلة اليمنيين ونقابة أعضاء هيئة التدريس بجامعة صنعاء ومستشفيات ومراكز طب العيون، الدكتورة آمال نعمان الذبحاني، الأستاذ المساعد بقسم العيون بكلية الطب جامعة صنعاء، استشاري طب وجراحة العيون والتجميل.

لبقية حياتها، ستتذكر لميس الجنيد ذلك المساء على أنه واحد من أسوأ اللحظات التي عاشتها. قالت لميس لـ"خيوط" إن شيئاً ما دفعها صباح ذلك اليوم للتشاؤم والقلق، فاعتقدت أن خطباً ما على وشك الحدوث، وبالكاد مر النصف الأول من اليوم بسلام، لكن النصف الثاني حمل معه خبر وفاة الطبية التي اعتادت معالجة طفلتها لديها. دخلت لميس في نوبة متواصلة من البكاء استمرت ليومين، فيما لا تعتقد أن الحزن الذي سيطر عليها منذ سماعها عن "الفاجعة" سيتركها قريباً.

من الواضح أن فيروس كورونا قد سرق طبيبة استشارية "استثنائية"، غير أنها -للأسف- ليست أول أو آخر سرقات هذا الوباء. خلال أقل من شهرين، ودعت اليمن عدداً من الأسماء المعروفة في تخصصات الطب المختلفة، أغلبها لذات السبب. وبعد آخر إحصائية لنقابة الأطباء التي صدرت الخميس 11 يونيو/ حزيران والتي تحدثت عن رحيل 33 طبيباً، يمكن القول إن فيروس كورونا قد فعل باليمن ما لم يفعله بالعالم، على الرغم من أنه لم يصل ذروة تفشّيه بعد. تفتك هذه الجائحة، مع موجة حُميات مجهولة، بعدد كبير من اليمنيين في مناطق مختلفة. وبينما تشكل إحصائية الخسارة في صفوف الأطباء في اليمن رقماً مهولاً مقارنة بباقي الدول، إلا أن تقديرات مطّلعين على الوضع الصحي توقعت أن عدد الضحايا بين الطواقم الصحية المساعدة (الممرضين) أكثر من ضعف عدد الضحايا بين الأطباء.

وفي حين انضمت آمال الذبحاني إلى قافلة من الأطباء رحلوا قبلها وبعدها، إلا أن خبر وفاتها صعق الآلاف في صنعاء ومحافظات يمنية أخرى، فهي لم تكن فقط طبيبة عيون ممتازة كما عُرفت منذ سنوات؛ كثيرون ممن عرفوها أو تعاملوا معها نشروا في صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، قصصاً ذات جوانب أخلاقية، حب، تعاون، ومسؤولية في تعامل الطبيبة الراحلة تجاه وظيفتها ومرضاها، وهي صفات لا غرابة، إذا اجتمعت في أحدٍ، أن تُكسبه حب الناس، لذا عبّر عدد كبير ممن عرفوها عن حزنهم وعن الخسارة الفادحة جراء رحيلها.

وكما يبدو فإن فداحة الخسارة ليست فقط على المستوى الشخصي لمن عرفوا هذه الطبيبة الاستثنائية، أو عالجتهم يوماً ما، بل على المستوى العام للبلد ككل. يكشف عن ذلك ما ذهبت إليه إدارة المستشفى الخاص الذي عملت فيه، بإعلانها إيقاف العمل في المشفى والحداد لمدة ثلاثة أيام، وهو أمر قلّما تقوم به مستشفيات خاصة أو عامة.

متخصصة استثنائية

مرت خمس سنوات منذ أن تعرفت لميس الجنيد إلى الدكتورة آمال الذبحاني. قبل أشهر من ذلك اليوم، لاحظت لميس انحرافاً خفيفاً في عيني طفلتها. ويومها لم تكن الأم قد سمعت عن الطبيبة التي ستحدث الفارق في حياتها وحياة ابنتها، لذا زارت عدداً من أطباء العيون في صنعاء، لكن دون فائدة.

"تعرفت على الدكتورة آمال بعد ماراثون لم أكن سأضطر إلى خوضه لو أنني عرفت الفارق الذي سيحدثه اللجوء إليها"، تقول لميس بينما تشرح كيف أن أغلب الأطباء الذين عرضت طفلتها عليهم كانوا يبالغون في وصف حالتها، ثم يقررون لها مجموعة أدوية إلى جانب تمارين بصرية ومقاسات مختلفة من النظارات، اتّضح فيما بعد أنها لم تكن بحاجة إليها.

عندما وجدت لميس أن الوقت يمر وعينا طفلتها لا تتحسنان، خطرت لها فكرة استخدام ميزة البحث الإلكتروني. خلال لحظات كان أمام لميس نتائج كثيرة لطلبها الذي جاء من ثلاث كلمات "أفضل دكتور عيون". أغلب هذه النتائج منشورات لأشخاص عالجتهم، أو عالجت أقرباءهم، الدكتورة آمال نعمان الذبحاني.

"بحثت عن معلومات أكثر عنها وعن الجامعة التي تخرجت منها ومكان عملها، وقد انتابني قليل من الشك عندما وجدت أنها خريجة جامعة صنعاء"، تقول لميس مرجعة ذلك الشك إلى تدني الإمكانات التعليمية في اليمن.

