الحربُ والمرأةُ في أعمال محمد الغربي عمران

حين يصير التاريخ متكأً معرفيًّا وملاذًا آمنًا للكتابة
عبده منصور المحمودي
August 26, 2022

الحربُ والمرأةُ في أعمال محمد الغربي عمران

حين يصير التاريخ متكأً معرفيًّا وملاذًا آمنًا للكتابة
عبده منصور المحمودي
August 26, 2022

 تُشكِّلُ الحربُ اليمنية -بأشكالها المختلفة، وامتداداتها التاريخية- نسقًا موضوعيًّا رئيسًا في التجربة السردية عند الكاتب اليمني محمد الغربي عمران. ومثل ذلك هو الأمرُ فيما يتعلق بالمرأة اليمنية؛ التي يتّسِقُ حضورها -في بعضِ جوانبه- مع الحرب، سواءٌ من خلال مشاركة المرأة فيها، أو صراعها المحدود، مع مجتمعها الذكوري المتسلط. 

  يستند الكاتب إلى التاريخ اليمني، مستثمرًا من أحداثه ما يثري تجربته السردية، سيما ما يتعلق منها بالحروب والمرأة. وإلى ذلك ستتطرق هذه المقاربة النقدية؛ وفقًا للتراتب التاريخي الذي تتابعت في سياقه مضامينُ أعمال الغربي عمران: بدءًا بالأقدم منها، العائد إلى القرن الخامس الهجري، والمتمثل في حكايةِ عاشقٍ تائهٍ لمحبوبةٍ منشغلةٍ عنه بالحكم. مرورًا بازدواجية المُتَحَوِّل التاريخي والثبات الاستبدادي، تلك الازدواجية المنتمية إلى أواسط القرن العشرين. ثم مضامين الحروب اليمنية المتناسلة ما بين أواخر القرن العشرين، وبين فضاءٍ زمني يزيد على عقدٍ ونصفٍ من القرن الواحد والعشرين.

عاشقٌ تائهٌ، ومحبوبةٌ حاكمة

  سرد الكاتب في روايتيه: "ظلمة يائيل"(1)، و"مملكة الجواري"(2)، حكاية العاشقين: الخطاط جؤذر وشوذب ابنة معلمه الورّاق، الذي تعلم على يديه وعمل معه في دكانه منذ طفولته. ترعرعا معًا، وعاشا بيئةً واحدةً، ثم فرّقت بينهما تقلبات الزمن، فبدأ رحلة البحث عنها. وعلى هذه الرحلة قام نسقٌ سرديٌّ رئيسٌ في هاتين الروايتين، بتفاصيله التي ظهر من خلالها التاريخ السياسي اليمني في العصر الوسيط، بما فيه من ديناميةٍ للصراع السياسي المخاتل في صورةِ صراعٍ ديني عنيف.

  تساردت على لسان جؤذر -شخصية العملين الرئيسة- رحلةُ بحثه عن شوذب؛ مضيئةً من التاريخ الوسيط مساحاتٍ من صورة المرأة اليمنيةِ المحكومةِ بسلطة الرجل المهيمنة على الحرائر والجواري، وقد آلت حياة شوذب إلى فئة الجواري. لم يعثر عليها العاشق في رحلة بحثه عنها، وإنما عثر على نفسه في حفرةٍ مظلمةٍ لم يغادرها إلا بعد سنواتٍ، فاستأنف رحلته دون جدوى، حتى وقد أسدلت الرواية الستار على نهايتها المفتوحة، التي أسلمت من خلالها التدفقَ السردي لرواية "مملكة الجواري"، المتصلة بها زمنًا وحكايةً وأحداثًا متتابعة.

  استأنفت رواية "مملكة الجواري"، النسق السردي ذاته، الذي كُثِّفتْ فيه معالجةُ الصراع السياسي، حيث التقطت تجربةُ الكاتب من هذا الصراع -بقصديةٍ ودهاءٍ عالٍ- التحول التاريخي الاستثنائي في ماهيته القائمة على الوصول بالمرأة إلى سدة الحكم، متجسّدةً في شخصية السيدة أروى بنت أحمد، التي آلت إليها مقاليد الحكم، إذ "دعتْ مستشاريها ودُعاة المذهب بعد رحيل ابنها الملك الشاب بأيامٍ، طالبةً منهم نشر إعلان كفالتها لجميع المؤمنين، ... بعد ذلك جمعت جواريها في ليلةٍ مقمرةٍ صلّتْ بهنَّ طوال الليل حدّثتهن بأن مملكة جزيرة اليمن لهنّ، وهنّ مَن يحكمنها منذ تلك الليلة دون شركاء أو أوصياء، وأنها الملكة الحرة التي لا تعتمد على جيش يتبعها من الرجال، وأن النساء الجواري شريكاتها، وأنها لم ولن تسعى أبدًا لامتلاك عسكر في عنابر قصرها ..."، (ص 164،163).  

