بنك البنوك وسنوات التأسيس الأولى (8)

حكاية أول تسهيل خارجي وأول تمويلين في الداخل كما يرويها أحد الرواد
محمد عبدالوهاب الشيباني
July 29, 2021

بنك البنوك وسنوات التأسيس الأولى (8)

حكاية أول تسهيل خارجي وأول تمويلين في الداخل كما يرويها أحد الرواد
محمد عبدالوهاب الشيباني
July 29, 2021

حينما حرر الأستاذ الدكتور سعيد الشيباني كتابه الرائد "البنك اليمني للإنشاء والتعمير 34 عامًا من العطاء التنموي 1962-1996م" بذل جهدًا واضحًا في التنقيب عن كثير من رواد العمل المصرفي الذين مروا على البنك في سنوات تكوينه الأولى، والذين أدلوا بشهادات في غاية الأهمية، والتي تحيل إلى سنوات الجمر التي كتبت التاريخ الجمهوري، ومن الشخصيات تلك (حسين على مصلح الحرازي) والذي يصفه صاحب الترجمة بـ"الهادئ، الصبور، المثابر، الحليم، السلامي، السلوك النزيه والشريف الصريح التصرف، والكاظم الغيظ حلمًا" ابن قريه كاهل في حراز.

ابتعث للدراسة في العام 1949م، بواسطة سيف الإسلام عبدالله ابن الإمام يحيى حميد الدين إلى بغداد على حساب الحكومة العراقية، وبعد إتمامه للدراسة، ابتعث إلى كلية ( برايتون – سسكس – بريطانيا) لدراسة اللغة الإنجليزية على حساب المملكة المتوكلية اليمنية بين عامي 1955-1957، ومنها عاد إلى عدن وليس إلى صنعاء، وعمل في وكالة (أنتوني بس) الفرنسي الشهير، وترقى في وظيفته حتى وصل إلى درجة مدير متقدم؛ وحين قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في العام 1962م، اتجه إلى صنعاء برفقة محسن حسين السري (القادم من بريطانيا)، ومحمد سعيد العطار (القادم من جمهورية فرنسا)، وتولى رئاسة مصلحة الجمارك لمدة تقترب من العامين.

يقول الحرازي عن هذه المرحلة:

"عند قيام ثورة سبتمبر 1962م، كنا أنا ومحسن السري في عدن، فتوجهنا بعدها على الفور إلى صنعاء، حيث عينت رئيسًا لمصلحة الجمارك، وكانت أول تعليمات أصدرتها فور استلامي لعملي ووجهتها على جمرك "الحديدة" وجمرك "الراهدة" هي: أن يتم تحويل وتوريد كافة إيراداتهما إلى فرعي البنك اليمني في كلٍّ من الحديدة وتعز، وكانت تلك أول علاقة بين البنك اليمني والحكومة، ولقد كنت أشرف على توريد هذه السيولة بنفسي والتي كانت تصل إلى حوالي 400 ألف ريال في الحديدة، و600 ألف ريال في تعز، وكانت هذه المبالغ بمقاييس تلك الفترة كبيرة جدًّا". 

يتذكر حسين الحرازي أيضًا، قصة أول تمويلين لمشروعين تنمويين أنجزهما البنك، وهما تمويل مصنع كندا دراي، وورشة الأسطى للنجارة، وما أفضى ذلك إلى بداية شرب الناس "كندا داري" الشهيرة وتأسيس الورشة الفنية الأولى للنجارة في صنعاء

بعد ذلك تعين نائبًا لمدير البنك اليمني فرع صنعاء في 21يوليو/ تموز 1964م، بقرار من المدير العام للبنك محمد سعيد العطار، حينما كان مقر الإدارة العامة والفرع في مبنى قديم (مباني السياني) في ميدان التحرير، وكان مدير الفرع وقتها عباس حسين الحبشي (أحد أعضاء البعثة التعليمية الثانية إلى العراق).

