التشكيل اليمنيّ والأجيال الشابّة

محترف الشباب.. بين عالَمَين
د. آمنة النصيري
January 29, 2023

التشكيل اليمنيّ والأجيال الشابّة

محترف الشباب.. بين عالَمَين
د. آمنة النصيري
January 29, 2023

منذ تسعينيات القرن الماضي، حتى السنوات الأخيرة، تواجدت أسماء فنّيّة بأعداد لافتة، وذلك نتيجة تخرُّج دفعات منهم من كليّة الفنّون وأقسام التربية المنشأة حديثًا في الجامعات اليمنية ومعاهد الفنون، ومن داخل هذه الكثافة العدديّة المتنامية ظهر فنّانون شباب كثر، اجتهدوا في تطوير محترفاتهم، وتحقيق حضورٍ فاعل في الوسط الفنّي، وحقّق بعضهم انتقالات أسلوبية، تصاعدية في زمن قياسي.

إلّا أنّ تجربة هذا الجيل من الفنّانين الشباب قد صاحبتها الكثير من الصعوبات والتعثر أحيانًا، والصراع مع قيم الراهن التي هي عبارة عن أخلاط من وسائل وبنى وشبكات علائقية ضمن منظومات تسودها الفوضى والتداعي على كافة الأصعدة، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. بالإضافة إلى إرثٍ معرفيّ جَمعيّ يسوده الارتباك والتراجع ومحدودية فَهم معنى الفنّ، وجهل بحيوية دور الفنّان؛ ممّا أدّى من ناحية إلى تحجم العلاقة التفاعلية بين الفنّان ومحيطه، وبالتالي بين النصّ الفنّي والمتلقّي، ممّا ساعد على تعميق الشساعة بين الفنّان والجمهور وغربة التشكيلي وقطيعته عن عالمه، قطيعةً فنية معرفية، فبرزت إشكالات بديهية ومنطقية إذا ما تم دراستها في إطار المؤثرات الموضوعية التي تحاصر الفنّ والفنّانين، ومنها أنّ الذائقة الجمعية النابعة من ثقافة الجمهور، مارست بطريقةٍ غير مباشرة سلطتها على اتجاهات التجارب الشابة، حيث حفّزتهم بشكلٍ ما على إنتاج ما أطلق عليه (غرينبيرغ) بالفنّ الجماهيري مع الحفاظ على إيجابية المعنى في المصطلح، حيث لا نشير إلى المنتج الفنّي المبتذل حرفيًّا، ولكن المقصد هو في تقييد الفنّان بشروط معينة لإنجاز عملٍ فنّيّ يستدعي السهل والبسيط، كما هو الحال في الفنون الواقعية (التقليدية) والتي تنتج وفقًا لصيغ ثابتة، على عكس الفنّ الطليعيّ (Avantgradeart)، وهذا الأخير لديه النخبة التي تمتلك الثقافة والذائقة اللازمتين- وبهذا يكون (غرينبيرغ) قد وضع الفنون التعبيرية والتجريدية في مقدمة الفنون الطلائعية، وأكثر تساميًا من بقيتها(*).