  لم يقف التحول التاريخي عند تولي المرأة الحكم، وإنما اتسع ليسفر عن قرارها في الاعتماد على جيش من الجواري لا الرجال، وبذلك اتسع نفوذ المرأة ودورها في أروقة السياسة والحكم. كانت شوذب ضمن جيش الملكة، وعلم جؤذر بذلك، فواصل البحث عنها، قادته رحلته إلى أن يكون كاتبًا للملكة، لكنه لم يعثر على حبيبته، مع ما بذله من محاولاتٍ في بحثه عنها بين الجواري القادمات إليه لتسليمه الرسائل التي يقوم بنسخها.

  كشفت سرديةُ العمل عن تفاصيلَ من نظام الملكة، فيما يتعلق بجيشها من الجواري، امتدادًا لنظام سائدٍ في أروقة الحكم، إذ تفقد الجارية اسمها مع انتهاء مهمتها، وتحمل اسمًا جديدًا مع كل مهمةٍ جديدةٍ تُكَلَّف بها؛ لذلك اختفى اسم شوذب، وتعددت أسماؤها بتعدد المهام التي أُوكِلتْ إليها. نالت ثقة سيدتها، فحكمت باسمها سرًّا لمدةٍ طويلةٍ بعد موتها؛ بعدما تشاورت مع زميلاتها، ووصلن إلى أن كتمان خبر موت الملكة إجراءٌ ناجح في المحافظة على استمرارية حكمهن. وبذلك استمر العاشق كاتبًا للملكة، غير مدركٍ أن الحبيبة قد اعتلت سدة الحكم، وانشغلت عنه بترتيباتِ سلطةِ النساء، حتى عصفت به الحقيقةُ بعدما وافاها الأجل.

المُتَحَوِّلُ التاريخي والثابت الاستبدادي

  كانت إشكاليةُ المتحول التاريخي المفرغِ من جوهره بثباتِ الاستبداد فيه، واحدًا من السياقات السردية في "ظلمة يائيل"، و"مملكة الجواري"، لكنها كانت أكثر ظهورًا وفاعليةً في الروايتين: "حصن الزيدي"(3)، و"الثائر"(4)، اللتين تضمنتا هذه الإشكالية من خلال فضائهما الزمني المتمثل في بدايات الستينيات من القرن العشرين، بما فيه من حيثيات زمنيةٍ سابقة، وما تَرَتَّبَ عليه من تداعياتٍ وأحداثٍ مخيبةٍ للآمالِ والمبادئ الثورية. 

  لقد كانت رواية "حصن الزيدي" أكثرَ محوريةٍ في اشتغالها السردي على مساحةٍ زمنيةٍ سبقت إعلان ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962م، شمال الوطن، ومثلها المساحة الزمنية التي سبقت إعلان جنوب الوطن تحرره من الاستعمار البريطاني. وانتهى اشتغالها السردي بمصيرٍ مجهولٍ للمنقذ الذي جاد به الزمنُ في شخصية جمال، ابن الشيخ مرداس العائد من رحلته الدراسية العسكرية في جمهورية مصر العربية. 

لقد قدمت الرواية هذه المرحلة، من خلال سردها لحياةِ أسرةٍ يمنيةٍ مقيمةٍ في الشمال، عانت الظلم من النظام السياسي، فترك "تُبَّعَة"، أسرته، وانظم إلى الجبهة الوطنية وحارب في صفوفها. وكان للمرأة في معركة النضال ـ هذه ـ دورها من خلال مشاركة "سمبثرية"، صديقها "تُبَّعة" في معركته، وفي مرحلة متقدمة من النضال عقد عليها قرانه بطريقةٍ متمردة على المجتمع

  وتمحور الاشتغالُ السردي في رواية "الثائر"، على هذه اللحظة التاريخية السبتمبرية الثورية ذاتها، التي كانت بؤرةً زمنيةً تناسلت منها التداعيات والأحداث القاضية على روح الثورة؛ ذلك من خلال تعاطي السياق السردي مع ادعاءات بعض القادة المتسلقين على أكتاف اللحظة، واختطافهم الأضواء كقادةٍ ثوريين، في حين أنّ حقيقتهم مناقضةٌ للمبادئ التي يتشدقون بها، فهم من يعيد صناعة الاستبداد في ثيابٍ ثوريةٍ حينما يصلون إلى السلطة. 

