كلام يجب أن يروى

أربعون شهراً.. وستة وأربعون سنة
حسن العديني
June 15, 2020

كلام يجب أن يروى

أربعون شهراً.. وستة وأربعون سنة
حسن العديني
June 15, 2020

في الشهور القليلة، حصلت إنجازات باهرة، ثم توقفت وغرقنا في الدم بعد اغتيال النجم.

  إبراهيم الحمدي لم يخسر سوى الهم والغم واستعجل الجنة. نحن الذين تمنينا أن ينتظر قليلاً، ليس إلى اليوم ولا إلى أن يأتيه الطلب إلى الأبدية على يد الملاك الأبيض. هو نفسه كان سيمشي بعد أن يؤسس ويطمئن. كان سيحرر نفسه ولن يقبل بوظيفة الخادم حتى آخر العمر. ألم يصدح بلسانه أنه خادم لنا وليس حاكماً ولا سيداً علينا؟ وإبراهيم لم يكن أبداً من الكاذبين، لم يكن من صنف الساسة الذين يقولون ما لا يفعلون، ولا ممن يهذرون كثيراً وينجزون القليل.

  كان ذلك الشاب اللامع من طراز القادة العظام في التاريخ، الذين يضفون على السياسة لوناً أخلاقياً عظيم الرفعة. كان صادقاً مع شعبه وحتى مع خصومه. وهو لم يختر الخصوم في أي وقت ولا مع أيّ كان، ولكن بعضهم اختار وأراد أن يتعامل مع اليمن مثلما كان أمره قبل “13 يونيو/ حزيران”، ضيّع موروثة عن الآباء.

  يبدأ الطراز الفريد في رفعة الأخلاق من صيغة بيان حركة 13 يونيو/ حزيران. وكانت أكفّ الشعب سوف تلتهب من شدة التصفيق إذا ما صيغ البيان بعبارات تستدعي قسوة الحياة وتمسح وجه الرئيس المعزول ببلاط الأرض كما يقول المصريون. لكنه ترفّع عن الإهانة، وأثنى على الرئيس، وحياه أجمل تحية، ثم أكمل ونزل إلى الطائرة يودّعه ويأمر المدفعية بـ 21 طلقة تبجيلاً واحتراماً.

 مزج السياسة بالأخلاق أملى عليه ألا يرمي أحداً من خصومه في السجن في وقت كان يراهم بملء العين  يتآمرون سراً وعلانية. والأخلاق في السياسة تجلّت بالوفاء لدور مصر في إسناد ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962. وكان نظام “5 نوفمبر” قد تنكر لذلك الدور إلى حد الإدانة، وظهر مصطلح غريب في لغة أهل الحكم وفي إعلامهم، فلطالما كرروا، بابتذال، الحديث عن الذاتية اليمنية في غمز إلى مصر، أوقفه إبراهيم الحمدي وزاد عليه أنه وجه في خطاباته السنوية بذكرى 26 سبتمبر/ أيلول، التحية لشهداء مصر كما شهداء اليمن سواء بسواء، ثم من مكارم الأخلاق ذلك التواضع.

أليس هو من قال أنه خادم للشعب ؟

 وإذاً فقد طمس الألقاب التي تعظّم وتفخّم، ولم يعد هناك صاحب الفخامة وكل أصحاب الدولة والمعالي والسعادة، بل هم إخوة جميعاً للشعب، ثم انتزع صورته من المكاتب الرسمية ليبقى اسم الله سيد الكون ذي الجلال والإكرام.

تجربة 13 يونيو/ حزيران، تقدم شهادة بليغة المعنى لدور الفرد في التاريخ، ولقد كانت الماركسية، وهي نظرية وفلسفة عظيمة، تسقط دور الفرد وتنسب للحتمية التاريخية كل ما تحققه الأمم من إنجازات باهرة

 لم أشرد وما زلت قبل البداية.

