أدخنة الحرب في "السماء تدخن السجائر"

آليات سردية للهروب من فخاخ التسجيلية والتوثيق
د.عبدالحكيم باقيس
January 23, 2024

أدخنة الحرب في "السماء تدخن السجائر"

آليات سردية للهروب من فخاخ التسجيلية والتوثيق
د.عبدالحكيم باقيس
January 23, 2024
.

ربما تضع الرواية المكتوبة في العقد الأخير، في العديد من الأقطار العربية التي تشهد نزاعات حروب- سؤالًا عن عودة الموضوعات الكبرى إلى الرواية، بعد أن حاولت الانتقال منها إلى تسريد الاجتماعي المتصل بما هو خاص وفردي ويوميّ؛ وذلك بسبب أزمة الخطابات القومية والوطنية، وسقوط الأيديولوجيا، ونقض العديد من المسلّمات، وغير ذلك مما ترك أثره في تحول الموضوعات الروائية إلى قضايا الهامش والعابر والحياتيّ واليوميّ، مما يمكن أن يُطلق عليه القضايا الصغرى.

لكن التحولات العنيفة التي يشهدها العالم العربي الآن بكل قوة، بداية من أزمات الهوية والوجود، والحروب الأهلية، والصراع العربي الإسرائيلي، تعيد الموضوعات الكبرى المتصلة بكل هذه القضايا إلى مشهد السرد من جديد، وفق آليات ومنظورات سردية جديدة، تحاول أن تصل بين موضوعاتها الكبرى وموضوعاتها الصغرى؛ بين دائرتَي الاجتماعي الخاص اليومي، والعام المرجعي التاريخي. وتزداد هذه المحاولات قوة في الأقطار الملتهبة بالحروب على نحو خاص، فهناك من ثقل الحكاية وعميق المحنة وحرائق الأوطان ما يستوجب الاستجابة الروائية بشقيها الاستعجالي والجمالي، من دون أن تقع الكتابة في فخاخ التوثيقية والتسجيلية، على الرغم من مشاهد الموت والدمار التي تتجاوز صورها ووحشيتها حدودَ العقل والاحتمال، ما يضع أمام الكُتّاب اختبارًا صعبًا في تخيّرهم حدود التمثيل السردي وزواياه.

إن كل إنسانٍ في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان وغزة، التي عاشت ولم تزل تعيش مأساة الحرب بما تمثّله من موت ودمار ونزوح- لديه قصة مخضبة بكل هذه الأوجاع وجديرة بأن تروى، ولديه تساؤلات كبيرة جديرة بالتناول والتمرير في أفضية عديدة، ربما تشكل الكتابة الذاتية والرواية أحد أوجه هذا البوح والإفضاء في مواجهة عوامل الموت والفناء، وذلك ما جعل العديد من الروايات تتجه في اختيار تقنياتها وأساليبها إلى المزاوجة في التخييل بين أسلوب السيرة الذاتية، حيث الذات الحاضرة بقوة بكل فردانيتها، محنتها وتشظياتها، والرواية بتخييلها وتناولها المرجعي المتخم بالأحداث الكبرى، وهذا ما تؤكده وفرة الروايات المكتوبة عن الحرب.

من هذه الوجهة في التناول والتخييل، تأتي رواية وجدي الأهدل (السماء تدخن السجائر)، حيث تضفير الحرب بمروي الحياة، ذاتٌ منشغلة في اجتياز الحياة بحثًا عن الحياة نفسها، في صورة الفن عند كتابتها لنص مسرحي مستوحى من قصة شعبية تشبه مسرحية تاجر البندقية لشكسبير، بما تمثله من ثيمة الانتصار للحياة في مواجهة الانتقام، ثم البحث عن الحياة الطبيعية الاعتيادية اليومية في مسرح الحياة، حيث الحرب تعصف بكل شيء من حوله وتحوّل الأحلام إلى دمار، كل ذلك جاء في صياغة سيَرية تراجيدية وساخرة تحكي تفاصيل حياة (ظافر) الذي رفض عسكرة حياته، وفضّل الالتحاق بفرقة مسرحية بدلًا من رغبة أبيه في التحاقه بالكلية الحربية، لينتهي به المطاف إلى مجرد محاسب بسيط في أحد مصانع البطاطس في صنعاء؛ سلسلة من التحديات والإخفاقات والهزائم والفشل يمر بها ظافر (كالعادة، تحمل الأسماء في روايات وجدي الأهدل شفراتها ومفارقاتها)، يكون فيها ضحية للتآمر حينًا في إفشال دوره في المسرحية التي كتبها، ثم ضحية للحرب التي ظلت تختطف أحلامه في الحب والحياة الاعتيادية في أحيان أخرى، وفي الحرب تتحول كل حياةٍ اعتيادية إلى حياة تراجيدية في مواجهتها للموت والغياب والفناء.

