ليس كل سرد تاريخي قولا للحقيقة ، فهناك الكثير من الروايات التاريخية الشائعة التي نتداولها منذ قرون باعتبارها مسلمات ووقائع لا تقبل الجدل والمناقشة ، إذا ما أعدنا قراءتها الآن بميزان العقل والمنطق ، نجدها لا تعدو أن تكون وهما لا صلة له بالواقع والحقيقة.
لقد وصلت إلى هذه القناعة وأنا أتصفح كتاب ( قبيلة القرشية : عراقة الماضي وجمال الحاضر ) من تأليف أبي عبدالرحمن مختار بن جابر بن شجاب. والقرشية قبيلة تقع على الضفة الجنوبية لوادي رمع وتمتد من الشمال الشرقي لمدينة زبيد وحتى غربها .
السهل الذي تتقاسمه ثلاث تجمعات
وعلى الرغم من الجهد المبذول من قبل المؤلف الشاب – وحسبه أنه اجتهد وشق طريقاً بكراً لم يسبقه إليه أحد – إلا أنني كنت أتمنى أن يسهم هذا الكتاب في اجتلاء الحقيقة وتبديد الوهم والاضطراب الذي تكرسه بعض الروايات التاريخية المغلوطة المتعلقة بنسب هذه القبيلة وتاريخ المنطقة عموماً، لكنه للأسف لم يزد عن كونه ناقلاً عمن قبله ، فساهم بذلك في تكريس الوهم وتغييب الحقيقة التاريخية، ومرد ذلك في رأيي إلى أمرين هما:.
أولاً : جهل المؤلف بجغرافية تهامة وطبيعة نسيجها الاجتماعي ، فالكاتب في صـــ17يتحدث عن قبائل السادة الأهادلة الذين استوطنوا تهامة ، ويجعل الأشاعرة قبيلة مثلها مثل قبيلة المعاصلة وقبيلة القرشية وقبيلة بني مجيد ... ، فلا يفرق بين العائلة والقبيلة ولا بين القبيلة وتفريعاتها من بطون وفخوذ ... إلخ.
الأهادلة أسرة هاشمية من ذرية علي الأهدل بن عمر بن محمد القادم من العراق ، وهي بكل تأكيد ليست قبيلة توحد بين أبنائها الأرض والجغرافيا ، بل أسرة كبيرة متفرعة لا ينحصر وجودها في تهامة فقط
فالثابت والمجمع عليه بين المؤرخين والنسابة ، أن السهل التهامي الممتد من المخا جنوباً وحتى حلي بن يعقوب شمالاً تتقاسمه ثلاث تجمعات قبلية ، ففي الجنوب التهامي هناك الأشاعرة التي تمتد من المخا وحتى الضفة الجنوبية لوادي رمع ، وهناك عك بن عدنان في الوسط ، وهناك سعد العشيرة بن مذحج في الشمال التهامي وما يعرف بالمخلاف السليماني ، وكل واحد من هذه التجمعات القبلية تنقسم إلى بطون ، فبنو مجيد سكان المخا ليست قبيلة ، بل هي بطن من الأشاعرة ، يقول ابن السائب الكلبي في موسوعته (( جمهرة النسب)) ( وولد حيدة بن معدّ : مجيداً ، بطن عظيم دخلوا في الأشعريين فينسبون منهم ) [ صـ19 تحقيق د/ ناجي حسن ] ، والمعاصلة أيضاً بطن من الأشاعرة ينسبون إلى الركب بن أشعر ، وكذلك القرشية كما سنرى لا حقاً .
أما الأهادلة فأسرة هاشمية من ذرية علي الأهدل بن عمر بن محمد القادم من العراق ، وهي بكل تأكيد ليست قبيلة توحد بين أبنائها الأرض والجغرافيا ، بل أسرة كبيرة متفرعة لا ينحصر وجودها في تهامة فقط ، فهي تنتشر في الهضبة الوسطى وغيرها من المناطق اليمنية ، بل تمتد إلى خارج حدود اليمن ، فهناك فرع إسحاق الأهدل في الصومال وهناك أهادلة في بلاد الشام ( حلب ، اللاذقية ، ودير الزور) ... إلخ .