ماذا لو انتظر قليلاً؟

إلى أي مدى كان مقدراً أن يتغير وجه اليمن خلال 10 سنوات؟

 إن كلمة “لو” تصلح في الدراسات المستقبلية لتقدير أثر الاحتمالات عند صناعة القرارات، وفي التحليل والتنبؤ في سائر العلوم الاجتماعية، لكنها لا تصح في قراءة التاريخ وفي الإطلالة على الماضي.

  وفي أمر تخيل انتظار الحمدي بعض الوقت، فإننا نرى هول الفاجعة؛ ذلك أن الخراب الذي نشهده الآن بدأ عند تلك اللحظة قبل موعد العصر، والدم الذي ينهمر كالسيل في هذا البلد الجريح، بدأ بالتدفقات الصغيرة من جسديهما: إبراهيم وعبدالله الحمدي، والكآبة الخانقة بدأت من تقطع أنفاس من حبسوا داخل الجدر المصمتة.

لكن لا.. لا وقت للبكاء، والواجب استعادة التجربة من أجل تمثّلها، لعلنا نستطيع أن نعبر نهر الدم وركام الخراب، وأن نصنع من جديد حياتنا على أسس سليمة.

 إن تجربة 13 يونيو/ حزيران، تقدم شهادة بليغة المعنى لدور الفرد في التاريخ، ولقد كانت الماركسية، وهي نظرية وفلسفة عظيمة، تسقط دور الفرد وتنسب للحتمية التاريخية كل ما تحققه الأمم من إنجازات باهرة، رغم أنها في الممارسة حققت إنجازات هائلة بفضل رجال استثنائيين من وزن “لينين” و”تروتسكي” و”ستالين” و”ماو” و”كاسترو”. وفي تاريخ اليمن الحديث وربما في تاريخه كله، يبرز إبراهيم الحمدي كنوع من أندر الرجال الذين يشبهون أنصاف الآلهة في الميثيولوجيا الإغريقية.

 والمبهر أنه أبدع في كل ما صنع وحقق دون أن يقع في زلة.

 ولكن كيف استطاع؟

 لقد كانت لديه قراءة متعمقة لأحوال اليمن تمخّضت عنها رؤية واضحة لما يمكن صناعته من أجل مستقبلها، وكان يعرف تماماً مقدرات الوطن، ويدرك قدرات الشعب واستعداده للعمل والتضحية حين يجد من يقوده إلى الطريق السليم.

  ولقد بدأ من داخل نظام “5 نوفمبر” المترهل وأحدث اختراقاً من ثلاث شُعب:

   أولها أنه ضغط من أجل الإصلاح الإداري بالمطالب المشهورة التي قدمها للرئيس الإرياني باسم القوات المسلحة، رغم أن الإصلاح لم يتحقق كما أراد لأن تعيينه نائباً لرئيس الوزراء لم يطلق يده كي يحقق ما يريد ويتمنى. مع ذلك، فقد فتح من هذا الموقع طريقاً واسعاً إلى الشُّعبة الثانية، وهي نقل اقتصاد البلاد الضعيف من الإدارة البدائية إلى التخطيط السليم، فأنجز بإشرافه البرنامج الثلاثي الإنمائي الذي وضع الجمهورية العربية اليمنية على عتبة التنمية الموجهة، بما وفّره من أرقام مثلت أساساً مأموناً لتصميم خطة اقتصادية خماسية أعدّت في عهده، وفي غيابه طارت مع الريح.

كان شعار الدولة المركزية، شعاراً استهدف ترميم النسيج الاجتماعي الذي تهتّك على أيدي الأئمة في قرون طوال، حتى لم يستطع أن يصمد في فورة الدفاع عن الثورة عندما داهمته أحداث أغسطس/ آب 1968

 والشُّعبة الثالثة كانت تأسيس التعاونيات، وبدأها إبراهيم في عهد سلفه، ثم صارت الوجه الأبرز لنظامه. كانت تجربة مذهلة أخذت الناس من النوم والكسل إلى العمل والجهد الشاق بهمّة ورغبة وفرح.