  لقد ظهر هذا التناقضُ في حياة "قمر" -الشخصية الرئيسة في العمل- كان سجينًا محكومًا عليه بالإعدام، هرب من سجنه، والتحق بالثورة، فانتقم من ظالميه خنقًا بخيط حذائه، متخفيًا في ثياب امرأةٍ، لم يظفر به الباحثون عنه. ووصلت به التحولات إلى السلطة، فكان ثائرًا بطلًا. فوجئ بأن كل مَنْ انتقم منهم، وكل مَنْ قامت عليهم الثورة متواجدون معه في منصة التكريم أبطالًا وطنيين. وقد كشف السياق عن هذه الإشكالية على لسان "قمر" الذي أقرّ بحقيقته كقاتلٍ منتقمٍ: "نعم أعترف بأنني لست بطلًا، ولا أستحق التكريم، .... اسمحوا لي أن أعترف لكم بأنني مجرد قاتل استبدت بي شهوة الانتقام"، (ص 430).

  وفي سياق الحرب في الروايتين، نالت المرأة نصيبًا من وحشية الصراع، ولعل أبشع ما تعرضت له هو ما جاء في رواية "حصن الزيدي"، حيث تصير نساء المنهزم سبايا للطرف المنتصر، و"سُمِلت العينُ اليسرى لكل أنثى، وبترت الكف اليمنى لكل ذكر"، (ص 21)، وهو ما تم تنفيذه على "شادن" ابنة الشيخ "شنهاص" المنهزم على يد الشيخ "مرداس". وقد تقدمت بها سردية الحكاية حتى انتصرت لكرامة المرأة؛ إذ تدبّرت أمر هروبها من حصن مرداس، فذاعت أخبار شجاعتها وهي تقتل كل من يحاول القبض عليها من جنوده الباحثين عنها في الشعاب والجبال، حتى كانت نهايتها قتيلةً على أيديهم في مواجهةٍ خسرتها معهم بعدما قتلت عددًا منهم.

   ومن زاويةٍ أخرى، زاوية حرب المرأة مع الثقافة الذكورية السائدة، تأتي معاناة ابنتي الشيخ مرداس لظلم أبيهن، الذي "لم يعرهما منذ ولادتهما أدنى اهتمام، رافضًا من تقدموا للزواج بهما"، (ص 48). وفي هذا السياق يأتي ظلم الشيخ مرداس لزوجته "شبرقة" حينما تمادى في هجرها، وتزوج عليها بـ"عيشة"، و"فاطم". حاولت الانتقام منه بالسم، لكنه كشف أمرها، فانتحرت بكأس السم ذاته.

كما ظهرت في رواية "الثائر"، عددٌ من صور ظلم المرأة اليمنية في فضاء الرواية الزمني، من خلال الحكايات التي وظفتها السياقات السردية، فكان منها ما ورد على لسان "العظمي"، وهو يتحدث مع نديمه "قمر"، عن مغامراته مع النساء، وعمّا عرفه في هذه المغامرات من قصص المعاناة التي سحقت كرامتهن، فصرن إلى ما صرن إليه، من واقعٍ يمنحه الاستمتاع بهن مثل غيره ممن يتردّدون على أماكن بيع الهوى.

حروبٌ متناسلة

  في الروايتين: "مصحف أحمر"(5)، و"بر الدناكل"(6)، قدّمت تجربة الكاتب السردية صورًا متناسلةً من الحروب اليمنية، الممتدة ما بين نهاية القرن العشرين وبين أوائل القرن الواحد والعشرين. 

   لقد تعاطت رواية "مصحف أحمر"، مع الحرب في صورتها المختلفة عن الحرب التي تتعدد فيها أطرافها المتناحرة، هذه الحرب الجديدة قائمةٌ بين طرفين سياسيين اثنين: شمالي، وجنوبي. انفجرت بين نظام صنعاء المتشكل من تحالفٍ ديني وعسكري وقبَلي، وبين الجبهة الوطنية المدعومة من النظام الجنوبي، التي نشأت في المناطق الوسطى الممتدة من محافظة الضالع حتى محافظة ذمار، وتبنّت ما اصطلح عليه بـ"الكفاح المسلح"؛ الهادف إلى تحقيق الوحدة بين شطري اليمن.

