تجربة العمل التعاوني في اليمن

بين مصداقية الناس ومكر السياسة
أ. د. حمود العودي
June 14, 2020

تجربة العمل التعاوني في اليمن

بين مصداقية الناس ومكر السياسة
أ. د. حمود العودي
June 14, 2020
الصورة لمدينة الشهداء السكنية لذوي الدخل المحدود- سعوان- صنعاء

أولاً: أصالة العمل التعاوني في اليمن ودور الإرادة السياسية

1- معادلة التوازن والاختلال بين المركز والأطراف

إن مراحل وأشكال تعاون اليمنيين في العمل والإنتاج، وديمقراطيتهم في السلطة والحكم، لا تشكل حالات طارئة أو استثنائية في تاريخهم القديم والحديث، بل إن ذلك هو القاعدة الأساسية العامة التي اقترنت بوجودهم نفسه على هذه الأرض، وبأكثر مراحل تاريخهم وحياتهم استقراراً وازدهاراً وتوحّداً منذ فجر التاريخ وحتى الآن. أما غياب أو تراجع العمل التعاوني والحكم والسلطة الديمقراطية الرشيدة، فهو الاستثناء الذي ارتبط بكل مراحل وحلقات الضعف والتمزق والتخلف في تاريخهم القديم والوسيط والحديث أيضاً. وهذا ما فتح الأبواب أمام أطماع الغزاة من الخارج والطغاة والمتجبرين من الداخل، بدءاً بأطماع الغزاة من الأحباش والفرس، مروراً بالأتراك والإنجليز من الخارج، وانتهاءً بطاغوت الإمامة والسلاطين من الداخل.

فديمقراطية السلطة والحكم التي يجسدها قول الخالق عز وجلّ على لسان ملكة سبأ بقولها: “يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون”، وتعاون العمل والإنتاج الذي بفضله بنيت جنة سبأ كواحدة من أبهى حضارات التاريخ البشري القديم على هذه الأرض بصفة عامة، هي المعادلة الإيجابية التي كانت ولم تزل تحكم خصوصيات وسائل وأدوات الإنتاج المتعلقة بطبيعة الأرض ومواردها الاقتصادية والطبيعية من جهة، وعلاقات الإنتاج المتعلقة بالإنسان وأساليبه وأنظمته السياسية والاجتماعية والاقتصادية في استثمار وتشغيل وتوزيع هذه الموارد على أسس ديمقراطية وتعاونية عادلة من جهة أخرى. وإن غياب هذه المعادلة أو الإعراض عنها بدافع انفراد الحاكم بسلطة ديكتاتورية ولاديمقراطية وإلغاء دور المجتمع، أو نزوع المجتمع نفسه إلى إضعاف الدولة والوحدة الوطنية العامة بدوافع مناطقية أو إقليمية أو قبلية أو طائفية متخلفة، لهي المعادلة التاريخية السلبية التي لا تنتهي المعركة فيها إلى غالب ومغلوب فقط، بل إلى هزيمة الكل وخراب كل شيء. وكفانا حجة على كل ذلك مصداقية قوله تعالى: “لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل”. صدق الله العظيم. (سورة سبأ الآية ۱۰،۱۹).

2- حيثيات وأسباب معادلة التوازن والاختلال

أما إذا تساءلنا عن الأسباب الاجتماعية والموضوعية المتعلقة بهذه المعادلة بشقيها السلبي والإيجابي، فإنها تكمن في طبيعة تكوين الأرض المتضرسة ومواردها الطبيعية المحدودة وغير المستقرة، والتي لا تعطي من الخير المادي إلا بقدر ما يبذل فيها من الجهد البشري التعاوني المنظم. وبناء على ذلك، فقد كان وما يزال على كل من يُخلق على هذه الأرض أن يعمل بالضرورة كي يعيش ويتطور. ولنفس السبب، تضاءلت كثيراً كل إمكانيات انقسام المجتمع إلى فئات أو طبقات محكومة تعمل وتنتج مقابل فئات وطبقات أخرى حاكمة تستهلك فائض إنتاج غيرها ولا تنتج، بل الكل في قوام الدولة والمجتمع كانوا شركاء في السلطة والعملية الإنتاجية وتوزيع الناتج على السواء، وعلى قاعدة الديمقراطية في الحكم والتعاون في العمل والإنتاج، في كل مراحل الاستقرار والازدهار والتوحّد القديم والحديث.

