مسيرة اليمن وسيرة النوبي

كيف كان يسترجع الإمام الطعام من عائلات جنوده المتوفين؟
محمد عبدالوهاب الشيباني
November 26, 2020

مسيرة اليمن وسيرة النوبي

كيف كان يسترجع الإمام الطعام من عائلات جنوده المتوفين؟
محمد عبدالوهاب الشيباني
November 26, 2020

  أما السيرة فأرادها صاحبها متداخلة في المسيرة؛ لأن عمله في المواصلات والنقل لسنوات طويلة –منذ العام 1954- صار جزءًا حيويًّا من سيرة المهنة التي يوثِّق لها صاحب السيرة علي محمد النوبي منذ العام 1849، في اليمن. 

 منذ أيام قلائل غادرنا علي النوبي، تاركًا إرثًا وثائقيًّا في غاية الأهمية، احتواه كتابه "مسيرة اليمن والنقل والمواصلات خلال عهود طويلة". 

  السيرة أرادها أن تكون جزءًا من سيرة التحول في اليمن، أو هكذا وضعته الأقدار في مرجلها الساخن كمولد ونشأة وشاهد عفوي أيضًا. مولده كان في العام 1938، في حي البلقة ببير العزب بمدينة صنعاء؛ توفي والده في العام 1944، في منطقة الزُّهرة بتهامة، وهو في مهمة حكومية، وبعد وصول خبر موته ودفنه هناك، جاء أحد الجنود يطالب الأسرة بالقمح الذي صُرف لإعاشتهم؛ لأن هذا المصروف كان لشخص على قيد الحياة، وما دام قد توفي فعلى أسرته إعادة الطعام إلى بيت المال. يقول النوبي عن ذلك: "في اليوم الثالث من العزاء المتواصل وصل عسكري يسمى "العنقرية" على حمار مرسل من إمارة الطُّبشية (المدفعية)، لغرض استرجاع الطعام "السبارش"، وقدره "قدح ونصف حبّ"، الذي كنا قد استلمناه من شوانة "مخازن"، القصر قبل وصول التلغراف (بوفاة الأب)، بحجة أن السبارش للمستخدمين الأحياء". [ص 6].

  يروي النوبي أنه أثناء تحميل الحمار بالحَب المسحوب من البيت، دخلت على والدته بعض النساء من الجيران للتعزية، ومن ضمنهن زوجة التاجر اليهودي "أفرهام هارون" التي نقلت للأم تعازي العائلة، ونقلت أيضًا مسامحة التاجر اليهودي للمتوفَّى من دَيْنه البالغ تسعة ريالات، كان قد استدانها قبل وفاته بقليل. بعدها بأيام ذهب أحد مرافقي المتوفَّى إلى إمارة العُرضي لتسليم الأمانات التي كانت بعهدته أثناء مهمته في الزهرة، غير أن "عنقرية" آخر حضر إلى المنزل يطالب الأسرة بخمسة معابر "عَطَل" (خراطيش فارغة) كانت ضمن العهدة، ولم يكن أمام الأم سوى بيع بعض مقتنياتها لسداد قيمة المعابر.

  التحق هو وأخوه أحمد النوبي، بمكتب الأيتام الكائن أمام قصر السلاح حتى بلوغه الصف السادس، وكان عليهما أن يواصلا دراستهما في المدرسة المتوسطة، ولكن بسبب ازدحام المدرسة عادا لمكتب الأيتام للدراسة في فصول متقدمة، غير أن سيف الإسلام الحسن -نائب الإمام أحمد في صنعاء، "حينما تسلم معلومية تقرير الإدام (الأكل)، رفض ذلك وأمر بإلحاقنا وزملاءنا إلى الإنشاءات في أعمال البناء كنجارين و"موقّصين" (مشكّلين للأحجار)، ولم يناسبنا ذلك، فذهبنا بعده أثناء دورته إلى منطقة "علمان" شمال شرق قرية القابل، فراجعناه ونحن نلهث وراءه وهو على (حماره) وشكونا عليه، وكان رده علينا قاسيًا حينما قال: "ما دام وقد ختمتم الختمة وتعلمتم الصلاة، فما بقي لكم إلا أن تعملوا حيث أمرناكم بعد أن علمناكم وأطعمناكم لوجه الله ولمصلحتكم". [ص 42].

