الخوف وبؤس الكتابة

أهذه أرض أم حفرة كبيرة في جهنم؟
ضياف البَرَّاق
October 5, 2023

الخوف وبؤس الكتابة

أهذه أرض أم حفرة كبيرة في جهنم؟
ضياف البَرَّاق
October 5, 2023
.

في زمن التطرف والإرهاب والعنف تصاب الكتابة بالبؤس، تختنق أو تمرض أو تصمت، أو تتحول الكلمات إلى فقاعات أو دموع أو لعنات أو إلى لا شيء. ودائمًا يسعى المتطرفون العنيفون إلى إخراس أو تكميم أفواه معارضيهم. والجهلة المتخلفون والجلّادون تُخيفهم حرية الفكر وحرية التعبير، فيحاربون الحريات في كل مكان وزمان. 

وحين تضيق الحريات، إما تذبل الكلمات أو تصبح مجرد أشياء فارغة. 

وحين يعتري الخوفُ الوحشي الكاتبَ المتحرر، فماذا يكتب؟ وإذا كتب تحت ظرف الخوف فلن تكون كتابته واضحة أو صادقة. 

وكيف يكتب بحرية مَن يطارده وحش أو ظلاميٌّ متوحش؟ 

منذ حوالي شهر، كلما حاولتُ أن أكتب شيئًا بحرية، شعرتُ بالخوف، فأكفّ عن الكتابة على الفور. يحدث لي هذا الشعور البشع بعد أن هددني شخص متطرف دينيًّا. 

والآن، أحيانًا، أكتب وقلبي يرتجف من ردود أفعال المتطرفين. 

أنا أكره الخوف كرهًا شديدًا. وجميع أنواع الخوف سيئة كما يقول الفيلسوف برتراند راسل. والتحرر من الخوف مسألة ليست سهلة. الإرهاب ينبع من التطرف، فلا إرهاب بلا تطرُّف. والكتابة الحرَّة ترفض التطرف والإرهاب معًا، بل إنّ الكاتب التنويري يتصدى بالنقد والتحليل والكشف الشجاع، لكل مظاهر العنف والبؤس والقمع، ويفضح القُبح الهمجي المستور. 

عيسى مخلوف، ذلك الشاعر والكاتب اللبناني الرائع، أصاب كبد الحقيقة عندما قال: "بعض الناس يرى الكِتاب كائنًا مُخيفًا ينبغي محوه!". 

أرض الخوف هي أرض الميليشيات والاستبداد بجميع أشكاله وألوانه. وفي أرض الرعب والعبث تزدهر الكتابة التافهة أو الرديئة، وتُهان الكتابة الجيّدة. أو تنهزم الكتابة الشجاعة الحرة وتنتصر الكتابة الجبانة المتملقة. بلاد مغرقة في الخوف والظلام والاستبداد المتعدد الصور. وخصوم هذه البلاد هم الشرفاء والأحرار من أبنائها المستنيرين؛ هم يريدون تحريرها وتريد هي شنقهم! 

والمثقفون الأحرار فيها هم قلة قليلة جدًّا. 

أهذه أرض إنسانية أم أنها حفرة كبيرة في جهنم؟ 

أهذا وطن أم وكر ذئاب؟

إنني أكتب الآن، أقاوم كعادتي المخاوف والسلبيات. فكما أنّ الحياة لا تطاق بلا مطر فإنني لا أحب حياتي بلا كتابة. إنها قدري. أحاول عن طريق الكتابة أن أخلق مطري الخاص، وأن أسقي أرواح أولئك الناس العطاشى على جنبات الطريق. وكلما كتبتُ شيئًا، أحسستُ من غير وعي بأنني أكتب بالنيابة عن كل البؤساء الذين لا يجدون الوقت أو الشغف أو الموهبة، لكي يكتبوا شيئًا مما يثور في دواخلهم المملوءة بالحزن والشك والحيرة واليأس والانتظار العبثي.

وأنا لستُ أعتقد بأن هناك علاجًا ناجعًا أو وسيلة أفضل من الكتابة للتحرر من الخوف الذي ينهك النفس، ويعطل العقل، ويمنعنا من التقدم. والكتابة مثلها مثل التقدم، عملية خلاص من المخاوف الداخلية والخارجية في زمن واحد، أو هي تحاول ذلك بقدر المستطاع. ولكن عادة ما يفشل الكاتب المريض بخوف عميق في التحرر من خوفه عن طريق الكتابة. والكتابة، في أروع حالاتها، إنما تكون بالنسبة لصاحبها، إذا كان حُرًّا صادقًا، كمثل ذلك الحجر الذي نرمي به عصفورين في لحظة واحدة.