والعكس بالعكس صحيح، حينما تحاول الدولة إلغاء دور المجتمع تحت دوافع المصالح الفردية أو الطبقية والعائلية المستبدة، أو تحاول في المقابل فئات المجتمع إضعاف الدولة الوطنية العامة أو إلغاءها تحت دوافع المناطقية والإقليمية والقبلية المختلفة، حيث لا ينتهي الطرفان إلى غالب ومغلوب، بل إلى هزيمة الكل ودمار كل شيء. ولقد كانت السلطة الأمامية المستبدة في الشمال والسلاطينية الاستعمارية المستغلة في الجنوب، هي آخر نماذج التجسيد البارز لكل من طرفي المعادلة السلبية بطغيان المركز في الشمال وتمزيق الأطراف للمركز في الجنوب.

3- الثورة والجمهورية كمعادلة إيجابية مقابل الإمامة والاستعمار كمعادلة سياسية

ومما لا شك فيه بأن انطلاق الثورة اليمنية مع مطلع ستينيات القرن العشرين المنصرم، بمبادئها الستة المؤكِّدة على إلغاء النظام الفردي الملكي المستبد، وإقامة النظام الجمهوري والمجتمع الديمقراطي التعاوني العادل، وتحقيق الوحدة اليمنية على طريق تحقيق الوحدة العربية… إلخ، قد كانت هي نهاية تاريخ المعادلة السلبية لسلطة الفرد وإلغاء دور المجتمع، وبداية تاريخ المعادلة الإيجابية لسلطة الشعب ودوره في بناء الدولة والمجتمع، وعلى الأسس الديمقراطية والتعاونية، وإذا كان النظام الأمامي المستبد والاحتلال الاستعماري المستغل قد انتهيا إلى غير رجعة وتوطّد النظام الجمهوري والوحدة اليمنية إلى الأبد، فإن إقامة مجتمع تعاوني ديمقراطي عادل ما تزال هي المهمة الجاري تأسيسها وتوطيدها حتى الآن، والتي يتجلى فيها دور العمل التعاوني بوضوح.

4- العمل التعاوني كتطبيق للهدف الرابع من أهداف الثورة

بعد قيام الثورة وتحقيق الاستقلال، كان النظام الجمهوري في كلا الشطرين قبل قيام الوحدة اليمنية المباركة، أمام تحدٍّ صعب فيما يتعلق بتحقيق الهدف الرابع من أهداف الثورة المتعلق بإقامة مجتمع تعاوني متطور، والذي كان يتطلع إليه الشعب في مجال التنمية الاجتماعية بكل أبعادها الصحية والتعليمية والمعيشية، والقضاء على عزلته الداخلية والخارجية المزمنة، بالنظر إلى محدودية الموارد والإمكانيات الرسمية للدولة من جهة، وثقل المؤامرات الخارجية على الثورة والجمهورية وأعباء الدفاع عنها من جهة أخرى، والتي أعاقت كثيراً إمكانية الانطلاق بمسار التنمية الاجتماعية طوال عقد الستينات بما يتناسب وتطلعات المجتمع وتعويض الحرمان المزمن من مثل هذه التنمية. فكان أن لجأت الدولة المعبرة عن مصالح المجتمع مع بداية السبعينات إلى المجتمع نفسه كي يقوم بدوره كشريك في التنمية والعمل والإنتاج، كما هو شريك في السلطة، وأن يجنّد كامل إمكانياته المادية والمعنوية في مواجهة هذا التحدي من أجل بناء حياته الجديدة بنفسه ولنفسه. وكان العمل التعاوني بمختلف أشكاله المباشرة وغير المباشرة هو قاعدة الانطلاق وعامل الحسم في هذا التحدي منذ مطلع السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، وبما لا يستطيع أحد إنكاره أو التشكيك فيه، وعلى مستوى عموم الساحة اليمنية شمالاً وجنوباً، مجسداً واقع وحقيقة كل ذلك في ثورة تنموية اجتماعية واقتصادية وأخلاقية شاملة، وبفلسفة ورؤية يمنية خالصة أذهلت المحيط الإقليمي والدولي، وذلك تطبيقاً للهدف الرابع من أهداف الثورة الستة، والمتعلق بإنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمداً لأنظمته من روح الإسلام الحنيف.

