الحمدي وزمنه

محمد عبدالوهاب الشيباني
June 14, 2020

الحمدي وزمنه

محمد عبدالوهاب الشيباني
June 14, 2020
صور الملف لـ عبدالرحمن الغابري

أصوات صاخبة أجبرتنا على التدافع والخروج من الحجرة الضيقة إلى خارجها. كانت مظاهرة طلابية كبيرة تجوب الشارع القريب من المعلامة التي ننتظم فيها لتعلم القرآن، وأتذكر من هذه الواقعة رؤيتي للأواني المعدنية المعلّقة على أبواب حوانيت أسفل مدرسة ناصر القديمة وهي تهتز جراء رميها بأحجار المتظاهرين، ولم أعد أتذكر من شعارات المتظاهرين سوى كلمة “الإرياني”.

بعدها بأشهر قليلة كانت تمر على سمعي الصغير كلمات جديدة يكررها الراديو العتيق، الرابض في الرف العلوي القريب من رأس والدي في الدكان الذي يعمل به. كلمات مثل “التصحيح” و”مجلس القيادة” و”الحركة” و”العهد الجديد”، وكنت ألحظ اهتمام وحماس وتفاؤل زوار الدكان، حتى أبي الذي لم يكن على صلة بالسياسة، وإن كانت ترد في أحاديثه عن أيام عدن صراعات الجبهتين قبل الاستقلال، ويبدي تعاطفاً واضحاً مع “جبهة التحرير”، كان شديد الحماس والتفاؤل بهذا الحدث.

كنا نسمع من الكبار أشياء محمودة عن الرئيس الجديد، الذي قام بتوديع سلفه القاضي الإرياني إلى المطار بالنشيد الجمهوري بعد انقلابه “الأبيض” عليه، دون أن يريق قطرة دمٍ واحدة، وكنت أعزو الأمر إلى تسامح الرجل وطيبته التي تشي بها صورته الوديعة، والتي لا تتطرز بشارب دموي، كما هو الحال في صور الرؤساء الأجلاف، ويتعزز الأمر عندي أيضاً بصوته الدافئ والناعم.

ازدهر سوق الخطاط شكري في الجوار، وتحولت حيطان المباني القريبة مكاناً لتجفيف لافتاته القماشية الزرقاء والحمراء التي كانت تكتب باللون الأبيض للجهات والأفراد، وتحمل التهاني والتبريكات لقائد “مسيرة التصحيح”، وكانت تكثر مع قدوم المناسبات الوطنية مثل عيد 26 سبتمبر، وذكرى حركة 13 يونيو. ومن المناسبة الأولى لم أزل أتذكر المروحيات العسكرية وهي تجوب سماء المدينة المنخفضة تتدلى من باطنها الأعلام الجمهورية وصور الرئيس، والأهم رميها بأكياس صغيرة من الحلويات الرخيصة (المليم والشِّكليت) في الهواء، وكانت هذه العملية تُجبر الأطفال والكبار معاً على الصعود إلى سطوح العمارات المرتفعة لالتقاط ما ترميه، حتى إن إشاعات كانت تقول بأن الطائرة ترمي مع الحلويات نقوداً توضع في الأكياس، وهو الأمر الذي كان يجعل التسابق على أشده إلى الأماكن التي يُعتقد بسقوط الأكياس فيها بعيداً عن المباني، ومنها جبل “الضبوعة” الذي لم يكن وقتها مكتظاً بالمساكن كما هو الآن.

كانت هذه العملية تتكرر أيضاً مع عيد العمال في الأول من مايو/ أيار، حين كنا نرى فيه طوابير العرض العمالي، من العمال والعاملات بملابسهم الموحدة، وهي ممسكة بالأعلام الملونة تسبقها مجسَّمات من الأخشاب والمعدن فوق السيارات المكشوفة، وهي في طريقها إلى ملعب الشهداء في منطقة “العُرضي”، حيث تُنظم الاحتفالات.