  بين التحاقه مع أخيه بمكتب الأيتام -بحكم شرعي يثبت فقر العائلة- وتخرجه منه في العام 1954، سرد المؤلِّف الكثير من الذكريات العفوية عن الثورة الدستورية في العام 1948، الكثير منها صار معلومًا إلا بطريقة عرضه غير المتكلف من واقع مشاهدته كطفل؛ غير أن المثير في هذه الاسترجاعات، مثلًا الحكم على طلاب الرئيس جمال جميل في المدرسة الحربية ومدرسة الإشارة، وبعد استعطاف الإمام الجديد، العمل بالسخرة لشق طريق صنعاء-صعدة، مرورًا بعمران وريدة وخَمِر وحُوث وحرف سفيان، وترافق ذلك مع طلب سيف الإسلام الحسن "من مشايخ المناطق الشمالية الذين تمر الطريق في مناطقهم، بتشغيل أفراد القبائل سُخرةً لاستحداث طريق تصلح لمرور "المواتر" (سيارات النقل الكبيرة) الحمَّالة عبرها من صنعاء إلى صعدة، لنقل معونات مولانا أمير المؤمنين لرعاياه من القمح الأمريكي وغيره من هبات الإمام". [ص 32].

من حكايات النوبي في سيرته أن شيخ إحدى المناطق بين صنعاء وصعدة ذهب لمطالبة نائب الإمام في صنعاء بكتّاب لأطفال القرية، فجاء الردّ بأن "القبيلي إذا تعلم فأول ما يبدأ يخط هو الشكوى بالعامل، وجارك الله من القبيلي حين يتعلم".

  وفي إحدى المناطق تجمّع طلاب المدرسة الحربية مع القبائل للعمل في الشق، وبعد أيام بدأت الاحتكاكات بين الطرفين، بسبب أن القبائل، وبتحريض من المشرفين، اتهموا الطلاب بقتل أمير المؤمنين، وأنهم "مدسترون" (أنصار الدستور)، باعوا البلاد للنصارى مع عبدالله الوزير، وكانوا قد انتقلوا للسكن في مسجد مهجور على أطراف القرية، بعد أن رفض المشرف مشاركتهم الخيام أو الإقامة بقربها، فعاشوا أيامًا بائسة، صادفت شهر ديسمبر شديد البرودة، وفي إحدى عصاريه، وهم يودعون دفء شمسه وهم مسنودون على جداره، رأوا عددًا قليلًا من الأشخاص يتناوبون على حمل نعش، فذهب بعضهم للاستئجار [كسب الثواب] بحمل النعش معهم إلى المسجد للصلاة عليه، لكنهم تفاجؤوا أن الأشخاص لم يكونوا متجهين للمسجد، بل ذاهبون مباشرة إلى المقبرة؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون عن وظيفة المسجد شيئًا، فهم لا يصلون في الأصل ولا يعرفون ما هي الصلاة! وأن ميّتهم كان بثيابه المتسخة داخل نعشه ومغطى بالريحان، وحين انبرى أحد الضباط لإفهامهم بخطأ ما يفعلون، وأن القبر الذي حفروه لم يكن مُلحَّدًا. شرع الطلاب بغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه وتعميق القبر وتلحيده، ودفن الميت بالطريقة المتعارف عليها؛ وحين أوصل سكان القرية الخبر لشيخهم استدعى الطلاب وضباطهم للعشاء والسمرة ليتفهم منهم، وقال الشيخ لهم إن أهل القرية لم يعرفوا الصلاة وقراءة القرآن، وعلى لسانه ترد -بعد أن طلب منه أحد الضباط إحضار مصحف لقراءة القرآن إلى روح المتوفَّى- هذه الجملة: "لا قرآن عندنا، ولا أحد منا يقرأ منذ عرفنا دولة الإمام يحيى" [ص 37]، وقال إنه سيذهب لمقابلة نائب الإمام لمطالبته بمعلامة وإمام لجامع القرية، وبعد وصوله إلى صنعاء طلب من العامل أن يكتب إلى النائب بما طلب، فكان رد النائب على رسالة العامل بأن: "القبيلي إذا تعلم فأول ما يبدأ يخط هو الشكوى بالعامل، وجارك الله من القبيلي حين يتعلم". [ص 37]. 