الأمر الثاني الذي أسهم في غياب الحقيقة التاريخية وتكريس الوهم هو التعصب للرأي والتحيز العاطفي المسبق إن جاز التعبير ، فالكاتب ومنذ السطر الأول في مقدمة كتابه يتحدث عن قريش ومكانتها ومكانة بني أمية فيها ، دون الحاجة إلى ذلك ودون أن يقتضي السياق هذا الحديث ، حتى يخيل للقارئ أن المؤلف بصدد الحديث عن قريش لا عن القرشية وعن تاريخ مكة المكرمة لا عن تاريخ منطقة زبيد ، بعد ذلك يسوق لنا في الفصل الأول مقارنة هزلية بين رأيين حول أصل القبيلة ليوهم القارئ بحياده وموضوعيته ، وتنتهي هذه المقارنة إلى ترجيح ما قد سبق وأن قاله منذ المقدمة عن الأصل الأموي لقبيلة القرشية ، وأن هذه هي الحقيقة التاريخية الراسخة والتي لا مراء فيها في رأيه.
قول يجافي التاريخ والجغرافيا
والقول بالأصل الأموي لقبيلة القرشية التهامية ، قول يجافي التاريخ والجغرافيا والعقل والمنطق ، والقائلون به يستندون إلى حكاية متناقضة لا أصل لها في التاريخ روج لها عمارة بن زيدان الحكمي الذي عاش في القرن السادس الهجري في كتابه المفيد في أخبار صنعاء و زبيد ، وتناقلها من جاء بعده من المؤرخين وكأنها حقيقية تاريخية ، هذه الحكاية تذهب إلى أن الخليفة المأمون أرسل شخصاً أموياً يدعى محمد بن عبدالله بن زياد ومعه رجلان أحدهما أموي أيضاً والآخر تغلبي ، وذلك على رأس جيش لقمع تمرد عك والأشاعرة ، وبعد أداء مهمته قام ابن زياد باختطاط مدينة زبيد وتأسيس دولة مستقلة عن الخلافة العباسية سنة 204هـ واتخذ الأموي وزيراً والتغلبي قاضياً ، ومن ذرية الأموي الوزير جاءت القرشية .
أين كان ابن زياد عندما أرسل المأمون هذا الجيش ؟ ولماذا لم يكلف المأمون ابن زياد – لو كان موجودا بالفعل – بإخماد هذا التمرد العلوي كما أخمد من قبل تمرد عك والأشاعرة
هذه الحكاية التي يتناقلها الكثير من المؤرخين باعتبارها حقيقة تاريخية ومسلمة لا تقبل الجدل ، دون أن يكلفوا أنفسهم مناقشتها وتقليبها على نار العقل والمنطق والتاريخ ، حيث يكفي التمهل عندها قليلا لتتكشف أمام المتلقي الكثير من الحقائق التي تشير الى زيفها ، ويكفي أن نشير إلى الحقائق التالية :
1) - قامت دولة بني العباس سنة 132هـ على أشلاء بني أمية الذين قتلوا وذبحوا ، ومن نجا منهم فرَّ إلى الأندلس حيث أقاموا هناك دولة قوية ظلت تناصب العداء للعباسيين ، فبنوا أمية لم يكونوا أعداء للعباسيين قبل قيام دولتهم سنة 132هـ وحسب ، بل ظل العداء والتنافس قائماً على كافة الأصعدة بين بغداد العباسية وقرطبة الأموية ، فهل من العقل والمنطق أن يسند أقوى خلفاء بني العباس ( المأمون) مهمة رسمية إلى قياديين من بني أمية : أحدهما حفيد زياد بن أبيه الذي نكّل بالهاشميين في زمن أخيه غير الشقيق معاوية بن أبي سفيان ، والآخر حفيد الخلفية هشام بن عبدالملك وابن العم المباشر لصقر قريش عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك مؤسس الدولة الأموية في الأندلس ؟ فهل كان بنو العباس يعانون من أزمة ولاة وقواد ؟
وهَبْ أن ذلك حصل وأن المأمون كان طيباً ومتسامحاً فهل يعقل أن يعلن هذا الأموي الطامح محمد بن عبدالله بن زياد التمرد على الخلافة العباسية وتشكيل دولة مستقلة – أو بتعبير المؤرخ الحضرمي انفرد بالحكم عن الخلافة العباسية – ولا يحرك الخليفة المأمون ساكناً؟ أولم يغضب المأمون من تمرد قبيلتي( عك والأشاعرة) وأرسل من يعيدها إلى حضيرة الطاعة ؟ فلماذا لم يغضب من تمرد ابن زياد ويرسل إليه من يؤدبه ؟ وهو – أي المأمون – الذي أرسل جيشاً إلى منطقة تهامة سنة 207هـ [ أي بعد ثلاث سنوات فقط من التأسيس المزعوم ] للقضاء على حركة علوية متمردة في تهامة بقيادة عبدالرحمن بن محمد كما يخبرنا بذلك الطبري في تاريخه [ تاريخ الطبري ج 8 صــ593 ت . محمد أبو الفضل إبراهيم ].