كانت هناك مناسبات أخرى على قدر من الأهمية تدعو للاحتفاء بها، ويفرد لها مساحات زمنية طويلة في الراديو، مثل “عيد الشجرة”، الذي كان يُحتفل به مزامنة مع دخول الربيع، وكانت له أغانٍ طربية مثل أغنية الفنان أحمد السنيدار التي يقول مطلعها: “من سعى للخير نال.. ليس في الدنيا محال.. شجروها.. شجروها.. أرضنا ذات الجمال”. كان المذياع يرددها كثيراً بمصاحبة أصوات نسائية عفوية. وقبل المناسبة بأيام، كان يُشعر أعضاء فرق الكشافة في المدارس من الطلاب الكبار بالاستعداد للمشاركة فيها، وفي صباح يوم المناسبة تمر “بوابير” (شاحنات) الجيش المفتوحة لأخذهم من ساحات المدارس إلى مداخل المدينة لغرس أشجار “الكافور” و”الأثل”، التي كان يؤتى بها من مناطق إفريقية، وحتى وقت قريب كانت تُرى هذه الأشجار بجذوعها الضخمة في مداخل المدينة، على طريق تعز- التربة، وطريق تعز- الحديدة وطريق تعز- صنعاء، وطريق تعز- عدن، تماماً مثلما كانت موجودة في صنعاء، في مناطق “فج عطان” ومنطقة” الجرداء” و”نقم”، وبعضها ظل لسنوات طويلة صامداً في طريق المطار، وشارع القيادة، وجوار مباني الجامعة القديمة، وباحات المؤسسات والجهات الحكومية.

كان هناك عائلات فيتنامية قدمت إلى تعز، بمبادرة من الرئيس الحمدي، وكان يقال إنهم أبناء وأحفاد مهاجرين قدامى قادتهم السفن إلى بلدان شرق آسيا، وفي روايات أخرى إنهم أبناء ليمنيين عملوا ضمن القوات الفرنسية والأمريكية في سنوات الحرب الفيتنامية

واحد من أقربائي الناصريين مرَّ في إحدى سفراته من الحديدة على الدكان، وكان يلبس الزيّ العسكري، ولم يكن عسكرياً في الأصل؛ حدثنا، وبحماس مفرط، عن المنقذ الأكبر الذي رفع معاشات الجنود والموظفين وحارب الفساد، وعلى يديه ستخرج اليمن من نفقها المظلم، وكنت شديد الإعجاب بحديثه. كانت تلك البدلة ذاتها التي ارتداها بعد ثلاثة أعوام، والتحق بقوات المظلات التي أعلنت تمردها على الرئيس الغشمي، وارتبط تمردها بـ”أحداث الحُجَرية” الشهيرة في العام 1978، وعلى إثرها غادر إلى عدن، التي عاد منها مطلع الثمانينات وقد تفجَّر بداخله الشعر العذب؛ عن المناضل المرحوم أحمد سعيد الشيباني أتحدث.