تأخذنا الرواية وتفاصيلها إلى الأطلال على الأحداث بقضاياها الكبرى والصغرى من فوق كتف ظافر، ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام؛ الأول يتصل بمروي الطفولة، وينطوي على سرد الأسرة والطفولة للعديد من التفاصيل التي ترسم بناء شخصيته؛ مغامرات الطفولة، حادثة غرقه وتأثيراتها النفسية، موت صديق طفولته وهاجس الموت الذي ظل يطارده، شخصية الأب والأم والأخ الأكبر، وهكذا العديد من تفاصيل طفولته، مما يجعلها تتخذ بنية السيرة الذاتية للراوي، ثم تتعزز هذه البنية السيرية في القسم الثاني عند اختياره مهنة التمثيل وإنفاق تركته على تأسيس فرقة مسرحية لعرض النص الذي كتبه، وفي أثناء ذلك تظهر مشاعره وانفعالاته العاطفية بحثًا عن الحب، وتبدأ سلسلة من المحاولات للارتباط بزميلته الممثلة نبات، تنتهي بفشله وفشل دوره في المسرحية عندما يأخذه ممثل بريطاني تضمن علاقاته بالدوائر الثقافية والسياسية استمرار المسرحية ونجاحها، لكنه يأخذ دوره وحبيبته كذلك، ويكتفي ظافر بأن يقوم بوظيفة الصبي الذي يقوم بتقديم الشاي للفرقة؛ حالة مفارقة تعمّق المصير التراجيدي في فشل حلمه بالمسرح والتمثيل (هل كانت الرواية تلمح إلى دور التدخل الخارجي في رسم أدق تفاصيل حياتنا وتشكيلها وفق رؤيته؟)، تنتهي بالجنون الذي تشير إليه الأحداث قبل انتقالها بعد عامين إلى القسم الثالث.

تقدم الرواية الشخصيات وعلاقاتها ومصائرها في ظل طغيان الحرب وتداعياتها، في بناء سردي يقوم على فكرة التضفير بين التخييلي والمرجعي.

وفي القسم الثالث الذي يشكل أكثر من نصف الرواية بقليل، ينمو السرد بعد عامين في مرحلة جديدة من حياة ظافر في مصنع البطاطس، وفي هذا القسم تظهر شخصيات جديدة في حياة ظافر، تحتل الإناث مساحة واسعة في سعيه نحو الارتباط والزواج، حيث تتقاطع حياته بحياة الموظفين الآخرين من زملاء المصنع والجيران، في سرد للحياة اليومية بكل تفاصيلها وعلاقاتها البسيطة، وفي هذا الجزء تحضر الحرب بوصفها مُشكِّلة للعلاقات ومتحكِّمة بمصائر الشخصيات، وفي هذا القسم يتم تضفير الحياة الخاصة بالحياة العامة؛ سرد وقائع الحياة اليومية في حياة الموظفين في مصنع البطاطس، وسرد وقائع الحرب وما يترتب عليها من الآثار، ما يتيح ظهور العديد من مشهديات الحرب التي تبدأ بالقصف الجوي، مرورًا بمشاهد الموت والدمار الذي تتعرض له صنعاء وحياة الخوف والنزوح والهجرة والتشظي ومعاناة ظافر وبقية الشخصيات، وبهذا يتداخل سرد الحرب بسرد الذات، بما لا يجعل الرواية تقع في فخ التوثيق أو التسجيلية، مستعينة بالعديد من الآليات السردية، منها تعدد الرواة والضمائر السردية في إطار الراوي الكلي (ظافر) الذي يقدم سردًا لحياته، ومن ذلك سرد زملاء المسرحية لعلاقاتهم بظافر وظروف المسرحية وأدوارهم، ما يتيح ملء الثقوب والفجوات التي يتركها ظافر، وكذلك التنويع في استخدام الضمائر السردية، بما في ذلك استخدام ضمير المخاطب أو سرد الـ(أنت) في حديث ظافر إلى نفسه، في أثناء تخيله حديث سمكة سردين صغيرة تعيش في داخله منذ حادثة الغرق في الطفولة، وهو ما يحيل إلى حالة التشظي والقلق والصراع الداخلي الذي يعاني منه ظافر.

وفي خط سردي لافت، تقدم الرواية مروي حياة ظافر العاطفية، ومجموعة النساء اللائي مررن في حياته؛ بداية من الأم والمرأة الجارة التي تعلق بها في طفولته، والممثلة نبات، وزميلات العمل كفاية ونيزك وأشجان وعبير وطروب وناجية، وأكثرهن تصيبهن لعنة اقترابه منهن بالموت في الحرب، على الرغم من إصراره المستمر على تحطيم الحواجز واختراقها، مفضلًا الموت، كما يقول، عند أقدام بنات حواء لا ضحية للقصف من السماء، وهذا الإصرار لا يعني تقديم شخصية دُنجوانية، ولكن للتأكيد على الرغبة والتوق لبناء علاقة غرامية طبيعية، يفشل دائمًا في تحقيقها في كل المرات بسبب الحرب.

وهكذا تقدم الرواية الشخصيات وعلاقاتها ومصائرها في ظل طغيان الحرب وتداعياتها، في بناء سردي يقوم على فكرة التضفير بين التخييلي والمرجعي، وفي نهاية الرواية يقرر ظافر أن يكتب رسالة يودعها في كبسولة محفوظة يوصي بعدم فتحها إلا بعد موته، ذكر فيها، كما يقول، النساءَ اللائي عبرن حياته كشهب ملونة وهو يستقطب كل الاحتمالات التي تؤدي إلى الحب؛ فهل كانت الرواية نفسها هي تلك الرسالة التي كانت في الكبسولة؟! 

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English