ومع ما لفرديةِ المبدع واستقلاليته واختيارية عزلته من دور في الحدّ من هيمنة الشروط الخارجية عليه وخاصة المجتمعية، إلّا أنّ المقاومة والموقف الصلب من قبل الفنّان يبقى مرهونًا بالظرف الاقتصادي، وضغوطه، وأعباء صاحبه التي تلزمه في أحايين كثيرة بالرضوخ لغواية سوق الفنّ المحلية على محدوديّتها، هذا ما يبرر تموقع مجاميع من الفنّانين الشباب عند التيارات الواقعية، واشتغالهم على أعمال توصّف مشهدية البيئة المحلية بما لها من ثراء معماريّ وتنوّع جغرافيّ، وإرث بصري شعبي متجسد في الملابس والحُليّ والمصنوعات اليدوية والأسلحة البيضاء والأدوات المتنوعة الغنية جميعها بالزخرف والبهرجة اللونية. وقد ساهم المقتني الأجنبي (المقيم المؤقت) في تعميق ظاهرة الفنّ بمنهجيته الاستشراقية، ذلك أنّ العاملين والزائرين من مختلف أنحاء العالم لا يتمتعون بالضرورة، بذلك الحس الثقافي الرصين، والذائقة الفنية والنخبوية الباحثة عن الأصيل والفنّي في العمل، فأغلبهم نوعًا ما، يبحث عن صور ذات سمة واقعية، تنقل تفاصيل الحياة الشعبية، وتنويعات العادي من صور الحياة المحلية، لكي يحملوها معهم كنوع من التمثيل الرمزي الساذج لحياة المجتمعات التي عاشوا فيها. وتشمل بعضًا من ذكرياتهم عن الأمكنة والمظاهر الخارجية لحياة البشر في البلدان التي تنقّلوا فيها؛ إنّها بطرق أخرى تحريضٌ يحمل الفنّان على تقمّص الرؤى الاستشراقية في لغته الفنية.

إنّ (أمل فضل) كحالة فنية، تؤكّد إمكانية التعايش التقنيّ بين أخلاط الخامات، لانتزاع النص من وحدته، وتجسيد بلاغة الشكل، في إنشائية تستثمر مقاربات الحسّ البصريّ والذهنيّ عند المشاهد، وتتيح لها كمصورة تجذيرَ أعمالٍ ذات مرجعية حداثية تتجنّب شرك الفرضيات القَبْلية، والمشابهات المعتادة.

يضاف إلى ذلك كله، ولعُ الفنّانين الشباب بالاتجاهات الواقعية تحت تأثير عوامل أخرى؛ منها المدى الزمني المؤثّر في تطور التجارب، والذي ما زال يغري الفنّان بمرحلة التقانة، والتمكّن من الأدوات والمناهج الأكاديمية التي لا يحصلون عليها بشكل كافٍ أثناء الدراسة، بل إنّ بعضهم لم يلتحق أساسًا بالدراسة الأكاديمية، فاعتمد على عصامية البحث والدراسة. ولذا، يجد هؤلاء متعة في امتلاك مفاتيح التصوير الواقعي ووصول أعمالهم إلى درجة كبيرة من الإبهار التي تثيرها التجارب في أوساط الجمهور، وسنعرض في طرح لاحق، لأهم التجارب اليمنية المنتمية لتيار الواقعية المفرطة، والتي قدّمت منجزًا لا يقل إبداعية عمّا هو معروض في المنتوج العالمي، وهم على قِلّتهم يتفوّقون على الواقعية المتواضعة السائدة في الوسط التشكيليّ المحليّ.