  لقد قدّمت الرواية هذه المرحلة، من خلال سردها لحياةِ أسرةٍ يمنيةٍ مقيمةٍ في الشمال، عانت الظلم من النظام السياسي، فترك "تُبَّعَة"، أسرته، وانضمّ إلى الجبهة الوطنية وحارب في صفوفها. 

  وكان للمرأة في معركة النضال -هذه- دورها من خلال مشاركة "سمبثرية"، صديقَها "تُبَّعة" في معركته، وفي مرحلة متقدمة من النضال عقد عليها قرانه بطريقةٍ متمردة على المجتمع، قائمة على رؤيةٍ خاصةٍ بهما، وأنجبا طفلهما "حنظلة"، الذي سافر لدراسة الطب في العراق. لكنه لم يعد من رحلته طبيبًّا وإنّما إرهابيًّا، اختفى، ولم تعرف أمه له عنوانًا، لكنها استمرت في التداعي مع أمومتها من خلال رسائلها إليه، على يقينها بأنه لن يقرأها، لاستحالة وصولها إليه.

  وقد ضمّنتْ سرديةُ الرواية في رسائل هذه الأم -وعلى لسانها- كثيرًا من تفاصيل الصراع والنفاق السياسي في الجماعات الثورية، كما ضمّنتها وفاءها لأبيه، متحدثةً عن دوره في تشكيل شخصيتها وثقافتها، متسامحة مع نسيانه لها: "لم يكن تبعة ذلك الإنسان العادي بالنسبة لي، فهو من أيقظ مشاعر الإنسانة فيّ، أعطاني المفهوم لمعاني الاحترام والمساواة، من تشربت منه مبادئ الحرية والاشتراكية، من نقش الحروف الأولى على نقاء قلبي، أعطى للأشياء رائحتها، طعمها، ألوانها، معانيها... ولهذا أغفر له نسيانه لي كل هذه السنين"، (ص 318).

  وامتدادًا للسياقات السردية التي وصلت إليها رواية "مصحف أحمر"، جاءت رواية "بر الدناكل"، فعالجت أحداثًا سياسيةً، وحروبًا متناسلةً منتميةً إلى الفترةِ الزمنيةِ التي سبقت إعلان توحيد الشطرين سلميًّا، ثم مرورًا بهذا الحدث الذي لم تكتمل عوامل ثباته، فانفجر حربًا دامية، انتهت بالنقيضين (منتصر/ منهزم). كما امتدت سردية الرواية، إلى معالجةِ أحداثٍ منتميةٍ إلى العقد الثاني من الألفية الثالثة.

   لقد هيمن حضورُ المرأة الفاعل في رواية "بر الدناكل"، على أنساقها الحكائية؛ فالشخصية الرئيسة فيها "شنوق" -المتهم بنشاطٍ مناوئٍ للنظام، الهارب من ملاحقات عسسه، المنزوي في غرفته معتزلًا السياسة- ظهرت تفاصيلُ علاقاتهِ النسائيةِ سياقًا محوريًّا في الاشتغال السردي، من خلال ثلاث تجارب رئيسة: تجربته مع "غزال" العشرينية المنسحقة بقسوة واقعها، الذي تشكّلت به حياتُها المتحررةِ من أنسقة الحياة الاجتماعية السائدة، فجمعت بينه وبينها الحاجةُ والشهوات والأفكار المتمردة. وتجربته مع "أروى"، التي قُتلت في عدن، حينما هاجمتهم عصابةٌ إرهابية. وتجربته مع "البندرية" التي اختفت، ومرت عقودٌ ثلاثة على علاقته بها، وظنها واحدةً ممّن قُتلوا إثر مواجهةٍ دامية. حتى فوجئ بظهورها على الفضاء الأزرق، "الفيس بوك"، أنكر عليها أن تكون هي "البندرية"، لكن إنكاره لم يصمد، بعدما عادت بذاكرته إلى تفاصيل حبهما قبل اختفائها.