بدأت تظهر العملة المعدنية الفضية: فئة الريال، نصف الريال، وربع الريال، وحتى فئة الفلس الواحد –الريال يساوي مئة فلس- وظهرت فئات العملة الورقية: ريال واحد، خمسة ريالات، عشرة ريالات، عشرين ريالاً، وفئة الخمسين ريال. كانت جميع فئات العملة تحمل رموز وصور آثار يمنية. كان الأمل يتضاعف لدى الجميع بعد أن بدأت الأموال تجري في أيدي الناس، وأحوالهم المعيشية تتحسن. في تلك الفترة كنا في الدكان نستقبل ونودّع العديد من الشبان والرجال من أهالي قرانا، وهم في طريقهم إلى المهاجر الجديدة في السعودية والخليج، أو عودتهم منها. ونشاهد أو نسمع بحوالاتهم المالية التي تصل عن طريق مكتب الصراف والوكيل “أحمد محمد بغلف” القريب، ويوصل إشعاراتها أحد العاملين فيه، وقد نشارك بإرسال البرقيات والرسائل إليهم عن طريق شركة البرق أو مكتب البريد بوصولها وتوزيعها حسب ما طلبوا؛ فقد كان صاحب الدكان “سعيد عمرو غالب” أشبه بوكيل لمغتربي أهالي المنطقة، وصادف تلك الفترة رخاء اقتصادي بسبب ارتفاع عائدات تحويلات المغتربين، وانفتاح السوق على سلع جديدة لم تكن حاضرة بتلك الكثافة من قبل، وتصل من دول الجوار، ومنها الأجهزة الكهربائية والمنزلية والفواكه ومعلبات الأغذية، أتذكر إلى الآن عبوات كرتونية أسطوانية تحتوي دجاجاً محفوظاً، كنا نعرضها في الدكان، وأتذكر جارنا سعيد المخلافي وهو يبيع الموز الصومالي والأناناس الإندونيسي والبرتقال المغربي.

أُجبرنا ذات مرة، ونحن أطفال، على ترك المدرسة للاصطفاف أمام القصر الجمهوري، ورفع الأعلام وصوراً لرؤساء، مع صور الحمدي، وكانوا في طريقهم لعقد قمة تتعلق بأمن البحر الأحمر، هندَس لها الحمدي في سياق تكتلات إقليمية فرضتها طبيعة الحرب الباردة آنذاك

لم أزل أحتفظ من تلك الفترة بصور متعددة عن عودة بعض العائلات الفيتنامية من أصول يمنية إلى تعز، بمبادرة من الرئيس الحمدي، وكان يقال إنهم أبناء وأحفاد مهاجرين قدامى قادتهم السفن إلى تلك البلدان المجهولة في شرق آسيا، ويقال في روايات أخرى إنهم أبناء ليمنيين عملوا ضمن القوات الفرنسية والأمريكية في سنوات الحرب الفيتنامية، وبعد أن غادرت الحرب خطاياها أعادتهم تلك الدول إلى مواطن آبائهم الأصلية وتكفّلت بالإنفاق عليهم. أسكنوا تلك العائلات في مبانٍ لوحدة سكنية شعبية أنشئت في منطقة أسفل مبنى قصر الشعب في فرزة صنعاء، وكان يقال لها مدينة العمال. حينما كانت تحضر نساء تلك العائلات إلى السوق للتبضع يخلقن جواً من البهجة، فقد كنّ يدفعن بسخاء في بداية الأمر ولا يساومن في الأسعار، ويتقبلن فضول المتسوقين وأصحاب المحلات وعمالها، وحتى تحرشاتهم العفوية كن يستقبلنها بابتسامات ودودة.

بعد أشهر قليلة من إقامتها في هذه الوحدة، بدأت بعض العائلات بمغادرتها إلى مساكن في وسط المدينة، حين كانت لم تزل تصلها إعانات دولية. قليلٌ من هذه الأسر بدأت بالذوبان في المجتمع المحلي، وقامت بتزويج بناتها ليمنيين، وبعضها غادرت إلى مدن أخرى، والمحظوظة منها غادرت اليمن إلى فرنسا. وحين انقطعت الإعانات أو المعونات، بدأت هذه العائلات تعتاش من فتحها لمطاعم في أنحاء المدينة، وكان لنظافتها وطرق تحضير الوجبات فيها من قبل النساء عوامل جذب إضافية للزبائن.

أُجبرنا ذات مرة، ونحن أطفال، على ترك المدرسة عصراً، بكراريسنا وسندويتشات الجبن التي وُزعت علينا، في طوابير طويلة راجلة يتقدمها ويشرف عليها المدرسون إلى منطقة “الكمب”- شرق المدينة، حيث يقع القصر الجمهوري “قصر الشعب”. تم إخراجنا من الفصول للاصطفاف أمام القصر، ونحن نحمل الأعلام وصوراً لرؤساء عديدين، أتذكر منهم جعفر نميري، مع صور الرئيس الحمدي، وكانوا في طريقهم إلى القصر، عرفت لاحقاً أنهم كانوا بصدد عقد قمة تتعلق بأمن البحر الأحمر، هندَس لها الحمدي في سياق تكتلات ومحاور إقليمية فرضتها طبيعة الحرب الباردة آنذاك.

