حين تنجو الحرب بالأدب

محاولة للبحث عن الوجه الآخر منها
عبير اليوسفي
February 5, 2023

حين تنجو الحرب بالأدب

محاولة للبحث عن الوجه الآخر منها
عبير اليوسفي
February 5, 2023

منصة خيوط

تساعدنا القراءة على تخطي الأزمات دومًا، عندما نتشارك التجارب مع الشخصيات الروائية. لكن في الحرب التي تأخذ أشكالًا عدّة ولونًا دمويًّا واحدًا، تمنحنا التضامن مع المأساة والمعاناة، وقد تهب المواساة حين نفتش عن طعم الانتصار المفقود. هذا ما أجده حين أقرأ عن الحرب وأعيشها، وأفتش عن القصص التي واجهت ذات المصير في بلد تأكله الحرب ببطء. تدفعنا الحروب وهزائمها للبحث عن الوجه الآخر منها، عن الحياة ومعانيها، وعن النضال والحرية والاستقرار.

مثلما أوجدت السينما الطريق إلى وصف ساحات الحرب ونقلها بصورة مرئية، عرف الأدب طريقه إليها، وتشعّبت الكتب التي تناولت موضوعها ووصف هيئتها بين الانتصار والهزيمة. ساهم هذا في تسليط الضوء على المعاناة البشرية ونقل قصص الشعوب والمجتمعات، وربما ساهمت الكتابة عنها بشكلٍ ما في بثّ التضامن والتخفيف من أثر وحشيتها؛ كونها تترك وراءها خرابها الممتد، وتؤثّر بشكل سلبي على المجتمع، مهما كان حجم الدمار البشريّ والماديّ.

على مرّ التاريخ، مثّلت الحروب مصدرًا ملهمًا لنقل مآسي النزاع الإنساني، واستعراض سير بطولاتها ومجرياتها. قديمًا، وجدت المعارك التي ألهمت الشعراء لكتابة القصائد والملاحم مع الفتوحات والغزوات ومجّدت القادة وعظّمت قوتهم، كان أشهرها في العصر الجاهلي حرب البسوس التي خاضتها العرب وأعطت للشاعر مكانةً اجتماعية، كونه المحرّض على رفع العزيمة للقتال والثبات أمام العدو.

اختلف أسلوب الكتابة هذا مع قدوم العصر الحديث، فقد أوجدت الرواية التي ناهضت الحرب ونقلت الوجه المخفي من الصراع، الهزيمة والثمن الذي يدفعه الإنسان حين يخوض حروبه لينال حريته.

من ساحات الحروب وقصصها، أُنتج أدب الحرب الذي عُدّ الصوت الإنسانيّ للتعبير عنه، لكن قد يفقد ميزته هذه حينما يتحيّز لطرف وأيديولوجيا معينة، ممّا يجعله يخدم سياسة السلطة أولًا. 

من الحروب التي مثّلت بيئةً خصبةً للكتابة عنها، كانت الحرب العالمية الأولى والثانية. اقتبست من قصصها وأهوالها العديد من الأعمال التي نقلت المعاناة من عدة جوانب ومختلف المجتمعات والأعراق، وعبّرت عن عبثيتها ودمويتها، كانت منها تجربة الألماني إريش ماريا ريمارك "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، والتي جاءت عن تجربة ذاتية صوّرت عبثية الحروب والضياع، بهيئة جندي ألماني يبلغ من العمر ١٧ عامًا، تأخذه الحياة إلى خط الجبهة خلال الحرب العالمية الأولى، ويمرّ بالعديد من الأحداث المروعة لينجو من بين رفاقه. لاقت الرواية صدى واسعًا وشهرة كبيرة، وقد نُشرت تحت اسم مجهول خوفًا من النازيين، وكون الكاتب "ريماك" قد شارك في الحرب فقد أعطت تجربته طابع الصدق لروايته وإدراك حجم الخسائر وأثرها النفسي. كان الكاتب مندّدًا للحرب وعبّر دومًا عن رفضه رغم تعرّضه لمحاولات اغتيال.

كثيرةٌ هي الأعمال التي تناولت الحروب على مرّ التاريخ، وما يميز كل تلك الكتابات ويجعلها حاضرة دومًا، أنّها تصف الإنسان وأزماته في مختلف الأزمنة والأعمار، كون الحروب تبقى ذكرى معايشتها تحاصر الذاكرة ولا مجال لانتزاعها.