فأين كان ابن زياد عندما أرسل المأمون هذا الجيش ؟ ولماذا لم يكلف المأمون ابن زياد – لو كان موجودا بالفعل – بإخماد هذا التمرد العلوي كما أخمد من قبل تمرد عك والأشاعرة ؟
2) - حادثة بحجم استقلال دولة أو تمرد قائد على الخلافة العباسية في تلك الفترة المبكرة، ألا تلفت نظر المؤرخين المعاصرين لها ؟ فلماذا لم يذكرها أحد من مؤرخي القرن الثالث الهجري؟ وكل من ذكرها جاءوا في أواخر الخامس ( جياش بن نجاح 498هـ) وعمارة الحكمي في السادس ... إلخ.
3)- زبيد بلدة أشعرية كانت قائمة منذ العصر الجاهلي بحكم موقعها الاستراتيجي على طريق القوافل التجارية التي كانت تنشط بين أسواق الحجاز وأسواق عدن والشحر في الجاهلية، وبعد الإسلام أصبحت طريق الحاج اليمني والأسيوي ، ويكفي أن نشير إلى أحد علماء وأعلام هذه المدينة وتلميذ الإمام أحمد بن حنبل وهو أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي الذي يقول عنه مترجموه أنه تولى القضاء في مدينة زبيد وتوفى فيها سنة 203هـ ، أي قبل مجيء ابن زياد وتأسيسه المزعوم للمدينة، فهل يكون قضاءٌ إلّا في بلدة عامرة.؟
4) - بعد دخول الأشاعرة في الإسلام بنى لهم أبو موسى الأشعري مصلى وبئرا للشرب والوضوء ( مسجد الأشاعر حاليا والبئر الواقعة في غربه ) في وسط المدينة ، مما يعني وجود تجمع سكاني يعيش في بلدة زبيد في تلك المرحلة المبكرة ولم يبنيهما في العراء ، وهو ما يعني أيضا زيف وكذب الرواية التاريخية التي تزعم أن الخليفة المأمون وجه ابن زياد باختيار مكان مناسب لبناء مدينة زبيد ، فالمدينة موجودة قبل هذا التاريخ بمئات السنين .
5) - لم تكن هناك هجرات أموية إلى اليمن ، لا فردية ولا جماعية ، فقد كانت اليمن موئلاً لهجرات بعض الهاشمين الهاربين من الظلم والفتن أو الثائرين على حكم بني العباس ، وقد وجدوا في القبائل اليمنية النصرة والحماية والملاذ الآمن سواء في صعده أو صنعاء أو حضرموت أو تهامة.
6) - لم يقل لنا أحد من المؤرخين المروجين لحكاية محمد بن عبدالله بن زياد، لماذا تمردت عك والأشاعرة ؟ وبقيادة من كان هذا التمرد؟ وضد من الولاة العباسيين ؟ أم أن قصة التمرد كانت مبررا فقط لمجيئ ابن زياد .
7) - يذهب المؤرخون إلى أن الشراحيين كانوا هم ملوك زبيد وتهامة في القرن الثالث وتحديداً في الفترة ما بين 279 – 218 هـ وهم الذين سوروا مدينة زبيد [ نقلاً عن عبدالرحمن شجاع ] فأين كان الزياديون ؟
8) - يذهب بعض المؤرخين إلى أن هناك دولة زيادية قامت في زبيد في القرن الرابع الهجري بعد ضعف الخلافة العباسية ، وهي زيادية نسبة الى زياد بن محمد ( اليمني القحطاني ) القادم من مخلاف جعفر ( العدين حالياً) لا ابن زياد الأموي ، وهذا ما ذهب إليه قديما المؤرخ العربي ابن خلدون وبعض المؤرخين المعاصرين [ انظر على سبيل المثال تاريخ اليمن في الإسلام لعبدالرحمن شجاع ].
فرق لا يخفي بين العائلة والقبيلة
وكما أن زبيد كانت ولا زالت أشعرية بحكم موقعها ، فالقرشية أيضاً أشعرية ولا صلة لها بقريش إلا من حيث الجناس اللغوي. والقائلون بخلاف ذلك يتعامون عن الحقيقة والواقع ، ويكرسون الوهم ، ويزيفون التاريخ .
