لمن نكتب ولماذا؟

الأديب الحق هو الذي يجعل ولاءه للناس
ضياف البَرَّاق
August 23, 2023

لمن نكتب ولماذا؟

الأديب الحق هو الذي يجعل ولاءه للناس
ضياف البَرَّاق
August 23, 2023
.

مصطلح الأدب الكفاحي صاغه المفكر اليساري المصري سلامة موسى (١٨٨٧-١٩٥٨م). ويُعدُّ هذا الكاتب البارع واحدًا من كبار المفكرين العرب في النصف الأول من القرن العشرين، وأكثرهم تأثيرًا جدلًا وتمردًا على التقاليد والعادات الرجعية، ومؤلفاته المتنوعة تزيد على ثلاثين كتابًا، كلها تنشد الإنسانية وتنزع نزعة تنويرية علمية بل وأخلاقية بامتياز.

والأدب حين لا يكون كفاحًا إنسانيًّا، فما قيمته؟ والأديب الذي لا يعيش مكافحًا نبيلًا، ويكون وجدانه عصريًّا، فما الخير المنتظَر منه؟ 

إنّ الأدب الذي يدعو إليه سلامة موسى هو الأدب العضوي؛ أي ذاك النوع من الإبداع الذي يلامس هموم الناس ويعبّر عن آلامهم بإخلاص، ويرتفع بهم من حضيض الجهل والتخلف والبهيمية إلى مستوى اليقظة والاستنارة والتفكير العقلاني الحر والإنسانية. 

ثم إنه لا ينسى أن يعظّم الأدب المشحون بروح علمية، ويدعو إلى أدب عربي غير منفصل عن حركة العِلم والتطور. 

ولم يكن اهتمام سلامة ينصبّ على أسلوب الكتابة، بقدْر ما كان يشغل عقله الموضوع الذي سيكتب عنه؛ "فالكاتب العظيم لا يبالي بأي أسلوب يَكتُب"، ومع ذلك له أسلوب أدبي خلّاب، شائق وماتع معًا، إنه أسلوبه المتفرد الذي يتسم بالبساطة العميقة جدًّا، ولديه تفسير لهذا الأمر وهو أّن "الأسلوب الحسن ثمرة الرجل الحسن؛ لأن أسلوبنا هو أخلاقنا".

والأديب الحق هو الإنساني الذي يجعل ولاءه للبشر، وأيضًا، كما يقول، هو الذي يجمع بين العمق واليسر، فيَكتُب للشعب، مثل تولستوي، دون أن يبتذل الأدب فيحيله إلى أدب غوغاء ورعاع. 

وعلى الدوام بقيَ ينادي إلى أن يكون الأدب للشعب، ذلك "الأدب المرتبط بالمجتمع الهادف إلى الإنسانية، بدلًا من الأدب الذي يحيا في الهواء والخواء، أو يأسن في البرج العاجي، أو ينشد اللذات للملوك والأمراء أو للعامة والغوغاء"؛ بحسب قوله. 

"إذا كان الأدب اختيارًا للألفاظِ وترتيبًا للمعاني، فهو صنعة فقط. أمّا إذا كان حياة يحياها الأديب، وكفاحًا لتحقيق الإنسانية والشرف، فهو عندئذٍ فنّ. وأعظم الفنون في العالم هو فن الحياة. والفرق بين الصنعة والفن أنّ الأولى مهارة واختصاص، أما الثاني فتعميم واستيعاب"، هكذا يشرح لنا سلامة موسى مذهبه الأدبي. 

ويعتبر أنّ الأدب الفصيح البليغ إذا كُتب للملوك فإنه أقل قيمةً وشرفًا من الأدب العامي إذا كُتب بإخلاص. وإذا سألناه: ما هي رسالة الكاتب؟ قال لنا: "مهمة الكاتب أن يرفع القارئ من الزقاق إلى الشارع، ومن الشارع إلى المدينة، ومن المدينة إلى القارة، إلى هذا الكوكب كله، مهمة الكاتب أن يملأ صدر القارئ باهتمامات هي هموم جديدة، هموم بشرية تزيد على همومه الشخصية، كما يملؤه بمسرات الحياة بأن يكشف له عن ألوان من الجمال والشرف والحق والقوة لم يكن يعرفها من قبل في الطبيعة والإنسان والفن. مهمة الكاتب أن يحمل القارئ على أن يأبى أن يحيا حياة الحشرة بهموم شخصية وضيعة".

وكل ما كتبه فإنما هو كفاح ثقافي غزير غنيٌّ بالفلسفة ومطبوع بالفرادة. وكتب مقالة قال فيها: "إن الأدب العربي القديم لا يساعد على تخريج الأديب العصري". ويقول إننا نحن أبناء الشعوب العربية في مسيس الحاجة إلى أقلام فدائية، ويجب على الكاتب منّا أن يقود القطيع أو الغوغاء؛ لأنّه من العار أن يصير متملقًا للحشود التي تقدّس الجهل وتخاف التحرر. وسلامة يمجّد أقلام الأحرار، وكتاباتهم القادرة على إحداث ثورة في قلوب القراء العرب وعقولهم، على حد تعبيره. 

