قمتُ صباحًا فزعًا أجمع كُتبي التي ألّفتها، أمسح الغبار عنها، أقبّلها بعد حلم أخافني وأسعدني في الوقت نفسه، جمع بين الخرافة والواقع. أغلقتُ باب غرفة مكتبي بالمفتاح؛ كيلا تلج زوجتي، ووضعت كتبي بجانبي. للحظة ما، رأيت كلماتي التي وشمتها في الورق تنسلّ من بين الأوراق، ظننتُ أنني لا أزال أعيش في الحلم.
أحسستُ بخدر في جسدي، ونفختُ في الهواء كأنه نفسي الأخير. تأملتُ كُتبي مليًّا، رأيت نفسي أغوص فيها، ونفذتُ عبرها إلى عالم أعيشه وقت الكتابة. أحسستُ بروحي تنسلّ من جسدي كأنني أنضيتُ ثوبي. ظننتها ستغادر إلى السماء لترى أين مكاني في العالم الآخر، بيد أنها ظلّت تطوف حولي. وسرعان ما رأيتُ جسدي يتحلل، والدود تخرج منه وتزحف في الفرش. بعضها يدغدغني ويُضحكني، وسرعان ما كبرتْ بحجم طفل صغير وصار لها يدان ورأس كرأسي، تزحف في الغرفة. لم يتبقّ من جسدي سوى رأسي لم تمسّه الدود، أشاهد هيكلي العظمي بدهشة.
تهافتت الدود على كُتبي، كلٌّ استحوذ على كتاب يقرؤه. سمعتُ إحداها تقول: "هناك كتب أخرى ألّفها ولم يطبعها بعد، كيف نخرجها من ذاكرته؟" أسرعتْ تفتل خيطًا من أمعائي (أظنها أبقته لذلك لغرض) في رأسه خُطّاف، وتحشره في أنفي. بعدئذ أحسستُ شيئًا محشورًا في أنفي. قالت لي دودة: "اعطس بقوة." عطستُ، وخرجت خمس شرائح صغيرة مسطحة متناهية في الصغر، وراحت الدود تنفخها وهي مسرورة. كبرت الشرائح شيئًا فشيئًا كلما نفخت فيها، وإذ بي أشاهد مؤلفاتي التي لم أطبعها بعد... كان الدود أوّل مَن يقرؤها. وبدت غرفتي مكتبة للمطالعة.
كانت عيون بعض الدود تتسع دهشة، وأحيانًا تبتسم وهي تقرأ. أعرف لِمَ تبتسم ولِمَ تغضب. كانت رؤوسها تكبر شيئًا فشيئًا ويشعّ منها نور، وراحت الدود تتناقل كتبي فيما بينها، تتحدث عنها وتشيد بها. حمدتُ الله أن هناك من يطّلع على أفكاري، طالما أن أمتنا لا تقرأ، وقد قادتها العولمة إلى ثقافةٍ تريدها أن تسود.
كنت مبتهجًا والدود تتهافت على القراءة، من دودة إلى أخرى، ما لم يفعله الناس حولي. اقتربت إحداها، جبينها يشعّ نورًا، وقبّلت رأسي. شعرتُ أن ذلك النور ينفذ إلى عقلي، وكأن بضاعتي رُدّت إليّ، وأنّ مَن يُعلّم الناس الحكمة لا يموت. قالت لي: "ما قرأته في هذا الكتاب الذي بين يديّ عمل فلسفي في صيغة رواية."
فكرتُ في أن أفتح الباب، لكنني خفتُ أن تراني أسرتي بتلك الهيئة المخيفة "هيكل عظمي"، فيفرّوا من البيت هلعًا. سمعتُ طرقات قوية على الباب، وزوجتي تهتف باسمي: "لماذا لا تفتح الباب؟ لقد نمتَ منذ اثنتي عشرة ساعة!" شاهدتُ الدود تفزع وهي تطالع كتبي كلما طرقت زوجتي الباب، وهتفتْ إحداها لي بضجر:
لماذا زوجتك تزعجنا؟! لا بد أن نكمل القراءة، نريد أن نستنير، أخبرها أن تتوقف.
قلتُ لزوجتي بلسان متعثّر إنني بخير، ولا داعي لإزعاجي، ولست جائعًا. ذهبت ثم عادت، تريد أن تدخل الغرفة للبحث عن شيء. كان الدود غاضبًا من الإزعاج، وهي منهمكة في قراءة الكتب، وقد ازدادت رؤوسها حجمًا على أجسادها الصغيرة.