فعلى الرغم من أن القائلين بالأصل الأموي لقبيلة القرشية يختلفون في نسب الرجل القادم مع ابن زياد ، فصاحب هذا الكتاب ( قبيلة القرشية ) يجعله من ذرية الصحابي خالد بن أسيد الأموي ، ويجعله عمارة الحكمي من ولد سليمان بن هاشم بن عبدالملك ، إلا أنهم يتفقون في الجهل باسمه ، فهو نكرة في كل المصادر التي تحدثت عن الأصل الأموي للقرشية .
فما اسم هذا الرجل إذن ؟ وهل هناك قبيلة يمنية أو عربية لا تعرف اسم أبيها ومؤسسها ؟
قبيلة القرشية بطن من الأشاعرة بحكم الموقع والجغرافيا تسكن الضفة الجنوبية لوادي رمع الذي يحدده بعض المؤرخين ما بين المخا جنوباً والضفة الجنوبية لوادي رمع شمالاً
و الجهل لا يقتصر على اسم القادم وحسب ، بل يمتد ليشمل نسبه أيضاً فصاحب هذا الكتاب يجعله من ذرية الصحابي خالد بن أسيد الذي عاش في النصف الأول من القرن الهجري الأول ـ ويعتمد المؤلف في ذلك على بعض المؤرخين المتأخرين الذين تفصلهم عن حدث المجيء سنة 204هـ مسافة زمنية لا تقل عن ستة قرون ، دون أن يستطيع المؤلف أو من اعتمد عليهم أن يرفع نسب هذا الأموي المجهول بجده المزعوم خالد بن أسيد ، فهل كان تعيين جد هذا الرجل ضرب من التخمين والتنجيم ؟ وأي قبيلة لا يعرف الناس نسب مؤسسها؟ .
وحتى لو كان هذا الرجل معلوم الاسم والنسب ، فهل كان بمقدوره أن ينجب قبيلة يوحّد بين أبنائها الأرض والجغرافيا ؟
يحدثنا التاريخ عن هجرات قرشية فردية – وتحديداً هاشمية – جاءت إلى اليمن في القرن الثالث الهجري وما بعده ، كالإمام الهادي يحي بن الحسين الرسي الذي جاء إلى اليمن سنة 286هـ ، وبعده جاء أحمد بن عيسى المهاجر الذي استوطن حضرموت ، ومحمد بن سليمان جد الأهادلة الذي سكن وادي سهام ... إلخ ، وكل واحد من هؤلاء معروف الاسم وينتهي نسبه إلى قصي بن كلاب ، وكل واحد من هؤلاء أنجب أسرة كبيرة تشظت مع مرور السنين وتوزعت في مختلف مناطق اليمن بل وحتى خارج الحدود ، ولم ينجب أي واحد منهم قبيلة تستوطن رقعة جغرافية محدودة . فهناك فرق لا يخفي على أحد بين العائلة والقبيلة ، فالعائلة ولا شك دون القبيلة .
قبيلة القرشية – اذن - بطن من الأشاعرة بحكم الموقع والجغرافيا ، فالقرشية التي تسكن الضفة الجنوبية لوادي رمع ـ تقع ضمن النطاق الجغرافي لقبيلة الأشاعرة الذي يحدده بعض المؤرخين ما بين المخا جنوباً والضفة الجنوبية لوادي رمع شمالاً ، ويزيد بعض المؤرخين من مساحة هذا النطاق الجغرافي كالأستاذ الحضرمي الذي يقول ( وتتفرع من قبيلة الأشاعرة قبائل تقطن وادي زبيد وشمال رمع حيث تنتهي قبيلة الأشاعرة بوادي كويع جنوباً وشماله تبدأ قبيلة عك ) [ زبيد مساجدها : صــ29 ] .
والقرشية هي البطن الأشعرية المحاددة لقبيلة عك ، فهي من بطون التماس و المواجهة مع المعازبة ( الزرانيق حالياً) البطن العكية المشهورة ، ولا يزال الصراع بين هاتين البطنين على اقتسام مياه وادي رمع قائما حتى يومنا هذا .
وأخيرا هذه قراءة تفكيكية لروايات تاريخية تجافي التاريخ والواقع على الرغم من شيوعها وتناقلها قرونا عدة ، أقصد من ورائها تحريك الراكد في حياتنا العلمية والأكاديمية ، ودعوة مؤرخينا الشباب إلى إعادة النظر في الكثير من المسلمات التاريخية المتعلقة بتهامة واليمن عامة
* الصور في المادة من أرشيف فهد الأنباري