بين 25 و27 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1962، انعقد بالقصر الجمهوري بصنعاء مؤتمرًا اقتصاديًّا حضره العديد من رجال الأعمال (التجار) الداعمين لخط الثورة والجمهورية، والذين توافدوا إلى صنعاء من بلدان المهجر في شرق أفريقيا (الصومال والحبشة وكينيا وجيبوتي) ومن مدينة عدن، والقليل من الداخل اليمني، وكان لعبدالغني مطهر وزير التجارة، وعلي محمد سعيد وزير الصحة، وعبدالغني علي محمد وزير الخزانة، الدور الأساسي في هذا اللقاء -الذي صار في الأدبيات التاريخية أول مؤتمر لرجال الأعمال- وكان من أبرز توصياته إنشاء بنك وطني لدعم الاقتصاد الجديد الذي بشرت به ثورة سبتمبر.
في اليوم التالي لاختتام اللقاء، رُفع الاقتراح لرئيس الجمهورية عبدالله السلال، الذي بدوره أصدر قراره في الـ28 من أكتوبر 1962م بتأسيس البنك اليمني للإنشاء والتعمير (1)، الذي استلهم الحاضرون تسميته من تسمية إحدى مؤسسات التنمية الدولية التي تتبع البنك الدولي، على اعتبار أن البنك سيؤدي وظيفة حيويّة بذات الرؤية التي تقترحها لإعمار وبناء بلد خارج من ظلمات القرون(2).
تكونت أول هيئة تأسيسية أو جمعية تأسيسية للبنك اليمني من العديد من رجال الأعمال الذين حضروا الاجتماع، أو من الذين تم تزكيتهم من خارج الاجتماع ومن هؤلاء: هائل سعيد أنعم، عبدالله شمسان الدالي، علي حسين الوجيه، أحمد حيدر ثابت، أحمد عبدالله زيد، محمد سيف ثابت، عبدالصمد مطهر، شمسان عون، عبدالعزيز الحروي، عبدالله المحضار، وعبدالله علي العولقي، وغيرهم. وكان هؤلاء هم الذين ابتاعوا أسهم البنك في عدن، وصار معظمهم وكلاء للبنك، وعلى رأسهم علي حسين الوجيه (وكيل الحكومة الجديدة في عدن)، حيث قام بشراء ما مجموعه (13 ألف سهم).
يلاحظ هنا أن البيوت التجارية المعروفة في صنعاء لم تكن حاضرة هذا الملتقى، أو لم تظهر ضمن هيئة التأسيس الأولى، مثل بيوت (الثور وغمضان والسنيدار واليمانيّ والوتاري)، لكننا سنرى، وبعد أشهر قليلة، أن هذه البيوت -بعد اطمئنانها لثبات الجمهورية وصمودها وتعزُّز دور البنك في الحياة الاقتصادية- ستصير أحد المشغلات الحيوية في مسيرة البنك(3).
أحمد محمد نعمان: إذا أردنا صيانة هذا الشعب وصيانة كرامته بحق، فلنعفّ عن التسول والاستجداء، إنه تسول واستجداء مهما قلنا إنه معونات أو مساعدات
يقول الرئيس عبدالله السلال عن تأسيس البنك ودوره الريادي في الحياة الاقتصادية غداة ثورة السادس والعشرين من سبتمبر1962:
"عندما أصدرت القرار الجمهوري بإنشاء هذه المؤسسة، التي كنا نعوَّل ونؤمل عليها أملًا كبيرًا جدًّا في إنعاش الاقتصاد اليمني الذي كان وقتها تحت الصفر تقريبًا، ومن حسن حظ الشعب اليمني أن هذه المؤسسة قد قامت مع قيام الثورة اليمنية، وأنا متفائل جدًّا بهذه المؤسسة، لا سيما أنها اقترنت بقيام الثورة التي قفزت بشعبنا ألف سنة من تأريخه، والتي أنقذته من الحالة التي كان يعانيها: حالة البؤس، حالة الفقر، حالة العناء، حالة الضعف، حالة