الفنون ومجازية الوجود

يجدر القول إنّ بعض الفنّانين ما لبث أن تحوَّل باتجاه تيارات وأساليب أخرى بفعل التأثيرات التراكمية للخبرات الذاتية، وتنامي الوعي الفردي الإبداعي، حيث من الصعوبة أن نتصوّر الفنّان حبيس السياقات والشروط الاجتماعية والتاريخية فقط، إذ إنّه بين مرحلة وأخرى يُصغي لطاقاته الداخلية وتساميه وفرادة وجوده، بل وضرورة غربته كذات مبدعة تبحث عن اللامألوف والمختلف في الاعتيادي والرتيب والمكرر، محاولًا التفلُّت قدر المستطاع من الظواهر ذات المنشأ الاجتماعي، والإنتاج بمعزل عن المؤثرات والاشتراطات، المتعددة، حيث يسعى الفنّان إلى إكساب رؤيته شرعيةً نابعة من ثورية الفنّ، ومن مقولات الحداثة التي تدمّر الأنظمة وتخرق ما اقترب من المقدس في قوالب الفنّ، هذه القيم تتكرس بصورة جلية في لوحات التشكيلية (ألطاف حمدي) التي تحيل الحياة بشتى تمظهراتها وبشقّيها الباطني والسطحي إلى جمل لونية مكثفة، تحرّر الطاقات القصوى لِلَّون، موظِّفة حزم الألوان وتنويعاتها ضمن ميكانيزم يدور حول محو الحدود بين الأشكال، وإلغاء الخطوط الفاصلة بين الكيانات، بين الكائن الحي وعالَمِه، والانضواء داخل مجازية الوجود ونسبيته في النصوص التي أنجزتها، فالفنّانة مستغرقة في تأكيد وحدة الشكل، من خلال إلغاء حيادية الفراغ، واستبعاد جدلية علاقة الكائنات بالمحيط المادي، والداخلي والوجداني – بالظاهري الحسي، فهي تُسقِط الانفعالات الشعورية على الشكل من جهة، وتستشفّ الحياة الداخلية في الإنسان، لتصعد بها إلى ظاهر الصورة، في هذه اللحظة الإبداعية تحديدًا تحاول (ألطاف) الانتصار على التعارضات الأكثر تداولًا في الواقع الفعلي بين المحسوس واللامحسوس، في نزعة جماليّة فنّية ذاتيّة، تفلح في التغلب على الأحكام القيمية الجاهزة، لكن هذه البديهة الفنية الانتقائية، لا تدفع بالفنّانة إلى التغاضي عن المضمون، وخاصة فيما يتعلق بهموم الإنسان داخل البنيات القمعية، التي تجعل منه كينونة منكسرة مقموعة تعيش ضمن فضاءات القهر والانتهاك والنكبات، إلّا أنّ الشخوص القابعة في هذه المستويات والمتمثلة أشكالًا متعدّدة من القسر، لا تكف عن المقاومة، كأنّما تريد المصوِّرة أن تؤكِّد على أنّ الحالة التأثيرية التي تعيشها ليست بنية معزولة عن المجتمع، وأنّ فعل الإبداع هو فعل تغيير وتمرّد يقابل مفاهيم الخضوع والانكسار، فالألوان الصارخة والمشتعلة أحيانًا، الحالمة أو الضاجّة بالحياة في أحيانٍ أخرى تُفضي إلى مخزون من الدلالات والممكنات من الاحتمالات الإيجابية عن الوقائع الإنسانية، ودور الكائن والإرادة البشرية في إيجاد عالمٍ يوازي عوالم العنف ومنظومات الطغيان. بهذه اللغة التشكيلية تبلغ الفنّانة رسالتها المتمحورة حول موقف اجتماعي – إنساني، منطلقة من قناعات لا تقصي من الفنّ قضايا الأمة، خاصة في الزمن الراهن، حيث ظروف المجتمعات المحلية، ما زالت بحاجة إلى دمج الخطاب التنويري بالخطاب الفنّي بحسب رؤية الفنّانين المنحازين إلى المحتوى الاجتماعي وأهمية الالتزام بالقضايا المجتمعية في النص البصري، ضمن هذا السياق يمكن إدراج جزءٍ كبيرٍ من نتاج فنّانين، مثل: (مراد سبيع)، (هيفاء سبيع)، (شفاء الشعيبي)، (غادة الحداد)، (أمل فضل)، (علاء البردّوني)، وغيرهم. وهم جميعًا جديرون بدارسة مستفيضة لا تتيحها المقالة، إلّا أنّه يجدر المرور على تجربة الفنّانة (أمل فضل)؛ كونها تتخذ سياقًا يتفلّت من سلطة الخارج المجتمعي، ويتمرّد على الانضواء ضمن عباءات الأساتذة من الفنّانين المحليِّين، فهي تنفتح على أفق رحب، وتسعى بشكل دؤوب لإثراء أدواتها، وتكوين نفسها عبر بحث تقني ونظري يكشف شغفها بالابتكار والتوليف وتكثيف بناءات النص الشكلية لاستجلاء علائق متنامية للتكوينات، وبالتالي منح الأعمال قابليةَ اشتقاق بدائل رمزية للواقع وللمكنات أكثرَ جاذبية، فاللوحة عند أمل حيّزٌ يحتمل المقاربات، واللعب الخلاق، والمراوغة والالتباسات البصرية والذهنية، بغيةَ تحقيقِ حضورٍ أكثر إثارة وخصوصية.