وغاية الأدب هي الإنسانية وليس الجمال، نقرأ هذا في كتابه البديع "الأدب للشعب" الذي يشرح فيه أنّ "الإنسانية في الأدب تعني مكافحة الظلم والجهل والفقر، والأديب الذي يتخذ هذا المذهب الإنساني تعود حياته نفسها أدبًا؛ لأنه مكافح"، ويذهب رأي سلامة إلى أن "الأدب الرفيع هو التنقيب عن معنى الحياة ودلالتها، وهو البحث عن طبيعة الكون، وهو إقناع الإنسان بأن يكون إنسانيًّا، وهو ابتكار القيم الجديدة تأخذ مكان القيم القديمة، وتزيد الدنيا والبشر جمالًا وسعادة، أجل، وطعامًا للجائعين".

دعا (سلامة موسى) مرارًا وتكرارًا، بشجاعة عالية وطرْحٍ عميق، إلى فصل الدين عن الدولة؛ فهو يرى أنّ هذا المبدأ الحضاري هو السبيل الوحيد لشعوبنا العربية للخروج من دائرة الصراعات العبثية ومستنقعات العنف الذي ينخر في صميم الحياة العربية، ويُمزّق نسيجها.

الحق أنه كاتب ملتزم بكل معاني الكلمة، ومن هنا قد كرّسَ التزامه من أجل الشعب ولِخدمة البشرية جمعاء، والسمة الأساسية البارزة في صميم شخصيته وأدبه وفكره هي أنه داعية تقدم وتجديد، على أنه لا ينشد التجديد المنحط؛ إذ كان صوتًا عقلانيًّا حرًّا وضميرًا أخلاقيًّا شريفًا، وبالتالي كان يقارع الفساد بجميع أشكاله، ناقدًا كل ما هو غير أخلاقي، في السلوك أو الفكر أو الواقع. 

ودعا مرارًا وتكرارًا، بشجاعة عالية وطرْحٍ عميق، إلى فصل الدين عن الدولة؛ فهو يرى أنّ هذا المبدأ الحضاري هو السبيل الوحيد لشعوبنا العربية للخروج من دائرة الصراعات العبثية ومستنقعات العنف الذي ينخر في صميم الحياة العربية، ويُمزّق نسيجها. 

ومن شُرفة أخرى، قال سلامة: "إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمِرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغِلِّين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى دعوة: عودوا إلى القدماء". وما خشاه سلامة آنذاك، قد تحقق بحذافيره حتى أصبح واقعًا في أيامنا؛ فلقد هزمتنا ثقافتنا الظلامية من الداخل، مما يعني أنه لم يكن ينظر إلى الأمور بسطحية، بل إنه كان ذا عقلٍ خلّاق يستشرف المستقبل. 

وكتابه عن أنّ (الأدب للشعب) مليء بالآراء والتعاليم الحريصة على إخراج شعبه المصري خصوصًا والعربي عامة، من كهوفه وجهالاتِه وأمراضِه ومن أسْر التقاليد البائسة، وقد كتبه حينما انتشر المذهب القائل إن الفن للفن، فلم يكن منه إلا أن يتصدى لهذا المفهوم الذي رآه لا ينفع البشرية في شيء، وقال إن الفنّ والأدب هما للشعب، والفلسفة أيضًا للشعب، وحينما نجعل أدبنا للشعب تنهض الحياة ويزدهر الأدب. 

وكما رأينا فيما سبق، ينحاز سلامة إلى الأدب الواقعي الذي لا ينفصل عن المجتمع، رافضًا الأدبَ الإنشائي الفارغَ من أي مضمون أو تجديد أو إضافة، والكاتب العظيم بالنسبة إليه، إنما هو ذلك الذي يكتب للطبقات المسحوقة والمهمَّشة، وينهض إلى خلْق قيم جديدة تنغرس محل القيم البالية أو التي لم تعد صالحة لأهل هذا العصر. 

والأدب الرفيع هو الأدب المكتوب بلغة دقيقة لا مبهمة، بسيطة وعميقة في آن، إنه أدب الأفكار والكفاح والالتزام والارتقاء، لا أدب التسلية والتّرف الذهني واستعراض العضلات البلاغية، وهذه طريقة سلامة موسى في الكتابة، وقد كان فعًلا يكتب للخاصة والعامة معًا، وأسلوبه ذاك إنما ينبع من صميم موضوعه وقضيته وشخصيته العصرية أو هو ثمرة حياته الفريدة. 

وانتقدَ الأدباء الذين لا يزالون يقلّدون أسلوب الجاحظ أو يستنسخونه، أو يُحاكون أساليب القدماء، أو يعتنون بالشكل أكثر من عنايتهم بالموضوع، وأولئك الذين يكتبون مضمونًا رجعيًّا بأسلوب حداثي، وجدير بالذكر، هنا، أنّ له كتابًا كاملًا عن النهضة عنوانه (ما هي النهضة)، وكل أفكار سلامة موسى ثورية وناضجة، فهو ولا شك ذو عبقرية موسوعية خلّاقة قادرة على تنويرنا بأفكار الفلسفة وروح العلم وقوانين التطور وكشوفات السيكولوجيا، وغير ذلك.

•••
ضياف البَرَّاق

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English