القهر، الحالة التي لا يمكن أن يقدّرها أو يعرفها إلَّا من عايش العصر والوقت التي قامت فيه ثورتنا المباركة- لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم الخالد العظيم، عندما وضعت حجر الأساس في صنعاء للبنك اليمني للإنشاء والتعمير، واحتفلنا عند افتتاحه احتفالًا كبيرًا وعظيمًا، وكان لا بد للبنك أن يعين الدولة ويقف بجانبها ويساعدها من الناحية الاقتصادية، لأني أعتقد أن أهم ما في الحياة هي الناحية الاقتصادية، فإذا لم تكن الناحية الاقتصادية مبنية على أساس سليم وصحيح، فأعتقد أن كل شيء في البلد لا يمكن أن يتم بخير، أو ينتهي بخير، وأتذكر أن البنك قام على شرط أن تكون الدولة مساهمة في تأسيسه بـ51% وبقية النسبة للمساهمين، وما دام البنك قام على هذا الشرط، فأنا في رأيي أن الدولة يجب عليها أن تفي بالتزاماتها؛ لأن الدولة لو تخلفت عن التزاماتها، فطبعًا المواطن لا بد أن يتخلّف". (ص 494)
في افتتاح الفرع الثاني للبنك اليمني في العاصمة صنعاء في منتصف العام 1971، والذي عرف بـ"فرع الصليحي" في شارع تعز، ألقى رئيس الحكومة وقتها الأستاذ أحمد محمد نعمان كلمةً بليغة ونافذة حملت الكثير من الرسائل، والأهم قناعته حيال الكثير من القضايا، حينما قال:
"لست مغتبطًا أن البنك اجتذب المال، ولكنه اجتذب العلم أيضًا، ولا أكتمكم ما يملأ نفسي من اغتباط واعتزاز وأنا أرى شبابنا الذين يبنون بعقولهم وخبرتهم الاقتصاد في بلادنا بواسطة هذه المؤسسة. ولقد كرمني رئيس إدارة البنك (الوطني) علي لطف الثور وقال: إنني تواضعت تواضعًا كبيرًا حينما حضرت لافتتاح هذا المكتب، وأنا لا أعتبر ذلك تواضعًا، بل واجبًا أسعى له بكل مشاعري وأحاسيسي ووجداني؛ لأنني واثق أنَّ هذا البنك سيكون من أهم وسائل الإنتاج والاستثمار والبناء والتعمير في بلادنا.
لقد قلتها بالأمس: إن شعبًا يعيش على الصدقات أو ينتظر المعونات والمساعدات من الغير، إنما هو شعب يمتهن نفسه، فإذا أردنا صيانة هذا الشعب وصيانة كرامته بحق، فلنعفّ عن التسول والاستجداء، إنه تسول واستجداء مهما قلنا إنه معونات أو مساعدات، بل نحن شعب يبني ويعمِّر داخل أرضه وخارجها؛ فعلينا أن نصون كرامة هذا الشعب وأن نسند هذا البنك وندعمه، وأن نحرص عليه؛ إنه أساس لصون استقلالنا. لا استقلال لأمة تعيش على صدقات أو معونات أو مساعدات أو ديون أو قروض". (ص 501 وما بعدها).
في هذه الكلمات القليلة، يمكن النفاذ إلى طريقة تفكير الأستاذ النعمان وقناعاته حيال استقلال الأوطان، التي ترتبط أولًا وأخيرًا بمعنى الإنتاج، وحين تكبل بالديون والقروض تتحول إلى أوطان تابعة ورخيصة.
شخَّص في كلمته القصيرة هذه، الدور الريادي للبنك -والذي حاولنا مقاربته في أكثر من سياق فيما مضى من هذا النص- وأنه كمؤسسة رائدة قامت بدورها المهني في اجتذاب رؤوس الأموال ودعم الاقتصاد الوطني وتأسيس بُناه الحيوية، وقامت بدورها الإداري باجتذاب الكثير من شباب البلد المتعلمين إلى مواقع التأثير في البنك.