ولا يعنيني الشقّ الاقتصادي في التجربة المدهشة، فإن اليمنيين جميعهم يعرفون، لكن القليل يأبه لمضمونها السياسي، وهو التأسيس لديمقراطية حقيقية في البلاد. لقد مثلت التعاونيات ميدان مباراة حقيقية نزل فيها الشباب المتخرجون حديثاً من الجامعة في مواجهة أساطين القوى التقليدية، وكانت هذه ثورة بأبلغ المعاني، وضعت إبراهيم الحمدي في مرمى النيران، لأنه رفع عن المواطن العادي صخرة الذل وهيأ له أن يمنح صوته للخريج الشاب صاحب الرؤية العصرية، ويحجبه عن من اعتادوا أن يسوقوا الناس بالعصي ويربطونهم بالحبال. وكان أجمل ما في هذه التجربة، غير إعلاء الكرامة، هو تدريب الناس على الممارسة الديمقراطية، حيث يقف المنتخَبون للحساب العسير والسير أمام الناخبين.

وفي السياق التفت إبراهيم الحمدي إلى اليمنيين خارج البلاد، وهم ذخيرة وطنية وقوة خلاقة، فأنشأ الاتحاد العام للمغتربين -منظمة منتخبة من أهلها؛ ذلك القطاع الذي كان كماً مهملاً قبله وأزيح إلى النسيان بعده.

وفي ذلك العهد تعزز نشاط التنظيمات النقابية والروابط الطلابية خارج البلاد، وأنشئت الجمعيات في أقسام وكليات جامعة صنعاء بمبادرات لم تجرؤ على الاقتراب منها أجهزة الاستخبارات، فقد انحصرت المنافسات فيما يعلم الناس بين التيارين الأكثر تأثيراً في العمل الوطني، وهم الماركسيون والناصريون.

 ليس هذا ملء الهامش، فإن التنظيمات الاجتماعية أساس لبناء الدولة الحديثة. ذلك كان شعار إبراهيم الحمدي. وفي توصيف المركزية لا نكون أمام المصطلح المعروف في النظام الإداري بين المركزية واللامركزية، وإنما تمثل الأمر في انتزاع سلطة الدولة من أيدي مشائخ القبائل. ولهذا عمل إبراهيم الحمدي على إزاحة مراكز القوى من المؤسسة العسكرية وإعادة تنظيم أجهزة الدولة، فأنشأ مؤسسات جديدة، مثل مكتب الرئاسة، وجهاز النيابة العامة، والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة. وفي واقع الأمر كان شعار الدولة المركزية، شعاراً استهدف ترميم النسيج الاجتماعي الذي تهتّك على أيدي الأئمة في قرون طوال، حتى لم يستطع أن يصمد في فورة الدفاع عن الثورة عندما داهمته أحداث أغسطس/ آب 1968.

  ولقد توثقت العرى بين طوائف الشعب في ذلك العهد الزاهر، وانتصب الأمل بإنجاز وحدة شطري الوطن بالتفاهم الكامل بين اثنين من أبرز رجال الوطنية اليمنية؛ سالم ربيِّع علي وإبراهيم الحمدي. والاثنان استندا على قوى وطنية مناضلة ووثّابة ومتطلعة لإنجاز الوحدة، وإلى رغبة شعبية عارمة، لكن المؤامرة استبقت الإنجاز قبل ساعات من الوعد.

  وفي إطار السياسة الخارجية، كان إبراهيم الحمدي قائداً نادر المثال، أظهر فهماً عميقاً للأمن الوطني والقومي في دعوته ورعايته اجتماع تعز لرؤساء اليمن الشمالي والجنوبي والسودان والصومال، في ما سمي بأمن البحر الأحمر. وكذلك في إدارة علاقة هادئة غير متشنجة مع المملكة العربية السعودية تنطوي على حرص على استقرار القرار الوطني كما في تعزيز احترام اليمن في المحيط الإقليمي والدولي، وفي القيام بأدوار إيجابية في نطاق السياسة العربية، كما تجلى في الموقف الحاسم من أحداث الحرب الأهلية اللبنانية.

وفي 13 يونيو/ حزيران، يبقى كلام كثير يجب أن يروى.

•••
حسن العديني

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English