في أوائل 1965م، انتقل للإدارة العامة كسكرتير لرئيس مجلس الإدارة علي محمد سعيد ورافقه ومعه مدير عام البنك محمد سعيد العطار ووزير الزراعة المهندس علي محمد عبده في رحلة طويلة إلى أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية من أجل إنجاز بعض الاتفاقات لصالح البلد والبنك، وبدأت تلك الرحلة من يوغسلافيا للتباحث في إمكانية قيام الحكومة هناك بدعم مشاريع زراعية في المخا [في الغالب بعد تبني البنك إنشاء شركة المخا بالتشارك مع القطاع الخاص] أو الحصول على قرض سلعي تستخدم حصيلته لتمويل المشروعات الزراعية، لكن تصادف ذلك مع قيام مؤتمر (ايركويت - السودان) بين الجمهوريين والملكيين أفشل هذه الرحلة، فتوجه مع رئيس البنك إلى ألمانيا، بعد أن غادر وزير الزراعة إلى القاهرة والعطار إلى باريس، بعد أن تيقنوا جميعًا أن الرحلة فاشلة، وكلفت خزينة الدولة مبالغ طائلة، أو كما قال علي محمد سعيد في موضع آخر من الكتاب:

علي محمد سعيد

"وهنا تبينا أننا صرفنا عبثًا قيمة أربعة تذاكر، بالإضافة إلى تحمل الوفد فاتورة الإقامة في الفندق [بعد أن عاملهم الجانب اليوغسلافي كزوار وليس وفدًا رسميًّا بالرغم من حملهم رسالة من الرئيس السلال للجنرال جوزيف برس تيتو]، ناهيك عن النصَب العضوي وحالة الإحباط النفسي وخيبة الأمل التي أصبنا بها –وهو مبلغ لا يتجاوز ألف دولار أمريكي، لكننا استكثرناه على البنك؛ لأنه صرف دون مبرر، وربما ناتج استكثاري لهذا المبلغ عن حرصي على النقود- الذي أظهرته في عدم توقيعي إلّا على الأشياء الضرورية، بل كنت لا أتورع في أن أقول للإخوة في الوفد: إن البنك في أزمة ولا يحتمل إي إنفاق غير مجدٍ" (ص535).

في ألمانيا وقع البنك أول اتفاقية خارجية على الإطلاق، مع البنك الألماني الشهير (دوتش بنك/ هامبورج)، ودائمًا ما يفاخر حسين الحرازي بأنه مهندسها، ويقول علي محمد سعيد عن تفاصيل هذه الاتفاقية:

"وربما كان من حسن الحظ أن بنك (دوتش بنك) لم يكرم معاملتنا فحسب أو أبرز لنا كل مستندات حجم تعاملنا معه منذ أول يوم وهو أمر لا ينسى، بل شكروا للبنك حرصه على الوفاء بالتزاماته أولًا بأول رغم حجم عملياته الصغيرة. 

عبر المحادثات، طلبنا منهم أن يمنحونا تسهيلًا ائتمانيًّا محدد السقف، فأجابونا: خذوا ما تريدون بدون تحديد سقف، فنحن موافقون على كل ما تطلبون، فقلت لنفسي كيف أصدق ذلك؟ وشككت في ترجمة حسين الحرازي، الذي أكد لي صحة ترجمته، وإن البنك سوف يعزز موافقته بخطاب رسمي سيسلمونه لي؛ وفعلًا سلمونا رسالة رسمية يعززون بها ما قالوه في المقابلة حول منحهم إيانا تسهيلًا مفتوحًا" (ص 536).

حسين الحرازي

في استذكاراته لحالة ما بعد حصار صنعاء في العام 1968م، يقول عبدالرحمن الحرازي في سيرة الظل (التي حررها الكاتب):

"ومن نوادر ما بعد المصالحة أن الكثير من المشايخ الملكيين كانوا يجيئون إلى صنعاء مع مقاتليهم، ويعلنون ولاءهم للنظام الجمهوري، وكانت تسبقهم الطاسات والمرافع وينشدون الزوامل (كلمات شعر شعبي غارقة بالعامية أشبه بالزجل يؤديها مجموعة من المنشدين بإيقاعات لحنية محددة)، ويصلون إلى القصر الجمهوري، حيث تتم مراسيم استقبالهم، وتصرف لهم أموال كان يسميها أهل صنعاء (الزَلَج) ويغادرون بعدها مع مجاميعهم، فكان السكان حينما يسمعون الطاسات والمرافع والزوامل تتقدم المجاميع القبلية يقولون (وصل أصحاب الزَلَج).