مع منتصف الثمانينيات، وتغيير المسار السياسي نحو قبْيَلَة الدولة ومأسسة الفساد، كان العمل التعاوني في الشمال هو الضحية الأبرز لمراكز القوى القبلية، وتيار اليمين الرأسمالي المستغل من الداخل والخارج، بحجة أن العمل التعاوني ما هو إلا رأس حربة لليسار الشيوعي المتطرف في الجنوب

5- دور الإرادة السياسية في نجاح العمل التعاوني أو إفشاله

ولقد كان من بين أهم عوامل نجاح العمل التعاوني هو وجود الإرادة السياسية الراعية من قبل كل من الشهيدين إبراهيم الحمدي في الشمال وسالم ربيع علي في الجنوب، اللذين مثلت مرحلة وجودهما على رأس السلطة، العامل السياسي الأهم، لا لمجرد رعاية وتشجيع العمل التعاوني كرؤية استراتيجية للشراكة الشعبية في التنمية فحسب، بل ونواة أول محاولة لبناء الدولة المدنية المنشودة لليمن الموحد، واللذين دفعا حياتهما ثمناً لكل ذلك أمام مؤامرات جحافل القوى الرجعية والقبلية والمناطقية المتخلفة، والاتجاه بدلاً من ذلك نحو “قبْيَلة الدولة ومَأسسة الفساد” التي ما يزال الشعب اليمني يعاني من ويلاتها حتى اليوم.

ومع منتصف الثمانينيات، وبعد انتهاء سالم ربيِّع والحمدي، وتغيير المسار السياسي بعدهما في الاتجاه السلبي نحو قبْيَلَة الدولة ومأسسة الفساد، كان العمل التعاوني في الشمال هو الضحية الأبرز لمراكز القوى القبلية والرجعية المتخلفة في الداخل، وتيار اليمين الرأسمالي المستغل من الداخل والخارج، بحجة أن العمل التعاوني ما هو إلا رأس حربة لليسار الشيوعي المتطرف في الجنوب، حيث تمت تصفية تجربة العمل التعاوني بالطرق المباشرة وغير المباشرة منذ منتصف الثمانينيات وحتى مطلع التسعينيات.

6- التعاون والمناكفات السياسية بعد الوحدة

ومع إشراقة الوحدة المباركة التي حاول التعاونيون استئناف حركتهم في ظلها، بحيث طرح أكثر من 1500 شخصية قانونية، مشروع قانون جديد لاستئناف شركة هيئات التعاون الأهلي للتطوير على مستوى الوطن الموحّد، ثم تقديمه لمجلس النواب لمناقشته وإقراره، وهي المرة الأولى التي تم تقديم قانون للمجلس من جهة غير حكومية.

إلا أن المماحكات السياسية بين أطراف السلطة السياسية الثلاثة (الاشتراكي والمؤتمر والإصلاح) قد حال دون ذلك، حيث نظر الاشتراكي بغباء للحركة التعاونية باعتبارها بديلاً عن مشروعه المتعلق بالحكم المحلي واسع الصلاحيات، ونظر إليها الإصلاح باعتبارها هدماً لأحد أركان الدين الإسلامي، أو أركان الإسلام السياسي على الأصح، لأنها ستستولي على نسبة كبيرة من الزكوات المحلية وإخراجها من يد “ولي الأمر” الذي هم المكلفون به وحدهم بدون منازع[1].

أما المؤتمر الشعبي العام، أو قيادته الشخصية على الأصح، فقد كان أكثر مزايدة على الاثنين، حيث تبنى الفكرة ككلمة حق يراد بها باطل، لأنه هو من حفر حفرة دفن الحركة التعاونية في أواخر الثمانينيات، أو جُرّ إلى ذلك جهلاً من حيث لا يدري، وضاعت الجهود المبذولة وسط المماحكات والمكايدات السياسية.