  روايته عن انتفاضة الجيش في تعز في العام 1955، تصير في المحتوى جزءًا من الاسترجاعات العفوية لسنوات تكوينه الباكرة في مدينة تعز، التي وصلها في العام 1954، باحثًا عن منحة من الإمام لدراسة المواصلات في القاهرة، بعد أن استهوته هذه المهنة، التي كانت محط فخر لشاغليها الذين يتحدثون الإنجليزية. غير أن الإمام وجّه باستيعابه محررًا في صحيفة "النصر" التي كانت تصدر في تعز آنذاك، وهناك زامل المرحومين عبدالله الوصابي وعلي الضحياني، لكنه ظل متمسكًا بأمل الالتحاق بالمواصلات، وبعد مراجعات كثيرة تحقق له مراده، فعمل لفترة في استقبال وإرسال البرقيات الحكومية والتجارية في دائرة اللاسلكي، قبل أن تم تعيينه مديرًا للمواصلات في منطقة باب المندب، لكنه لم يستمر طويلًا، إذ أصيب بالملاريا المزمنة التي كادت تهلكه، لولا قيام الشيخ محمد علي عثمان، عامل المخا وقتها، بإعادته إلى تعز للعلاج في المستشفى الأحمدي على يد طبيب إيطالي. وبعد تشافيه عاد من جديد إلى دائرة اللاسلكي في المدينة، لينتقل في العام 1958، إلى لاسلكي مطار تعز، حتى وقت ابتعاثه إلى القاهرة أواخر العام 1959، ضمن ثمانية أشخاص.

في العرض التاريخي ليوميات الحملة العثمانية، وخصوصًا تتبع وصولها من التهائم إلى الجبال، ثمة وثائق مهمة، منها وثيقة تأسيس إدارة للبريد في ولاية اليمن، في يناير 1872، لتكون لولاية اليمن بعد ذلك، بريدها الخاص لتسهيل أمور التجارة والمواطنين.

  يعود من القاهرة إلى صنعاء في العام 1961، مع مجموعة المبتعثين، وكانت قد سبقتهم أجهزة اتصالات حديثة مقدمة كهدية من الحكومة المصرية، غير أن اصطدامهم بوزير المواصلات وقتها القاضي عبدالله الحجري -الذي رفض ترفيعهم وتمكينهم من العمل على الأجهزة- اضطرهم للعودة إلى تعز لمقابلة الإمام وعرض مظلوميتهم عليه، غير أن برقية الوزير إلى تعز، واتهامهم بالهروب من وظائفهم جعلت الإمام يأمر بعودتهم مخفورين إلى صنعاء، وصادف مقابلتهم في باب المقام لولي العهد الأمير البدر حينها، والذي حل مشكلتهم وأعادهم إلى صنعاء قبل ثورة سبتمبر بأشهر قليلة.

