حضور الأنثى في الشعر الشعبي

تتبع لخمس تجارب شعرية نسوية في وادي حضرموت
د. مسعود عمشوش
December 4, 2022

حضور الأنثى في الشعر الشعبي

تتبع لخمس تجارب شعرية نسوية في وادي حضرموت
د. مسعود عمشوش
December 4, 2022

من المعلوم أنّ المجتمع الحضرمي مجتمعٌ تقليدي ومحافظ. وفي أيّ مجتمع تعدُّ المرأة من أهم العناصر المساعدة على الحفاظ على العادات ومختلف مكونات الثقافة التقليدية، بما فيها اللغة. لذلك لا يتوقع المرء أن تتضمّن نصوص كتبَتْها امرأة حضرمية مطالبةً بتغيير العادات والقيم الاجتماعية السائدة أو الثورة عليها. ومع ذلك تبيّن لنا من خلال قراءتنا لنصوص خمس شاعرات من وادي حضرموت قمنا بجمعها في كتابٍ نزمع نشره قريبًا بعنوان "الشعر الشعبي النسوي في حضرموت"، أنّ تلك النصوص، التي كُتِب معظمها في النصف الأول من القرن الماضي، قد عبّرت عن نقد صريح لبعض العادات الاجتماعية ومطالبة بتغيير بعضٍ آخر منها. 

تنتمي الشاعرات اللاتي درسناهن في كتابنا إلى وادي حضرموت، وتحديدًا لمدينة سيئون. وجميعهن كنّ يتقنّ القراءة والكتابة، إذْ إنّهن ترددن على الكتاتيب و(العُلَم) المنتشرة في المدينة، كما شارك أهلهن في تعليمهن. والتحق بعضهن بالتعليم النظامي الذي ظهر في حضرموت منذ عشرينيات القرن العشرين. ومن أهم أسباب اختيارنا لهن وجود جزء من قصائدهن موثق في كتب أو دواوين، بعكس ما آلت إليه قصائد الشاعرات الحضرميات الأخريات اللاتي لا يعرفن الكتابة ولم يقم أحد بتوثيق قصائدهن.

ومن خلال قراءتنا للنصوص التي يتكوّن منها متننا، تبيّن لنا أنّ الشعر الشعبي النسوي في حضرموت يمتلك عددًا من السمات التي تميّزه عن الشعر الشعبي الذكوري في حضرموت. وأولى تلك السمات تركيزُ النساء، اللاتي لم يكنّ يمارسن أيّ عمل خارج البيت، على إبراز تعلقهن بجلسات الغناء والسلا والرقص. فجميع شاعراتنا اعترفن بحبّهن للغناء والسلا في كثير من قصائدهن. فخديجة عليّة مثلًا، حرصت على التعبير عن حبّها للغناء والطرب في عدد كبير من قصائدها، ففي قصيدة "يا الله يا رب يا ساتر"، تحدّثت عن ولعها بالغناء، قائلةً:

صوت الغنا يشرح الخاطر    قم يا فتى قرّب العدّة

وني عليْ با أحمل الهاجر   قل للغزل حكموا الردة 

حيّا بمن عندنا حاضــر   لأجل العرس هو من حده

وفي قصيدة "يا عيني الساهرة، ص30" كتبت:

مدروفكم لي ســــبر     ردّوا عليّ الخبر

واحد يرش المدارة    بدخل ولو هو خطر

للشرح با تعنّا   حسيت ذا الصوت يطفي كير مرشون 

وكذلك فعلت الشاعرة نور قدريّة، التي أكّدت ولعها الشديد بالغناء والسَّلا في عددٍ كبير من قصائدها، ففي القصيدة العشرين، مثلًا، قالت:

واليوم انا سالي واحب الغناء    وأفرح بمن نسنس وغنى

يا ذا الغواني صوتكن شاقنا     وبحنة الهــــاجر فرحنا

وصوتكن يشبه حمائم منى     وأبياته محكومة بمعنى

يا أهل السمر يا ريتكم عندنا     كلين يبلغ ما تمنّى

نحن وإياكم اجتمع شملنا     بالليل والّا لا صبحنا 

ويزخر الشعر الشعبي النسائي في حضرموت، مثل الشعر الذكوري، بالتغنّي بالحُبّ، في أبعاده المختلفة، وعادة تتجاوز قصائدهن الغنائية تجاربهم الذاتية، فما يتضمنه من أحاديث عن الحبّ والوصال لا يرتبط بالضرورة بحياتهن وتجاربهن الخاصة. كما أنّهن يحرصن في الغالب على عدم إبراز هُويتهن، ولا حتى أنوثتهن؛ فهن يتجنبن نون النسوة ويوظفن في كثير من قصائدهن ضمير المتكلم المذكر. فخديجة الحبشي مثلًا، تحرص في الغالب على عدم إبراز هويتها، ولا حتى أنوثتها؛ فهي توظف في معظمها ضمير المتكلم المذكر؛ مثلًا، تبدأ القصيدة التي نظمتها على صوت "يا قمر شارقة فوق سيئون"، قائلة: 