  لقد استثمر الكاتب -ولأول مرةٍ- في تجربته السردية، وسيلة التواصل الاجتماعي "الفيس بوك". ويُمَثِّل عدم استثماره لهذه الوسيلة في أعماله السابقة اتساقًا مع مضامينها، التي لم تكن هذه الوسيلة من تقنيات فضائها الزمني. كما يمثل استثمارها في "بر الدناكل"، تواؤُمًا مع مضامينَ يغلب عليها دخولُ وسيلةِ التواصل الاجتماعي هذه فيها من جهةٍ، واندماجًا مع زمنية التدوين المحيلة على حياةٍ زاخرةٍ باستخدامها من جهةٍ أخرى. 

  إن هذه الإحالة -على حياةٍ زاخرةٍ باستخدام "الفيس بوك"- لم تظهر في أعماله السابقة، وعلى ما في تلك الأعمال من موضوعيةٍ في مُسَوِّغِ المسافة الزمنية الفاصلة بين مضامينها وبين زمن هذه الوسيلة، فإنّ في زمن إصدارها إمكانيةُ استيعابِ هذه الإحالةِ عليهِ كزمنٍ تدويني؛ فزمنُ إصدارِ الروايات: "ظلمة يائيل"، و"الثائر"، و"مملكة الجواري"، و"حصن الزيدي"، هو العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، الذي تُعَدُّ هذه الوسيلة من أهم تقنيات التواصل فيه. لذلك يمكن القول إنّ استثمار الكاتب للـ(فيس بوك) في روايته "بر الدناكل" -آخر إصداراته- يمثّل تجديدًا تقنيًّا في تجربته السردية، وتجديدًا فيما ينطوي عليه استثمارُها من إحالةٍ على زمنها التدويني.

التاريخُ والرؤيةُ السردية

  تتسم التجربةُ السرديةُ عند الغربي عمران بمركزيةِ الدور الفاعل للتاريخ فيها، ولهذه السمة امتدادٌ في شخصية الكاتب، وميوله المعرفية التي كانت دراسةُ التاريخ وجهتها التحصيلية الجامعية، حيث استندت تجربته السردية على التاريخ -وبما لا ينال من أدبيتها- فمزج في أعماله بين التاريخ وخيال الكاتب؛ ليقدم عملًا أدبيًّا بطعم التاريخ، حسب ما جاء في واحدٍ من حواراته (7). 

 وقد كان للذات الإبداعية فاعليتُها في الطريقة التي جاء عليها التوظيفُ التاريخي في التجربة السردية للكاتب، وهو ما يفسر تداعيها غير المتصاعد مع التراتبية التاريخية لمضامين إصداراته، حيث تبدأ تراتبيةُ الخلفياتِ التاريخية لمضامين تجربته الروائية في القرن الخامس الهجري، وتصل إلى أوائل القرن الحادي والعشرين. بينما زمنُ إصدارها لا تراتبية تتابعية فيه؛ إذ انطلقت تجربته الروائية في الربع الأخير من القرن العشرين، فكانت أُولى رواياته "مصحف أحمر". ثم تعود هذه التجربة إلى التاريخ الوسيط، فتخرج منه بإصدار روايته الثانية "ظلمة يائيل"، ذات الهامش المنتمي إلى أوائل القرن الواحد والعشرين. ومن التاريخ الوسيط -السياق الزمني لظلمة يائيل- تقفز التجربة السردية إلى العصر الحديث، لتنجز رواية "الثائر". بعدها تذهب التجربة إلى الزمن القديم، إلى حيث توقفت حكاية "ظلمة يائيل"، فتستأنف معالجتها الأدبية في إصدارٍ جديد كان رواية "مملكة الجواري"، التي استأنفَ هامشُها سَرْدَ ما توقف عنده هامشُ "ظلمة يائيل". ثم تُحَلِّقُ تجربةُ الكاتب ثانيةً في زمن رواية "الثائر"، فتثري سياقاته برواية "حصن الزيدي". ومنها تنطلق إلى زمن "مصحف أحمر"، فتثري سياقاته برواية "بر الدناكل"، التي امتدت سرديتها إلى بدايات القرن الواحد والعشرين.

  وفي مثل هذا التحليق -الذي اتسمت به تجربة عمران السردية، بما فيه من حريةٍ غير محكومة بتراتبية زمنيةٍ متتابعة- ما تنتصر به التجربة الكتابية لروح الفنان المبدع، لا لمنهجية الباحث والمؤرخ. كما تحيل حريةُ التحليق في الفضاءات الزمنية على أنّ الفاعل في تَخَلُّقِ كل عملٍ، هو ما تراهُ تجربةُ الكاتبِ مِنْ تكاملٍ لأبعاده، ونضجٍ للرؤية السرديةِ، التي ستستقيم بها سياقاتُ حكايته.