  في فترتي تعز والقاهرة يتحدث النوبي عن تكوينه السياسي الذي بدأ بتعز بالتواصل مع مجموعة من الوطنيين المستنيرين وعن ذلك يقول: "وكنت مع الزملاء بتعز على لقاء مستمر بالطلائع الشبابية مدنية وعسكرية في نشاط وحماس منقطع النظير، نتبادل المنشورات والكتيبات والمجلات والصحف التي تصلنا من إخوان لنا في القاهرة وبغداد وكذا من عدن عن طريق التهريب، تصلنا بواسطة الوطني والكريم المناضل عبدالغني مطهر، وتُقرأ وتوزع عن طريق الإخوة سعيد الجناحي، وأحمد ناجي العديني، وعلي محمد سعيد، وسيف عبدالرحمن، وأحمد هائل سعيد وعبدالله المقحفي"، ويستعيد في هذه المحطة أحد الفدائيين وهو السائق حميد علي الحكيمي، الذي كان يتنقل بسيارته بين تعز وعدن وصنعاء بدون مقابل لنقل رسائل الأحرار ومنشوراتهم والمطبوعات التي تتنقل بين الثوار، وفي القاهرة سيكون لتواصله مع الزعيمين النعمان والزبيري وكثير من الطلاب المستنيرين المبتعثين إلى مصر، أثره الكبير في دفعه لصف صوت التغيير. الفترة الممتدة من العام 1962، حتى تعيينه مديرًا لمطار تعز في العام 1976 -حيث تقاعد هناك بعد ثلاثين عامًا تقريبًا- ستكون جزءًا من استرجاعه عن الوظيفة العامة والتأهيل والإدارة، وستسبق، في الكتاب، المادة الوثائقية المهمة عن تاريخ المواصلات والنقل في اليمن، وما ارتبط بها من حكايات وصور ووثائق، وستكون "الحملة العثمانية الأخيرة وما واكبها من إصلاحات في مجال النقل والمواصلات"، حسب عنوان الفصل السادس من الكتاب، هي البداية في الإبحار في هذا العالم، ملخصًا أخبار تلك الفترة من المادة التاريخية المبذولة بواسطة الحوليات التي صدرت عن سنوات الحملة بتفاصيلها الدقيقة منذ دخولها الأراضي التهامية في ستينيات القرن التاسع عشر، حتى وصولها إلى صنعاء والمناطق الشمالية بعد ذلك بسنوات.

  غير العرض التاريخي، في هذا الفصل، ليوميات الحملة العثمانية، وخصوصًا تتبع وصولها من التهائم إلى الجبال، ثمة وثائق مهمة في هذا الفصل منها وثيقة تأسيس إدارة للبريد في ولاية اليمن، التي أصدرت الإرادة السنية بالموافقة عليه في يناير 1872، وذلك حلًّا لإشكال تأخير وصول البريد نتيجة تجميعه ونقله عبر مصر والحجاز، لتكون لولاية اليمن، بعد ذلك، بريدها الخاص لتسهيل أمور التجارة والمواطنين.

  والوثيقة الثانية هي مرسوم إنشاء خط سكك الحديد في اليمن في العام 1909، الذي كان مخططًا له أن يكون امتدادًا لخط الحجاز التاريخي، ويربط الصليف بالحديدة وباجل، مرورًا بمنطقتي عُبال والحجيلة، وصولًا إلى صنعاء وعمران، غير أن هذا الخط -الذي ابتدأ العمل فيه بمد القضبان من الصليف إلى الحجيلة- توقف تمامًا مع نشوب الحرب العالمية الأولى في العام 1914. وأرجع المؤلف، في روايته، سبب توقف المشروع في الحجيلة إلى خلافات نشبت بين العثمانيين والإمام يحيى، بخصوص بنود سرية في صلح دعان، ومنها "الفقرة الخامسة التي تنص على أن السكة الحديد سوف تتوقف في الحجيلة، ولن تمتد بعد ذلك إلى أي مكان، وإذا رغبت الدولة العثمانية تمديد الطريق من الحديدة إلى تعز، وتمت الموافقة على هذا الطلب، سوف يكون العمل بعد أربع سنوات من قبول الطلب مسبقًا". [ص 126].

  سنكتفي بهذه المقاربة التي تعرض لجزء مهم من محتوى كتابٍ سيبقى وثيقة مهمة في التاريخ اليمني المعاصر، والذي لا يقلل من محتواه المهم سياقه التحريري العفوي والبسيط.   


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English