نهضتُ وأنا خائف على هيكلي العظمي أن يتناثر، بيد أن أربطة مفاصلي لم تمسّه الدود، فظل هيكلًا متماسكًا. مشيت ببطء وحاولت فتح الباب، فانفصلت سبابتي عنّي وأنا أفتحه، ولم أفلح. حاولت بأسناني وفتحت الباب، قلتُ لنفسي: ليكن ما يكون! ولترتعب زوجتي من منظري، لقد أزعجت الدود وهي تطالع كتبي. شاهدتني بعيون مرعوبة، عادت إلى الخلف وأغلقت الباب بالمفتاح بسرعة وهي تهتف: "أعوذ بالله من الشيطان!" وبعد ساعة، عادت تفتح الباب رويدًا. أطلّت برأسها كالخائف، شاهدت الدود وهي تقرأ كتبي، وأغلقت الباب مرة أخرى. ظننتها ستصيح هلعًا، لكنها بدت عاقلة كيما لا تخيف أولادنا.
سمعتها تقول: "لا تزعجوا والدكم، هو يكتب رواية جديدة في مكتبته." ثم سمعتها بجوار الباب تهمس لي لأقترب منها، فاقتربت. همستْ وأنا أسمع نشيجها:
أخبرني بحق الله، هل أنت أحمد؟
نعم. لا تخافي.
لكنك هيكل عظمي، والصوت ليس صوتك!
نعم، لكن روحي تطوف حولي وستعود لي، لا تخافي.
سمعتها تبكي، وابني يسألها لماذا تبكي؟! نهرته ليعود إلى غرفته. ثم عادت تسألني من خلف الباب بصوت متهدّج:
إذا كنتَ شيطانًا، باسم الله الأعظم أن تخرج من داري وتترك زوجي بسلام.
ضحكتُ ثم أخبرتها أنني أحمد، وما حدث بيننا في الليلة الماضية. صمتت قليلًا، ثم سألتني وهي تنشج:
كيف غدوتَ هيكلًا عظميًّا؟ هذا مستحيل! أو أنني أتخيّل ذلك؟
لا، لم تتخيّلي.
لك يوم كامل لم تطلب طعامًا ولا قهوة التي تحبها أثناء الكتابة.
ضحكتُ مرة أخرى، وقلتُ لها إنني لستُ جائعًا ولا عطشان، هناك من يقرأ كتبي، وسعادتي بقراءتها تغنيني عن الجوع والعطش.
سمعتها تقول بصوت باكٍ:
من هؤلاء الذين يقرؤون كتبك يا أحمد، وأنت وحيدًا في مكتبك؟!
لم أدرِ بماذا أردّ عليها، فصمتّ، لكن فضول زوجتي أكثر من اللازم، ولن تهدأ حتى تعرف ما يدور في مكتبي. قلتُ لها: يمكنك أن تدخلي، لكن لا تخافي ولا تصرخي مما سترين. قالت إنها ستكتم صوتها مهما رأت. أعجبني تطلعها للمعرفة.
فتحتْ الباب رويدًا وكفّها على فمها. تقدّمت تمشي ببطء، تبدو مرعوبة مني. شاهدتْ الدود منهمكًا في القراءة، والدهشة في عينيها وهي تحدّق فيها، ثم تركت لسانها يتحدث، سألتني بصوت مرتجف:
مَن هؤلاء؟ ومِن أين أتوا؟ ولماذا شكلهم كالأطفال ورأسهم كبير تكاد تضيء، وأين أرجلهم؟!
كادت أن تصرخ وهي تتراجع لتغادر الغرفة، لكنها كتمت صرختها وقالت:
لن أخرج حتى تخبرني ماذا جرى لك ويجري في مكتبك!
أخبرتها بما جرى لي، ووجهها مضرج بالتقزّز، وأن هؤلاء الدود ما إن أحسّوا بروحي تغادر جسدي، راحوا يأكلونه بنهم وكبروا كما ترين، وأخرجوا من ذاكرتي كتبي التي ألّفتها ولم أطبعها بعد. هي لم تدرِ أنني متمسك بروحي بخيط الحياة، وبعد أن قرأوا كتبي كبرت رؤوسهم ولم يعودوا دودًا.
لم تصدّق زوجتي، فطلبتُ منها أن تسأل الدود. رأيتُ فضولها ينجم من جبينها كقرني استشعار، وراحت تسأل دودة تقرأ أحد كتبي:
أنتِ، ماذا تقرئين؟
ألم ترقئي هذا الكاتب؟
لا، لم أقرأ أي كتاب كتبه زوجي.