وتنزع الفنّانة إلى الجمع بين تقنيات الرسم والتصوير الصباغي، وإضافة مواد منتقاة، مثل: قصاصات القماش، والأحبال، والمسامير، وأشياء غيرها، بحسب مقتضيات تخييلاتها الفنية، كل هذه الأشياء تضعها على سطح اللوحة، فتحرك الفراغ المحيط، وتكسر حواجز المتوقع، وتقترب من النحت والأعمال الفراغية، فتنجح إلى حدٍّ بعيد، في خلق فضاءٍ متنامٍ للنصّ، وممكنات دلالية مفتوحة.

وهي بذلك تتفرّد عن السياقات التي يشتغل عليها كثيرٌ من الرّسَّامين من جيلها، حتى إنّها تكاد تمثّل مشروعًا ثريًّا في المحترف اليمنيّ، وهو قابل لأن يكون أنموذجًا محرضًا للشباب من المصورين، على المزيد من التجريب والجرأة، وإطلاق الطاقات، والنأي عن مجانية الصيغ التقليدية.

إنّ (أمل فضل) كحالة فنية، تؤكّد إمكانية التعايش التقني بين أخلاط الخامات لانتزاع النص من وحدته، وتجسيد بلاغة الشكل، في إنشائية تستثمرّ مقاربات الحسّ البصريّ والذهنيّ عند المشاهد، وتتيح لها كمصورة، تجذيرَ أعمال ذات مرجعية حداثية تتجنّب شرك الفرضيات القَبْلية، والمشابهات المعتادة.

وقد لا تعي الفنّانة تلك المرجعيات الحداثية بصورة نظرية جلية، ذلك أنّها مثل جيلها الشاب، ليسوا على ارتباط بالمعارف بمعناها التقليدي، إلّا أنّهم لديهم وعيهم الخاص بالعالم، ونموذجهم أيضًا لثقافة جديدة تشكّلت بواسطة شبكات منغمرة في علاقات معقّدة، وكمٍّ هائل من المعلوماتية ذات المجال السايبري.

أمّا على مستوى المضمون، فالفنّانة مهمومة، كما هو الحال مع العديد من التشكيليات النساء، بثيمات القهر ومنظومات القمع –وبخاصة قهر كينونة الأنثى– كما أنّ الغضب هو طابع الاعتراض الصارخ، وهو الدالّ المشترك في أعمال معظم الفنّانات، ومنهن (أمل فضل)، حيث يستجبن للغضب، وللاستغاثات المعلقة، ولمشاعر الاغتراب، وللشعور بالمرارة جراء الممارسات المجتمعية الظالمة إزاء النساء، وإذا كانت (أمل فضل) قد نجت من الوقوع في فخّ التطرف النسوي إلى حدٍّ ما، نتيجة ميلها لتعميم القمع وإسقاطه كحالة عامة يعايشها الكائن داخل أزمنة مأزومة عالية الدراما، فإنّ العديد من بنات جيلها الفنّانات وتحت تأثير النزعات الساخطة على مجتمعات الذكورة، الأبوية، يساهمن في الحدّ من فنيّة الأداء الفنّي لصالح المضمون، والعلاقات الدراماتيكية في الأعمال، وهو ما يُشبِع في دواخلهن حاجات ذاتية إلى التمرُّد والانتقام المعنوي من المؤسسات الذكورية.