7- التعاون في مؤتمر الحوار الوطني وما بعده

ومع إشراقة الثورة الشبابية السلمية والإجماع الوطني في مؤتمر الحوار على تبني بناء يمن اتحادي جديد، يعود التعاونيون لطرح مشروعهم من جديد، باعتباره التجسيد الحق والوحيد لمفهوم النظام الاتحادي والفدرالي على مستوى المحليات، والتطبيق العملي للشراكة الحقة في السلطة والثروة. وذلك ما تم طرحه في دراسة علمية متكاملة عن النظام الاتحادي كطريق لبناء الدولة المدنية الحديثة، قمنا بإعدادها من وجهة نظر المجتمع المدني وتبنتها حكومة الوفاق، وتم من خلالها تأكيد حقائق نجاح التجربة التعاونية كثورة تنموية وأخلاقية شعبية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، بدعم ورعاية سياسية وطنية، وكيف تم إجهاضها بعمل ورعاية سياسية أيضاً، ولكن غير وطنية، وأهمية استعادة وتطوير دور الحركة التعاونية في ظل اليمن الاتحادي الجديد، وبناء الدولة المدنية المنشودة. لكن رياح الشر قد جرت بما لا تشتهي سفن الخير، حيث تم الانقلاب على مخرجات مؤتمر الحوار ممن حضروه ووقعوا على مخرجاته، وبرزت إلى السطح خيارات القوة والحرب بدلاً من السلام، والهدم بدلاً من البناء، والتعاون على الإثم والعدوان بدلاً من البر والإحسان المفروض على شعبه من الداخل والخارج حتى الآن.

تشير الإحصاءات الكلية إلى أن إجمالي شق الطرق الترابية المرصوصة وحدها قد تجاوز الخمسين ألف كيلومتر في عمق أعماق الريف اليمني وأكثرها عزلة وتضرّساً

ثانياً: نماذج من إنجاز العمل التعاوني

جدول رقم (1) يوضح حجم إنجاز هيئات التعاون الأهلي للتطوير في المرحلة الثالثة 1978-1981 في المحافظات الشمالية

(المصدر مختصر من إحصاءات إدارة التخطيط قسم البحوث والإحصاء للاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير) مع أهمية ملاحظة أن الدولار وقتها لم تكن قيمته تتجاوز أربعة ريالات.

في الجدول السابق يتضح أنه مجرد نموذج من الإنجاز التنموي للثورة التعاونية خلال أربع سنوات فقط ما بين عامي 78/1981، في مجال الطرق والتعليم والمياه والصحة والتشغيل والصيانة، وهي المرحة الثالثة سبقتها مرحلتان وتلتها مرحلة لا يقل أي منها إنجازاً عما أشير إليه في هذا النموذج، حيث تشير الإحصاءات الكلية إلى أن إجمالي شق الطرق الترابية المرصوصة وحدها قد تجاوز الخمسين ألف كيلومتر في عمق أعماق الريف اليمني وأكثرها عزلة وتضرساً، وفُكت بذلك عزلة مناطق اليمن الداخلية لأول مرة في التاريخ. وإن الثلاث العواصم الرئيسية للجمهورية العربية اليمنية قبل الوحدة: صنعاء وتعز والحديدة، لم تعرف مشاريع عدادات مياه الشرب المنزلية لأول مرة في تاريخها إلا كمشاريع تعاونية ناجحة تحولت بعد ذلك إلى مشاريع حكومية فاشلة حتى الآن، ولم يكن التعاون في جنوب الوطن بأقل شأناً من شماله، حيث استطاع التعاون الإنتاجي الزراعي والسمكي أن يؤمن أكثر من 40% من الناتج القومي، كما استطاع التعاون الاستهلاكي أن يؤمن احتياجات السواد الأعظم من الناس بكرامة وبأقل تكلفة، لأكثر من عشرين عاماً من عمر إدارة الحزب الاشتراكي قبل الوحدة وبعد الاستقلال.

كما تأسست بالعمل التعاوني البذور الأولى للديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية العميقة في اليمن، من القاعدة إلى القمة. ويكفي أن وزراء ونواب رئيس وزراء كانوا يستقيلون من مناصبهم كي ينافسوا على عضوية مجلس إدارة الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير، ناهيك عن مجالس تنسيق المحافظات وهيئات تعاون المديريات، وحتى لجان العُزَل والقرى، كأصدق وأنقى تجرية ديمقراطية في تاريخ اليمن والوطن العربي، بل والعالم الثالث، وبشهادة وإقرار العدوّ قبل الصديق في الداخل والخارج، وكل ذلك موثق في دراسات وأبحاث أكاديمية محلية ودولية.