علي محمد سعيد: بدأنا حركة علاقات عمل نشيطة، فكنا نتخذ من المقيل -سواء في بيت عبدالله حسن السنيدار، أو بيت محمد عبدالله الثور، أو في بيت حمود اليماني، أو بيت غمضان– مكانًا لبث الثقة المتبادلة بيننا وعكسها على البنك اليمني
عن علاقته بالبنك اليمنيّ للإنشاء والتعمير، يقول الشخصية السياسية والاقتصادية عبدالعزيز عبدالغني صالح، رئيس الوزراء السابق:
"التحقتُ بالبنك اليمني في نهاية العام 1967، كمدير عام للحسابات المركزية [بعد أيام قلائل من إقالة الحكومة الثانية عشرة التي ألفها محسن العيني مع انقلاب الخامس من نوفمبر 1967، والتي شغل فيها عبدالعزيز عبدالغني موقع وزير الصحة لمدة شهر ونصف الشهر، مثل بقية أعضاء الحكومة، بعد أن كان يعمل موظفًا في المؤسسة اليمنية للهندسة والمقاولات بصنعاء]، وكان رئيس البنك يومئذٍ وزير الاقتصاد الدكتور محمد سعيد العطار، وأحمد محمد ثابت، المدير العام للبنك، وبحكم ظروف النشاط الاقتصادي لتلك الفترة، كانت كل الأعمال التجارية وتمويل التجارة الخارجية تجري كليًّا عن طريق البنك اليمني، رغم أن العمل في البنك، في ذلك الوقت، كان يواجه ظرفًا عصيبًا نتيجة لكون حصار السبعين يومًا كان لمّا يزل جاثمًا على العاصمة صنعاء، كما أن المعارك ما زالت تدور داخل البلاد، ورغم أن القذائف كانت تصل إلى القرب من البنك اليمني على ساحة ميدان التحرير، فإن ذلك لم يرهب العاملين في البنك، بل زادهم شجاعة وإيمانًا في الدفاع عن البنك اليمني وعن الثورة والجمهورية وتجنيد أنفسهم لذلك، حيث انضم جزء منهم إلى منظمات المقاومة الشعبية(4) للدفاع عن صنعاء، بينما بقي الآخر يُسيِّر أعمال البنك". (ص 507 وما بعدها).
يتبع..
_____________________________________________
(1) يذهب الكثير من مؤسسي البنك إلى القول إن أهم الفاعلين في إنشاء البنك في القيادة العليا للبلد وقتها، كان نائب رئيس الجمهورية الدكتور عبدالرحمن البيضاني، ويقول محمد سيف ثابت في هذا الصدد: "الحق بالنسبة للدعوة إلى المؤتمر، فقد كان الداعي إليه، بل ومعلن تأسيس البنك اليمني وتحديد رأس ماله بعشرة مليون ريال ماريا تريزا، هو الدكتور عبدالرحمن البيضاني، وكانت أهم القرارات التي أصدرها هي تصفية البنك الأهلي التجاري السعودي، وكنا ضمن فريق التصفية".
(2) البنك الدولي للإنشاء والتعمير "هو مؤسسة عالمية تعاونية للتنمية تملكها البلدان الأعضاء البالغ عددها 189 بلدًا. وباعتباره أكبر بنك إنمائي على مستوى العالم، فإنه يساند رسالة مجموعة البنك الدولي من خلال تقديم قروض وضمانات ومنتجات إدارة مخاطر وخدمات استشارية للبلدان متوسطة الدخل والبلدان منخفضة الدخل المتمتعة بالأهلية الائتمانية، وكذلك من خلال تنسيق جهود الاستجابة والتصدي للتحديات الإقليمية والعالمية.
"أُنشئ البنك الدولي للإنشاء والتعمير في 1944، لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وانضم مع المؤسسة الدولية للتنمية، وهي الصندوق المعني بمساعدة أشد البلدان فقرًا، ليشكلا معًا البنك الدولي. ويعمل البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية للتنمية عن كثب مع جميع مؤسسات مجموعة البنك الدولي والقطاعين العام والخاص في البلدان النامية لإنهاء الفقر وبناء الرخاء المشترك"- ويكيبيديا.
(3) يقول علي محمد سعيد:
"وبحكم معرفتي بالناس، خاصة التجار منهم في صنعاء، بدأنا حركة علاقات عمل نشيطة، فكنا نتخذ من المقيل -سواء في بيت عبدالله حسن السنيدار، أو بيت محمد عبدالله الثور، أو في بيت حمود اليماني، أو بيت غمضان– مكانًا لبث الثقة المتبادلة بيننا وعكسها على البنك اليمني. كل يوم كان مقيلنا في بيت من البيوت التجارية في صنعاء". (ص 531)
(4) يقول حسين علي مصلح الحرازي أحد كوادر البنك البارزين: "ما زلت أتذكر دوري ودور محسن السري وفتح الأسودي في الإشراف على الشباب في المقاومة الشعبية. كانت مهمتنا تنحصر في توفير المواد الغذائية والتموين". (ص 737)