شارك أيضًا الكاتب الأمريكي، إرنست همنغواي، في الحرب العالمية عندما خدم مع الجيش الأمريكي وأصيب فيها وظلّ يكتب عنها ويندّدها، من الروايات المهمّة التي كتبها "وداعًا للسلاح" وكان قد أصيب أثناء تواجده في إيطاليا نهاية الحرب العالمية الأولى واستوحى شخصياته من تلك الفترة. أمّا روايته "لمن تقرع الأجراس"، فبالرغم أنّ زمن أحداثها خلال ٣ أيام وتدور حول الحرب الأهلية الإسبانية، فإنّه استطاع أن يصوّر فيها الصراع بين الجمهورية والديكتاتورية. وقد ساعده معايشته للحرب ومشاركته كمراسل حربي على نقل ووصف طبيعتها ومصير الإنسان فيها، مستوحيًا من ذاته الشخصية الرئيسة.

في روسيا التي تشتهر بأعمالها الخالدة، تعدّ رواية ليو تولستوي "الحرب والسلم" أعظم رواية، والتي تدور أحداثها في القرن التاسع عشر عند غزو نابليون بونابرت لروسيا، وقد تفوّق تولستوي في وصف المعارك العسكرية ومآسيها، كونه قد توّرط هو أيضًا بالمشاركة في الحرب عندما خدم في الجيش الروسي عام 1853، أثناء الحرب التي اندلعت بين روسيا وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى، وانتهت بهزيمة روسيا. في يومياته، كتب تولستوي عن الرواية أنّها "كتابة عن كل نذالة وكل عبارة فارغة وجنون، وكافة تناقضات البشر وتناقضات من يحيطون بهم".

الروائي العراقي، فلاح رحيم، في عمله "صوت الطبول من بعيد" سلط الضوء للحديث عن الحرب العراقية الإيرانية. في أولى صفحاتها تجد الخسارة التي نالته من الحرب عندما وجّه الإهداء "إلى ذكرى أخي حسين الذي قتلته الحرب العراقية الإيرانية في السادس والعشرين..."، وقد امتدت تلك الحرب ثماني سنوات ورصيدها من الضحايا ملايين، في عبثيةٍ لم يتعافَ منها بعدُ كِلا الطرفين.

محاصرة الذاكرة

أخيرًا، في اليمن التي دفعت الأدباء، رغم ضعف الحركة الثقافية والنشر الأدبي وتردي الحياة داخلها، إلى أن يعبّروا عن رفضهم للحرب، وهذا ما لم يغِب عنه قلم الكاتب الغربي عمران، الذي ألهمه الصراع في استحضار سلسلة حروب ثلاثين عامًا خاضتها اليمن وسط هذه الفوضى. أصدر روايته الأخيرة عام ٢٠٢١، والتي حاكى حال المعيشة وقبح الحرب في عمله "بر الدناكل"، وتدور أحداثها في صنعاء وعدن، عن فوضى التشرّد وعدم استقرار الأوضاع الأمنية في المدن، يبدأ زمن الرواية ما قبل الوحدة متنقلًا بين الأحداث السياسة التي مرّ بها اليمن وتداخلها مع شخصياتها، وصولًا إلى الحرب الأخيرة. وهذا ما يميز الغربي عمران؛ أنّه يجعل من الحرب والمرأة عنصرَين حاضرَين دومًا في أعماله، إضافةً إلى نقله لمخاوف الواقع المعاش، كما فعل مع بطله الذي يعيش متخفيًا بسبب تورّطه بالسياسة وخوفه من الملاحقة، يرافقه حلم الهجرة.

كثيرةٌ هي الأعمال التي تناولت الحروب على مرّ التاريخ، وما يميز كلَّ تلك الكتابات ويجعلها حاضرة دومًا، أنّها تصف الإنسان وأزماته في مختلف الأزمنة والأعمار، كون الحروب تبقى ذكرى معايشتها تحاصر الذاكرة ولا مجال لانتزاعها، يتشابه في تلك التجارب محاربوها وضحاياها وساحات القتال وصورة الموت التي يستحضرها الأدباء على الورق. تخسر الحرب دومًا، فلا أحد من الأطراف يخرج منها خالي الألم. لكن دومًا، تنجو القصص الإنسانية التي ينقلها لنا الأدب، بينما نعلق نحن بداخل مأساتها.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English