تذكرت هذا السياق، وأنا أقرأ قصة الزلج مع سقوط صعدة بيد الملكيين في العام 1969م، فظهر أصحاب زلج الجمهورية، في قصة كان البنك اليمني طرفًا فيها، ويقول عن ذلك حسين الحرازي:

"بعد تعيين عبدالله الكرشمي رئيسًا للوزراء دخلت القبائل تطالب بالزلج، وكانت خزينة الدولة فارغة ورصيد الحكومة رقم (4) مكشوفًا، فقدم علي لطف الثور استقالته من وزارة الخزانة بعد أن أصر رئيس الوزراء على صرف مبلغ سبعة ملايين ريال، من رصيد بلا غطاء لعساكر وقبائل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر بعد سقوط صعدة بيد الملكيين، وكان لدى البنك مبلغ عشرة ملايين ريال بنكنوت ورقي (ورقة نقدية قديمة) محفوظة حينها بدون رصيد، واقترحنا على رئيس الوزراء إصدار هذا المبلغ للشيخ عبدالله لتلافي تفجير الوضع. واقترحنا أن يتم الصرف كاستثمار بدلًا عن الإصدار، بحيث يقدم للبنك اليمني مقابل تغطية الحكومة لمساهمتها في رأس مال البنك التي لم تكن قد سددت بعد وغطيت بالكامل من قبلها.

طبعًا قُبل هذا الاقتراح، وجرى تنفيذ ذلك على أساس أن يستوفي البنك مساهمة الحكومة ويغطي الرصيد المكشوف، بالتالي، يستطيع البنك مواجهة التزامات الصرف، وأيضًا تغطية أسهمه في الشركة اليمنية للتجارة الخارجية، وشركة المحروقات، وشركة التبغ والكبريت، فوصل إلى البنك اليمني مبلغ ثمانية ملايين ريال من لجنة النقد التي لم يكن فيها حينذاك سوى سيف أحمد حيدر. وهذه من أهم المواقف التي ساهم فيها البنك اليمني للإنشاء والتعمير في حل الأزمة السياسية وقتذاك".

يتذكر حسين الحرازي أيضًا قصة أول تمويلين لمشروعين تنمويين أنجزهما البنك، وهما تمويل مصنع كندا دراي، وورشة الأسطى للنجارة، وعن الأولى يقول أن صاحب المصنع كان مغتربًا(*) وأتى بحماس مع المعدات وخلافه، لكنه لم يتمكن من الإنجاز، من حيث الأرض وتغطية الاعتماد لتمويل نشاطه، وكان حماس الرجل واضحًا، حيث أتى بعد الثورة مجازفًا بكل ما يملك، فما كان من الحكومة ممثلة بالرئيس عبدالله السلال إلّا أن أصدر أوامره بإعفائه من الرسوم الجمركية، وأصدر أمرًا للبنك اليمني لتمويل نشاطه بعد تعثره. وأضاف: هكذا كان بداية شرب الناس كندا دراي في اليمن مصنعة محليًّا في مطلع الثورة.

وعن التمويل الثاني الذي منح لصاحب ورشة اسمه الأسطى، يقول الحرازي:

"كانت الورشة المكونة من مكينتين هي كل موارده ؛ ثم عجز عن الاستمرار فأرشده عباس الحِبْشي إلى اللجوء إلى البنك ففعل. ودعمه في ذلك، فتمكن من إقامة الورشة التي تطورت فيما بعد لتتحول إلى الورشة الفنية الأولى للنجارة في صنعاء، والتي شاركت في عملية بناء المدارس وتوفير المقاعد لصفوفها، وكذلك أعمال النجارة في معظم مشاريع الكويت لاحقًا". (ص 736)

_______________________________________

(*) بعد أن أغفل الراوي ذكر اسم صاحب المصنع، قمنا بالبحث في مجموعة أسماء، وتم ترجيح اسم (ناجي العُمري) العائد من المهجر، الذي لم يستطع استكمال مشروع بناء المصنع، وبقيت مكائنه مخزونة في منطقة القطيع بالقرب من باجل في محافظة الحديدة.

"يتبع"


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English