ثالثاً: من تعاون البرّ إلى تعاون الإثم والعدوان

أما اليوم فإن زغاريد وطبول الفرح التي كانت تدقّ كل صباح للانطلاق نحو العمل التعاوني في شق الطرق وبناء المدارس والمستوصفات ومشاريع المياه والتشجير، صارت تدقّ اليوم للحرب والقتل والزغاريد على أشلاء وجثث الضحايا من الأطفال والنساء والرجال. تفر بالشيطان لا للرحمن، وصارت أصوات المدافع والمتفجرات التي كانت تهدّ الجبال لفتح الطرق وبناء المشاريع للحياة، هي التي تسمع اليوم كمعاول للهدم والخراب والدمار العبثي من الداخل والخارج ليل نهار. وبدلاً من زغاريد وأغاني “حنّ قلبي للزراعة” و”شجّروها شجّروها أرضنا ذات الجمال”، لم تعد تسمع أكثر من زوامل “ما نبالي ما نبالي حن قلبي للجرامل والأوالي”. وبدلاً من مواكب افتتاح الطرق والمشاريع، حلّت مواكب جنائز القتلى وافتتاح المقابر. فهل يمكن القول، مع كل هذا، بنهاية كل شيء، وأن لعنات التاريخ قد تجمعت وحلت بنا اليوم من جديد، بدءاً من لعنة “تفرق أيدي سبأ” ودعوتهم “ربنا باعد بين أسفارنا” في الماضي البعيد، مروراً بلعنة الثلايا وهو يقول تحت سيف السفاح والناس تصفق من حوله: “لعنة الله على شعب أردت له الحياة فأراد لي الموت”، وصولاً إلى لعنة الشيخ الفاضل محمد أحمد نعمان وهو يُجَرّ مع رفاقه إلى سجون حجة والناس يلعنونهم ويقذفونهم بالحجارة طوال الطريق، فقال بحزنه العميق: “شعب إذا ضرب الحذاء بوجهه صاح الحذاء بأي ذنب أُضرب”، وانتهاء إلى لعنة الله علينا في الحاضر بدلاً من بني إسرائيل في الماضي، لأننا لا نتناهى عن منكر السياسة والسياسيين فقط، بل ونأتيه معهم من كل أبوابه، بدءاً من الحرب العبثية وضجيج الكراهية المقيت وحتى قطع الطرق والحقوق والأسباب المعيشية للناس، والتي لم يكن البعض شريكاً فاعلاً فيها جهلاً أو تجهيلاً فحسب، بل ولأن الأغلبية ساكتين على كل ذلك، ناسين أو متناسين قول رسول الأمة والإنسانية بأن “الساكت عن الحق شيطان أخرس”.

يتوجب حمل السلطات على الاحتكام لرأي ومصلحة الأغلبية الصامتة من الشعب والمجتمع المدني في مصالحة يمنية- يمنية نابعة من الداخل، وبالاستناد للثوابت الوطنية وماتم التوافق عليه في مؤتمر الحوار، والمفردات الإقليمية والدولية

رابعاً: تدافع البشر هي سنة الحياة وضمان استمرارها

أنا عن نفسي، وأمام كل هذه التساؤلات المستفزة، لا أنكرها كحقائق، لكنني لا أسلّم بها كأقدار محتمة ولا شيء غيرها أو بديلاً عنها، وذلك انطلاقاً من يقين علمي وإيماني بأن الخير والشر قرينان لا ينفصلان، وأن في مقدور كل إنسان أن يفعل من الخير بمقدار ما يمكن فعله من الشر، لمجرد أن فعل الخير والصحيح وفاعليه موجودون في حياتنا عبر الزمن، بدءاً بامرأة كانت تحكم بالشورى والديمقراطية قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة وتقول لشعبها بلسان رب العالمين: “يا أيها الملاء أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون”، مروراً بمن قال الله فيهم: “بلدة طيبة ورب غفور”، وقال فيهم نبيه: “أتاني أهل اليمن هم أرقّ قلوباً وألين أفئدة، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية”، وصولاً إلى من أضاؤوا مسيرة شعبنا الوطنية بدمائهم وأرواحهم من شهداء (48، 55، 61) وحتى سبتمبر 1962، وأكتوبر 1963، في مواجهة الظلم والاستبداد والاستعمار، وتحقيق انتصار الثورة والجمهورية والوحدة، وحتى مصابيح طريق حاضر ومستقبل اليمن الاتحادي الديمقراطي المدني المزدهر، بدءاً بفتّاح، والإرياني، والحمدي، وسالمين، مروراً بيوسف الشحاري، والربادي، وحتى عيسى محمد سيف، وجار الله، وأحمد شرف الدين، ومحمد عبدالملك المتوكل؛ ألا يكون كل هؤلاء وغيرهم من حجتنا في الخير في مواجهة الشر والانتصار عليه، وأن الأرض التي ولدتهم لم ولن تصاب بالعقم لتلد غيرهم ومن لا يقلّ عنهم عطاء وتضحية من أهل وطنه وإنسانيته. أنا لا أشك قطّ في ذلك، ولا يجب أو يحق لأحد أن يشكك في ذلك ما دام صراع الخير والشر هو سنة الله في خلقه وكونه، إذ “لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” صدق الله العظيم.