في اليمن، تعقّدت سُبُلُ الحياة أكثر، وتكاثر المتطرفون، وأصبحت الكتابة الحرة مغامرة خطيرة جدًّا. إنه الاستبداد الراعب الذي ينزع الشجاعة من قلوب الناس ويغرس في نفوسهم المخاوف السامّة. والإرهاب هو أداة هذا الاستبداد الذي يجثم على صدر البلاد بأكملها.

تحرر الإنسان من الخوف دلالة على حبه للحياة ورغبته في التقدم. إن آفة الآفات هي الخوف. الخائف من التقدم لن يتقدم حتى يتحرر من مخاوفه. وهو إذ يتحرر من خوفه يستنير عقله ونبضه. الخوف من التقدم هزيمة، خصوصًا في زمننا هذا. وفكرة التقدم تشترط أساسًا التحرر أولًا من الخوف.

وحين أقول الكتابة الحرة، فإنما أعني: الكلمة التنويرية. والتنوير الكتابي هو التحدي العقلاني، المواجهة النقدية الجريئة، والمغامرة المتصدية للأفكار الظلامية. وعلى الكاتب التنويري أن يقوم بدوره الكفاحي، أو يستسلم للخوف ويلوذ بالصمت هربًا من وجه الإرهاب الواقف له بالمرصاد! 

وأشر الناس من يزرع الخوف في قلوب الناس. الإرهاب حرفة الطغاة النابغين في مجال الشر. وها نحن في اليمن نعيش تحت ضغوط نفسية قاسية للغاية؛ لأننا خائفون لدرجة الانكماش والعجز الكامل عن قول الحق ومناصرة الحقيقة.

تحرُّر الإنسان من الخوف دلالة على حبه للحياة ورغبته في التقدم. إنّ آفة الآفات هي الخوف. الخائف من التقدم لن يتقدم حتى يتحرر من مخاوفه. وهو إذ يتحرر من خوفه يستنير عقله ونبضه. الخوف من التقدم هزيمة، خصوصًا في زمننا هذا. وفكرة التقدم تشترط أساسًا التحرر أوّلًا من الخوف. 

وأن يكون الكاتب من طينة التنوير، فذلك يكفي لجعله يعيش خائفًا في جميع الأحوال، مزعزع النفس على الدوام، مهما بلغت درجة شجاعته، ومهما تكن ثقته بنفسه. فلا أقسى ولا أبشع من تلك المرارة التي يذوقها الكاتب حين يتم تهديده ومنعه من الكتابة الحرة. كيف يحمي نفسه الكاتب التنويري المحاط بجيش كبير من الظلاميين المتطرفين، أو إذا كان المجتمع كله ضده؟ 

ويصدق قول الكاتب عبدالله القصيمي: "النبوغ يخنقه الخوف والقهر والظروف الرديئة". ثم يقول القصيمي نفسه إنّ "رسالة الكاتب هي أن يحاول تقوية الحرية ضد خصومها وإضعاف أولئك الخصوم أو إزالتهم".

أما الشاعر الكبير عبدالله البردّوني، فيقول في كتابه (اليمن الجمهوري): "أليس التفكير في ساعات الخوف أبهى الدلائل على قهر الخوف؟!".

وهذا الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج، يقول إنّ "لا قيمة لشيء مما نكتبه ما دمنا نعتبر أن سلامتنا الشخصية أغلى من الحقيقة"، ولكن ماذا كان سيقول لو كان يعيش بيننا في اليمن وفي هذا الوضع المزري العصيب؟

للظلاميين المتطرفين أينما كانوا، أعداء النور والكرامة، أقول: إذا استطعتم أن تقتلوا الكاتب فلن تستطيعوا أن تقتلوا الكتابة. وإذا قدرتم على إطفاء حياة المبدعين التنويريين، فلن تقدروا أن تطفئوا تلك الأنوار المشعة من أعماق كلماتهم الحرة. إذ في نهاية المطاف، لا يصح إلا الصحيح. الكلمة الشريفة لا تموت أبدًا، وأمّا الكلمة الزائفة أو الملوثة فلا حياة لها ولا يمكن لها أن تعيش لفترة طويلة. 

وعلى أي حال، يبقى السؤال الآتي قائمًا: كيف يعيش الكاتب الحر في أمان واستقرار نفسي إذا كان المتطرّفون يراقبون كل كلمة يكتبها أو يقولها بصوته؟

•••
ضياف البَرَّاق

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English