هكذا انتقلت الصورة الفوتوغرافية (شأنها شأن اللوحة المسندية) من مستوى الأداء المباشر الآلي –الفَجّ أحيانًا– إلى مستويات أكثر دراية بكيفية إضفاء التعددية والثراء في إنجاز العمل الإبداعي بما يتماشى مع أصالة المنجز الفني، والنظريات المفاهيمية.

بل إنّ محتوى التجارب التشكيلية لجزءٍ كبيرٍ من الشابات، يغرق في تمثّل علاقات الرجل بالمرأة، إمّا من خلال صيغ بالغة العنف والعدوانية، أو عبر حوارات جدلية لا نهائيّة مع الرجل، تحاول استعادة الهُوية المستلبة، وفي كلا الحالتين تنزلق الفنّانات في مأزق تكريس العزل الاجتماعي، واجترار الاستجابات العاطفية المباشرة التي تكتظ بها النصوص. وبذا تنأى كثيرات عن التركيز على الجِدّة وتمثُّلِ موقفٍ جماليٍّ وفكريٍّ أشمل.

الفوتوغراف والوسائط.. رهانات فنيّة جادّة

منذ عقد زمنيّ، برزَ جيلٌ من المصوّرين الفوتوغرافيين الشباب، وأقام كثيرٌ منهم معارضَ فنية لافتة، نأت عن التقاط المشاهد الطبيعية، والمناظر الاعتيادية التي سادت في أعمال الأجيال السابقة، تلك التي اعتمدت على الحرفية العالية التقليدية، مع الحفاظ على المحتوى التقليدي للصورة الذي لم يخرج في الغالب عن توثيق الوجوه الإنسانية وملامح البيئة والفلكلور، والطبيعة، ولم يتعدَّ هذه القوالب سوى استثناءات من المصوِّرين اليمنيّين، في مقدّمتهم الفنّان الكبير عبدالرحمن الغابري.

أمّا الجيل الجديد من المصورين الذين نمت تجاربهم في ظلّ العولمة والثورة الرقمية، والحراك السياسي والاجتماعي الذي تنامى في الشارع العربي إلى إن تحوّل إلى ثورات (الربيع العربي)، فإنّهم سلكوا اتجاهًا مغايرًا في التعامل مع الصورة الضوئية، وخرجوا بحلول فنية أثارت الكثير من الأسئلة حول وظائف هذا الفنّ، والقِيَم الجمالية، والفنية والفكرية الجديدة التي يتمثّلها وتنتمي إليها مبادئ الحداثة وما بعد الحداثة. فقد طرحت أعمالُهم قضايا متعلقة بمسائل زلقة وشائكة، شكلًا ومضمونًا، يتحقّق فيها أساليب تقترب من التشكيل الأدائيّ أو مسرحة النص بصورة تتحدى اكتمال الفنّ، وتُحدِث نوعًا من الإرباك والقلقلة في أنساق الفنون، وثبات تصنيفاتها، فالصورة الفوتوغرافية، وفي زمنٍ قياسيّ، أصبحت تُنافِس اللوحة المسندية ذات الخامات الصباغية المألوفة، ذلك لأنّ الفنّانين الفوتوغرافيين أفادوا بشكلٍ كبير من الإمكانات التي تتيحها لهم حركة التطور التكنولوجي الواسعة في أدوات التواصل والوسائط الرقمية، والكفاءة العالية التي راحت تعمل بها آلات التصوير، وفي الوقت نفسه، حدث انتقالٌ فارق في وعي الشباب، الذي استوعب جوهر الحداثة ومنطقها في توصيف الفنّ والحالة الإبداعية، لعلّ أهمّها أنّ الفنّان يشتغل على كافة العلاقات الممكنة بين عناصر الواقع، الحدث –الموضوع- ويتداول المعطيات الحسية (المتعدد الحسي) وَفقَ وحدة المفهوم التي نردها إليها استنادًا على الوعي المعرفي والثقافة؛ وبالتالي صارت الصورة عبارة عن تأليف منتج للعلامات الدالة التي تنسحب على جانب من الوجود، ومن العالم ضمن مجالاته النفسية – الاجتماعية – السياسية – الدينية.