في تلك الفترة نشرت صحيفة الجمهورية في إحدى صفحاتها الداخلية قائمة بأسماء المتبرعين من أهالي منطقتي –بني شيبة الشرق– لشقّ طريق مختصر يصل المنطقة بطريق الإسفلت ويمر عبر جبلٍ وعر، وكان هذا التبرع في إطار مبادرات هيئات التطوير الأهلي “التعاونيات” في مناطق الريف اليمني، والتي كانت واحدة من ركائز التنمية في المجتمعات المحلية في زمن الحمدي، وأتذكر واحداً من تنويريي المنطقة تبرع باسمه الذي أُلحق بـ و”حرمه” كمتبرعة، في فعل لا يُقدم عليه إلا شخص كبير.

كنت في تلك المرحلة مهووساً بالرسم، أرسم منازل وغابات وسيارات، وكنت أُقلِّد، مع صديقي محمد أحمد، رسمة موجودة في محل “الخطاط شكري” القريب من الدكان، وهي رسمة للرئيس الحمدي بنصف وجه بالبزة العسكرية وهو يؤدي التحية. وصلنا بعد محاولات عدة إلى رسم شيء قريب منها باستخدام الألوان الخشبية. وبمناسبة رسمة الحمدي، أتذكر أن تفاصيل الرسمة ذاتها تحولت بعد فترة وجيزة من مقتل الحمدي إلى ملامح للرئيس الغشمي، بإضافة نصف شاربه لنصف الوجه مع تعديلات بسيطة جداً في الملامح لا يُكاد لمسُها، وبعد مقتله اختفت هذه اللوحة نهائياً من المحل.

****

في صباح تشريني باكر، لم أزل أحس بلسعاته الباردة تضرب وجهي الذي غسلته أول نهوضي من نوم ثقيل وأنا في طريقي إلى الدكان، كانت تملأ فضاء المدينة أصوات تسجيلات المقرئين المنبعثة من ميكروفونات المساجد. وحين وصلت إلى الدكان كانت كل الآذان مشنَّفة إلى الراديو الذي يذيع بيانات نعي استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي، ورفعت المدينة الحزينة الخرق السوداء بدل الأعلام التي كانت لم تزل تحتفظ ببهاء ألوانها وسطوع نجمتها الخضراء الوحيدة، ولم يمضِ على تركيبها في الواجهات سوى أسبوعين بمناسبة احتفالات الذكرى الخامسة عشرة لثورة الـ26 من سبتمبر.

بعضٌ من أهالي منطقتي الذين عادوا من صنعاء إلى قراهم بعد اغتيال الحمدي، والذين كانوا يعملون ويسكنون في منطقة “باب اليمن”، حملوا في حقائبهم، إلى جانب ملابسهم وهداياهم، صوراً مختلفة بالأبيض والأسود -مزجَّجة ومحمية بلواصق كرتونية– للرئيس المغتال مع أبنائه ومع سالمين (الرئيس سالم رُبيِّع علي) ومع الجنود. صور مدنية وعسكرية عديدة له، وحملوا أيضاً الكثير من حكايات حزن صنعاء على اغتياله، ومنها البكاء المرير للمولّدين اليمنيين الذين كانوا يسمونه بالأب، ويروون مشاهداتهم للأحذية وهي تتطاير في وجه الغشمي -الرئيس الذي خلفه واتُّهم باغتياله- من قبل المشيعين الغاضبين الذين رافقوا جثمان الرئيس الحمدي وأخيه عبدالله إلى المقبرة القريبة من محل إقامتهم.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English