  يعتمد الكاتبُ في بناء رؤيته السردية -هذه- على تاريخ الديكتاتورية والطغيان في السلطات اليمنية الحاكمة على اختلاف أنظمتها السياسية وخلفياتها الأيديولوجية، حيث يترتب على ذلك أن تُوَاجَه هذه الديكتاتورية بردودِ فعلٍ اجتماعيةٍ متفاوتةٍ في توصيفاتها بين تمرّدٍ، وثورةٍ، ومعارضة، غيرِ محصّنةٍ من مصيرِ تدجينها، إما بتواؤمها مع السلطة التي تربطها بها علاقاتٌ شائكة، وإما بإعادتها إنتاج الاستبداد حينما تصل إلى السلطة، متخلّيةً عن المبادئ التي كانت تدعي النضال من أجلها، حينما كانت في ميدان ردود الفعل على ديكتاتورية الأنظمة.

  كما تَسْبُر الرؤيةُ السرديةُ عند عمران التحولات التاريخية، مقتربةً من حيثياتها وأحداثها، بمعالجةٍ أدبية تشخيصيةٍ لهذه الإشكالية الوطنية؛ وسياقاتها المتشابهة في التاريخ اليمني الوسيط والحديث والمعاصر، والتي تتكرر فيها صورة السلطة المستبدة، وتتجدد من خلالها عوامل تجدد الحرب، وديناميتها القائمة على تحالفٍ دينيٍّ قَبَليٍّ عسكري. تحالفٌ يعتمدُ على استغفالٍ اجتماعيٍّ متوالدٍ من محدوديةٍ معرفيةٍ وثقافية. وبذلك تتضمن رؤية عمران السردية خطابًا تنويريًّا، من أهم مرتكزاته التسامح الديني، الذي سَيَحُولُ دون استثمارِ السلطاتِ العاطفةَ الدينية؛ لتحقيق مآرب سياسية. 

 وتحظى المرأةُ في سرديات الغربي عمران بعنايةٍ خاصةٍ، حيث أضاء الكاتب إنسانيتها المكبلة بقيودِ المجتمع الذكوري، منذ خطواته السردية الأولى المتمثلة في مجموعاته القصصية، من مثل: "الشراشف"(8)، و"حريم أعزكم الله"(9)، و"ختان بلقيس"(10).

  كما استمرت تجربتُه السرديةُ في معالجةَ صورٍ من معاناة المرأة في أعماله الروائية، فكان حضورها فاعلًا في سردية رواية "مصحف أحمر". ومثل ذلك التعاطي مع بؤسها في التاريخ الوسيط، في رواية "ظلمة يائيل"، ومثلها "مملكة الجواري"، التي انتصرت رؤيتها السردية للمرأة، من خلال استئناسها بتحولات السلطة إلى السيدة أروى. كما قدمت رواية "بر الدناكل"، المرأة في عددٍ من صور واقعها الحديث، فكانت الحكايات المرتبطةُ بها ذات دورٍ محوريٍّ في نسيج السياقاتِ السردية، التي احتفت بالمرأةِ ملاذًا للهارب من جحيم الصراعات السياسية.

المصادر

(1 ) صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013م. وحائزة على جائزة الطيب صالح، 2012م.

(2) صادرة عن دار هاشيت انطوان، بيروت، 2017م. وحائزة على جائزة كتارا، ولصدورها عن دار الهلال قبل الحفل بعنوان "مسامرة الموتى"، تم سحب الجائزة بعد إعلان الفوز.

(3) صادرة عن دار هاشيت أنطوان، بيروت 2019م، وحائزة على جائزة راشد بن حمد بالإمارات 2019م، كما وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ، الجامعة الأمريكية، القاهرة 2021م.

(4 ) صادرة عن دار الساقي، بيروت، 2014م.

(5) صادرة عن دار رياض الريس، بيروت، 2010م.

(6) صادرة عن دار هاشيت أنطوان، بيروت، 2021م.

7  ) "نجاح الأديب والسياسي اليمني الكبير الغربي عمران"، فريق راديو صوت العرب من أمريكا. أجرى الحوار أحمد الغر، 20 يوليو 2021م. 

(8) صادرة عن اتحاد الأدباء العرب، دمشق، 1997م.

(9 ) صادرة عن نادي القصة "ألمقه"، صنعاء، 2000م.

(10) صادرة عن نادي القصة "ألمقه"، صنعاء، 2002م.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English