هكذا انتقلت الصورة الفوتوغرافية (شأنها شأن اللوحة المسندية)، من مستوى الأداء المباشر الآلي –الفَجّ أحيانًا– إلى مستويات أكثر دراية بكيفية إضفاء التعددية والثراء في إنجاز العمل الإبداعيّ بما يتماشى مع أصالة المنجز الفنّي، والنظريات المفاهيمية. إنّ توفر الفنّان على أدوات مستحدثة، منها الوسائط الرقمية، قد أوجد خيارات كثيرة للتلاعب بالشكل، وإضافة لمسة الفنّان إلى الصورة، لإنشاء التكوين، وإنجاز متواليات من الصور الخلّاقة المحمّلة بمشروع الفنّان في زمن قياسي، يستوعب حالته الذهنية والوجدانية. هذا الثراء التقني استحال إلى حرية داخلية، وجرأة مصحوبة بوعي، ولّدت الغضب والتمرُّد والرفض، ساهم في ولادتها شبكة المعلوماتية، التواصلية، التي ساهمت في توسيع الحقل المعرفي لدى الشباب، فكانت النتيجة تحوُّل الصورة الرقمية إلى عملٍ فنّيٍّ يحمل بيانات فكرية وفنيّة، وتحوّلت الثورة المعلوماتية إلى ثورة في الفنّ، مهمومة بالتغيير، وبالمجتمع، تعلن بداية جديدة لفنّ التصوير الرقميّ، وجيلٍ من الفنّانين اقتربوا من المتلقي، ومن المجتمع، وحقّقوا نجاحات أكبر من سابقيهم في هذا الصدد. وتتوارد تجارب لافتة، في تطويع التصوير الرقمي وتوظيف الوسائط، لإنتاج أعمالٍ فنية ذات مستوى تقنيّ رفيع يدلّ على مخيلة خصبة تفتح خزّانًا من الدلالات الشكلية والفكرية، وتزحزح الحدود بين التقنيات لتوسيع مفهوم المدرك الحسي في بناءات الشكل، حتى إنّ الأعمال التي ينتجونها أقرب إلى مجال فنّ التشكيل الأدائي، وهم بذلك يُمهّدون لولادة طقوس جديدة لإنشاء العمل، ربما ليست غريبة في الأوساط العالمية، لكنها حديثة في المجتمع اليمني، وتلك جرأة من قبل هؤلاء الشباب الذين يتحدّون الذائقة العامة والوعي الجمعي، في واقعٍ محاط بالكثير من المحاذير.

أخيرًا؛ لا بُدّ من التأكيد على أنّ حضور التشكيل في اليمن، وتعدُّد مصادره ومساراته، يبقى ظاهرة إبداعية مشتبكة مع حركة المجتمع، ربما ما زالت تعيش بمنأى عن الذائقة الجمعية، غير أنّها لا تني تواصل بحثها الدؤوب المرتكز على مستندات جمالية، غير آبهة بغياب الشروط التي تساهم في تفعيل نشاط دوائر التجريب والتأصيل، ذلك أنّ المحترف اليمنيّ في ظلّ الواقع الراهن لا يكفّ عن تكثيف نتاجاته والعمل على إيجاد فضاء متنامٍ للفنّ يتجاوز مستويات الإبداع المحلية الأخرى كمًّا وكيفًا، وينتصر على كافة الصعوبات، حتى إنّه يتموضع في واجهة الحياة الثقافية اليمنية.

هامش:

*  ديفيد إنغليز – جون هغسون. كتاب: سوسيولوجيا الفنّ؛ طرق للرؤية، ترجمة: د. ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، يوليو 2007.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English