أنتِ غبية، لو طالعتِه لاستفدتِ كثيرًا وتنوّر عقلك.
لا أحب ما يكتبه زوجي، كان يشغل نفسه عني، ويتركني وحيدة؛ فكرهتُ القراءة.
بل كنتِ تفضّلين الجلوس مع النساء، تثرثرن في الملبس والمأكل والغيبة والنميمة، وتمضغن القات كغيركن من الناس.
وكيف عرفتِ ذلك يا دودة؟!
عرفنا ذلك من زوجك "بوذا" (المتنور)، يكتب بأنامل قلبه وبحبر دمه. ثم يا غبية، لم أعد أنا دودة بعد أن قرأتُ هذا الكتاب.
تراجعت زوجتي إلى الخلف خائفة ومدهوشة مما سمعته. وهي تتراجع، اصطدمت بي وكُسرت سبّابة يدي اليمنى، التقطتها من الأرض وراحت تقبّلها وتبكي بكاءً حارًّا. حاولتُ إعادتها إلى كفي ولم أفلح. تلمّست عظامي وفكي بكفها الأيمن وهي تكتم صرختها بالأيسر. وقبل أن تخرج، رجوتها ألّا تزعجني، وتخبر الأولاد أنني مشغول في الكتابة. جلستُ بجوار الباب أنصت لما يُقال عني. سمعتها تقول للأولاد:
أبوكم كاتب عظيم، حتى الجن يقرؤون له، وأنتم مشغولون بتصفح النت، لا تقرؤون ما يفيد.
اعتاد أولادي على عزلتي فلم يسألوا عني، ثلاثة أيام وأنا في مكتبي هيكلًا عظميًّا، والدود تسألني عن بعض ما لم تفهمه من كتبي، ودخلنا في جدال معًا، وأنا في منتهى البهجة. استفدتُ من إحداها، كانت تنطق بالحكمة، ذكّرتني بالحِكَم التي دوّنتُها قبل عشرين سنة في مصحف أحمر، ولم أعد إليه وقد نسيتُ ما كتبتُ فيه. شكرتُ تلك الدودة التي نبّهتني لإعادة قراءته، ولا عيب أن يتعلم الإنسان حتى من دودة. هي من إبداع الخالق، وأوّل سُلّم الحيوان.
في اليوم الثالث، أكملت الدود قراءة كتبي، وأقبلت نحوي، انكفأت أمامي تشيد بي أنني صرفتُ عمري في تنوير عقلي، وإذ بها تتسابق لتعود إلى جسدي واحدة تلو الأخرى، وفي الوقت نفسه كان عظمي يكتسي لحمًا، حتى عاد جسدي كما كان عليه، وأصبعي كذلك. أحسستُ بحرارة تسري في جسدي، واستنشقتُ هواءً كأنني خرجتُ من تحت الماء!
أخذتُ كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة، وتلفعتُ ببطانية، ورحت أقرأ في "باب معرفة الطير"، قرأتُ بيتًا من الشعر:
أتبكي ذات طوقٍ تذكّرتْ هديلًا
وقد أودى وما كان تُبّعُ
شعرتُ بالنعاس، ووضعتُ رأسي على تلك الصفحة لأعود لقراءتها، بيد أنني نمتُ نومًا عميقًا متوسّدًا الكتاب.
دخلت زوجتي وأنا نائم، متلفعًا بالبطانية. نزعتها، وتفاجأتُ ببكائها، والجيران ينظرون إليّ، والجنازة في غرفتي. ثم راحوا يلومونها لأنها كذبتْ عليهم. أحدهم قال بدهشة:
يا أهل الحي، الرَّجّال يقرأ حتى وهو راقد، وأنتم لا تقرؤون وأنتم صاحون!
خرجوا يحملون النعش فارغا، منهم من يضحك، ومنهم من يسخر من زوجتي الحائرة، وكُتبي مبعثرة في الغرفة. قمتُ وأنا أشكو الجوع، أبحث عن طعام في المطبخ، وأردّ على الهاتف الأرضي. أجبتُ على أحد الأهل، تفاجأ وقال: "قالوا لنا أنك مُتَّ يا أحمد!" بينما كنتُ في سياحة عقلية تأملية في كتبي، فقدتُ إبّان ذلك الإحساس بالحياة.