مع ذلك، ذهبت لميس في اليوم التالي، إلى المستشفى الذي تعمل فيه آمال الذبحاني وهناك عرفت أن عليها أن تحجز موعداً وتنتظر ثلاثة أسابيع، فجدول الدكتورة مزدحم. في اليوم الذي جاء فيه موعدها أخيراً، كان على الأم إجراء الكثير من الفحوصات للطفلة قبل مقابلة الطبيبة. تقول لميس: "كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً عندما جاء دورنا، وكنت أخشى أن مزاج الدكتورة للعمل قد قلّ عما كان عليه في الصباح، خاصة وقد استقبلت ما يزيد على عشر حالات، إلا أنها استقبلتنا بابتسامة لطيفة ووجه بشوش، وتحدث مع الطفلة بود وحب، كما لو أنها طفلتها".

عندما انتهت من الكشف على الطفلة وتوقفت استفساراتها، جاء دور لميس التي انهالت عليها بالأسئلة. وحسب قولها، وجدت "ردوداً شافية" لما بحثت عنه عند الكثير من الأطباء التي ذهبت بطفلتها إليهم قبل ذلك. وفي نهاية الجلسة، طلبت منها الطبيبة مراجعتها كل ستة أشهر. وخلال أربع سنوات، كانت الطبيبة تستقبل الأم وطفلتها بنفس تلك البشاشة والود. تقول لميس: "هذا الاستقبال المبهج لم يكن خاصاً بنا فقط، كانت تستقبل كل مرضاها هكذا، بغض النظر عن عددهم اليومي".

يتذكر عامر أن والديه أسعفاه إلى مستشفى الكويت، واستقبلته طبيبة شابة وذكية، أجرت له عملية للعين بنجاح رغم أنها كانت ما تزال في سنة الامتياز بعد الجامعة

صدمة للجميع

بعد ساعات من إعلان وفاة الدكتورة آمال الذبحاني، انتشر الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة فيسبوك. انهالت التعازي من كل مكان. كتب كثيرون قصصاً شخصية ومواقف جمعتهم بها، عبروا من خلالها عن حزنهم وعن فداحة الخسارة. وفي سبيل تسليط الضوء على واحدة من أهم الكوادر الطبية التي فقدتها اليمن تنقل "خيوط" عدداً من هذه الكتابات.

جاء في منشور المحامي عبدالرحمن برمان أنه سافر بوالدته عام 2005، إلى العاصمة المصرية القاهرة، حيث أجريت لها عملية جراحية في المجرى الدمعي تطلّبت من الأطباء وضع أنبوب مؤقت داخل العين، مشيراً إلى أنه عندما سأل عن مدى إمكانية سحب ذلك الأنبوب في اليمن، دلّه الطبيب المصري على طبيبة عيون يمنية وصفها بـ"الماهرة" تعمل في صنعاء وتدعى آمال الذبحاني.

وكتب فواز علوي حزام، بحزن على ما أسماه "الخسارة العظيمة"، واصفاً الدكتورة آمال بأنها كانت "ملَكاً من ملائكة الرحمة بحق وحقيقة"، قبل أن يحكي كيف عالجت طفله حمزة قبل عام من وفاتها، عندما أصيب بجرح خطير داخل جفن العين، على الرغم من انشغالها الكبير وقرب إجازتها. حينها كان الوقت ضيقاً، ولم يتبقَّ لإجازة عيد الفطر سوى أيام قليلة لا تكفي لحجز موعد قريب. غير أن الدكتورة آمال بادرت بنفسها بالتواصل مع مسؤولي حجز العمليات في المستشفى، وطلبت تسريع الإجراءات من أجل إجراء العملية في اليوم التالي. "وإضافة لذلك وجّهت بخصم نسبة كبيرة من تكاليف العملية، أكبر من المسموح به من قبل إدارة المستشفى." يقول فواز.

عامر العريقي كتب على صفحته: "اليوم فقط عرفت معنى الخسارة ومعنى الفجيعة، عندما أخبرتني أمي من هي آمال الذبحاني. قبلها قرأت تعازي كثيرة برحيلها في السوشال ميديا، حتى أني عزيت أصدقاء يعملون في المستشفى الذي كانت تعمل فيه، وعندما تحدثت مع أمي عرفت أنها تلك الطبيبة القريبة من القلب التي أنقذتني عندما كنت صغيرا".

منذ سنتين يقيم عامر في العاصمة الكورية الجنوبية سول، التي يعمل فيها في التجارة، وكتب في صفحته على فيسبوك قصة تعرضه للطعن بقلم أحد زملائه تحت عينه مباشرة عندما كان في الصف السادس في المدرسة، وهي الحادثة التي سببت له جرحاً خطيراً.

يتذكر عامر أن والديه أسعفاه إلى مستشفى الكويت، واستقبلته طبيبة شابة وذكية، أجرت له عملية للعين بنجاح رغم أنها كانت ما تزال في سنة الامتياز بعد الجامعة، وهو الأمر الذي كان يقلق والدته.

يقول: "لم أكن أعرف اسمها حينها، ولم أهتم أن أعرف من هي بعدها. ولكن عندما أخبرتني أمي عنها اليوم، تذكرت تلك الطبيبة الرائعة التي كانت تستقبلني بالأحضان وأنا أعود إليها للمعاينة. كنت طفلاً، وها قد كبر ذلك الطفل وفقد طبيبته الرائعة والعظيمة".

ونشرت "رابطة أطباء اليمن في المهجر" في صفحتها على الفيسبوك تعزية، وصفت فيها الدكتورة آمال الذبحاني بأنها "لم تكن مجرد طبيبة عيون بل نموذجاً للإنسانية ونبل الطبيب". وأضافت: "كان المريض يتحول إلى فرد من أفراد عائلتها بمجرد دخوله عيادتها، تعالجه بابتسامتها قبل الوصفة العلاجية والمشرط الجراحي. كانت صديقة الجميع... ومن عرفها ولو للحظة، يبكيها كأنه فقد أحد أفراد أسرته".

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English