خامساً: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً

بل الأكثر من ذلك، أنه حتى صناع الشر أنفسهم، يجب أن لا نعدم الخير والصلاح فيهم، لأنه لا يوجد إنسان كخير مطلق ولا آخر كشر مطلق، ولكنها النسبة والتناسب. فمن غلب ميزان خيره على شره فهو الأقرب إلى الله وخيره لنفسه وللناس من حوله، والعكس بالعكس صحيح. وما من شك أن ساسة هذا الزمن العربي الرديء عامة واليمنيين خاصة، والذين لم يعد مجرد شرهم يغلب على خيرهم فحسب، بل وكادوا يصيرون هم الشر نفسه، إلا بمقياس لعنات الماضي والحاضر المشار إليها آنفاً فحسب، بل ومعيار جنون “الموت لأمريكا وإسرائيل”، وبلادة البحث عن الدواء في سمّ الإخوة الأعداء، وحتى البحث عن المغنم في تقسيم المقسّم، وبعودة إلى القروية بعد المزايدة على الأممية، وصار الكل في نقطة اللاعودة لإمكانية الاتفاق حتى علينا، من أجل مصلحتهم كحكام لا من أجلنا كشعب محكوم، بدلاً من استمرار الاقتتال بنا لصالح أعدائنا وأعدائهم على السواء في الرياض وطهران وأم القوين، وخصوصاً وأنه لم يكن ولن يكون هناك غالب ومغلوب أو منتصر أو مهزوم، فالكل مغلوب ومهزوم من نفسه بنفسه لصالح عدوّه الآخر. ولأن قدرنا أنهم منّا ونحن منهم، فإن من أوجب الوجوب نصر بهم على التخلص من شر أنفسهم علينا وعليهم بالدرجة الأولى عملاً بحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) القائل: “انصر أخاك ظالماً ومظلوماً، قالوا يا رسول الله، نحن نعرف كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً، قال: “أن تمنعه من ظلمه”، وذلك انطلاقاً من عدم مشاركتهم أو مجاراتهم على أفعالهم وشرورهم أولاً، وحملهم على الاحتكام لرأي ومصلحة الأغلبية الصامتة من الشعب والمجتمع المدني في مصالحة يمنية- يمنية نابعة من الداخل، بمعزل عن أي تبعية للخارج، وبالاستناد إلى الثوابت الوطنية العامة في الثورة والجمهورية وبالوحدة والدولة المدنية الحديثة، وبناء على ما تم التوافق عليه في مؤتمر الحوار الوطني، والمفردات الإقليمية والدولية ثانياً، وضمان تصالح وتسامح وطني شامل يحفظ للكل حقوقه وكرامته وسلامه مع الآخر ثالثاً، وبالاستناد إلى حقيقة أن هذا الوطن ليس ملكاً لأي من قلة المتصارعين بالباطل بأكذوبة حق من السماء أو صكّ وراثة من الأرض، بل هو ملك 30 مليون إنسان يمني، متساوين في الحقوق والواجبات.

عندها سوف لن نشتم الرائحة الزكية للذكرى، للثالث عشر من يونيو/ حزيران، التي تمر بنا هذه الأيام، بل وكل الروائح الزكية لـ26 سبتمبر 1962، و14 أكتوبر 1963، و22 مايو 1990، وحتى 11 فبراير 2011، وترجح بذلك كفة الخير في مواجهة الشر، وتعاون البرّ بدلاً من تعاون الإثم، والدين لله والوطن للجميع، “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله”، وإشعال شمعة خير من لعن الظلام.

[1] مع العلم أنه لا يوجد في الإسلام ولي أمر فردي بل هم جماعة “أولي الأمر” وليس ولي الأمر، لقوله تعالى “أطیعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم”، أي من نختارهم نحن، لا من يدّعون لأنفسهم الحق المقدس في السلطة من دون الناس أو بالوراثة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English