قال من بات ساهر في الليالي     ليه ما حد نشد كيف حالي

يومنا مثل رأس الخيل مرصون

يوم قلبي مضيّع يا حبايب   دوروا لي دواء شو ذاك واجب

من نظر ضعف حالي قال مجنون 

وفي كثير من الحالات تبدأ خديجة عليّة قصائدها بـ"قال الفتى الهاشمي..."، ففي القصيدة التي نظمتها على لحن "ربي تشفي في العشقة قلوب المعاليل"، تقول:

قال ابن هاشم الليلة تزعّل منامي    ما دريت إش لي غيّر عليْ فير زامي

دمع عيني مساييل

هاك يا ذا المغني قول لي يشفي الهم    من خزانة كريم الوجه رزقه وقع جم

كل بخير المكاييل 

وتبدأ قصيدة أخرى، تذكر فيها ولعها بالطرب (السَّمع)، قائلة:

ويقول ابن هاشم يحن القلب لا حَسّ السَمَع

والّا سِمِع مطرب يخطرف بالغناء طرفه دمع

من جور ما به لا دجى الداجي يبيّت في وجع

من شدة الأشواق طرفه في المحبة ما هجع 

ولاحظنا خلال قراءاتنا أنّ هناك كثيرًا من الأغاني الغزلية التي نظمتها شاعراتنا يمكن أن ينسبها المتلقي إلى رجل وليس إلى امرأة، مثلما هو الحال في هذه القصيدة التي قالت فيها خديجة الحبشي:

أيش ذا النور في الخلفة شرف    كان ذا برق عاده با يعود

خاف ذا وجه محبوبي بدا      ذاك لي هو يطل في الوعود

من بلي في المحبة ما سلي   دوب دمعه على خده يجود

وإذا كان الشعر الشعبي يعدُّ من أهمّ الوسائل التي يستخدمها الشعراء الذكور لتوجيه النقد الصريح للحاكم ورجال السياسة والمتنفذين، نلاحظ أنّ الشعر الشعبي النسوي يتجنّب الخوض في أمور السياسة. وتشكّل القصائد التي قالتها شفاء صبانة في ظاهرة التجنيد الإجباري والقضية الفلسطينية، استثناءً لهذه الظاهرة.

وإذا كانت شاعراتنا يبتعدن عن السياسة، فهن لا يترددن في تناول عددٍ من الظواهر والقضايا المرتبطة بالشأن العام؛ مثل فساد القضاء، وغلاء المهور، وانتشار المحاباة والرشوة والقات في حضرموت. 

وتكمن إحدى أهم سمات قصائد الشعر الشعبي النسوي في حضرموت، في تقديمه لتفاصيل جلسات النساء وطقوسه المختلفة في وادي حضرموت، الذي يُحرَّم فيه الاختلاط حتى داخل بيت الأسرة. ونلمس كذلك في بعض القصائد نوعًا من التضامن النسوي؛ فنور قدرية وشفاء صبانة وخديجة علية يتحدثن عن المعاناة التي تسبّبها هجرة الرجال لزوجاتهم وأولادهم. ولم تتردّد شفاء صبانة في نقد تعدّد الزوجات. لكنها، بالمقابل، توجّه نقدًا لاذعًا لزميلاتها النساء اللاتي صرن يخرجن للأسواق، ويحرصن على شراء مختلف أنواع الكماليات، ويبالغن كثيرًا في تجهيزات الزواجات، ويتسببن في إثقال كاهل الرجال بالديون.

وانتقدت الداعية الشاعرة علوية بن عبيد الله السقاف في مقدمة كتابها "المرآة الناظرة في السنة الداثرة"، الرجلَ الذي ترى أنّه سبب جهل المرأة بأمور دينها، فقد كتبت: "ويقلن إذا أصابتهن مصيبة: إنّا لله وإنّا إليكم الراجعون، ويقلن: بسم الله والحمد لله والخير والشر من مشيئة الله. وهذا غلط. وأشياء أخرى لا تحصى. ولا سببه إلّا من الرجال، فلا يرون للزوجات عليهم حقّ، ولا بناتهم حقّ، ولا حد يخلق مُتعَلّم إلّا بالتعليم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة، وكذلك النساء...". وتضيف: "والآن فقد أسقطوا حقوق النساء بالكلية؛ وصرن يتملقن للرجال لمّا أسقطوا حقوق النساء هانت عليه"، (ص8).

وترى علوية عبودة أنّ في ترك المرأة جاهلة، لا سيّما بأمور الدين، إهانة لها، وكتبت عن تجهيل المرأة: "وإنّما غرضنا البيان، ولهذا أنهم أهانوا النساء من جهة الدين، وذلك من قلة الرغبة فيهن؛ فترى المرأة ما تعرف الكلام ولا الحلال من الحرام، ولا الواجب من السنة"، (ص5).

وتنتقد علوية كذلك إهمال الرجل للمرأة خلال فترة الغربة التي تميّزَ بها الرجال الحضارم، فقد كتبت: "وقوله: «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم»، «فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة»، وما ذلك إلّا من الحقوق الكثيرة التي لهن. قال في شرح تفسير الخازن: لا رخصة للرجل أن يطيل الغربة في السفر، ويذرها لا هي مطلقة ولا هي معلقة".

•••
د. مسعود عمشوش

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English