الحرب والأخلاق المسروقة

فجوةٌ تهوي بنا إلى القاع، مهما كنّا متشبِّثين بالقمّة!
د. عصام واصل
January 27, 2023

الحرب والأخلاق المسروقة

فجوةٌ تهوي بنا إلى القاع، مهما كنّا متشبِّثين بالقمّة!
د. عصام واصل
January 27, 2023

بسطت الحرب يدها على كلِّ شبرٍ في اليمن الذي كان منهكًا أصلًا بدون حرب، لقد التهمت كل شيء؛ التهمت محبّة الناس لبعضهم، ما يمتلكون من ثروات، سكينتهم، أمنهم النفسي، وأخلاقهم، وهو الأمر الأكثر قسوة، والأشدّ ضراوة من ذلك كله.

حينما تمرّ الحروب على بلدان العالم التي تمرّ بها، تترك خلفَها كثيرًا من الدمار في البنى التحتية، وكثيرًا من الجثث، إنّها تُخلّف ما لا يحصى من الأرامل واليتامى والمفقودين، وتترك منتصِرًا بلا شك، لكنّه مهزوم هو الآخر لا محالة: مهزوم في أخلاقه، وفي سكينته أيضًا. لكنْ ثمةَ أمرٌ خفيٌّ لا يُدركه الناس، وهو ما تخلّفه الحروب من دمارٍ أخلاقيّ مهول لا يمكن إعادة بنائه على المدى القريب، بل قد يغدو سلوكًا مستدامًا بقيةَ الحياة.

على مدى أكثر من ثماني سنوات، سحقتْ رحى الحربِ الإنسانَ اليمنيّ، ولم تترك له مجالًا للاستراحة. لقد جعلته كائنًا مغايرًا لما كان عليه من قبل، حتى إنّه غدا فاقدًا للألفة، وكثيرٍ من المحبّة والسكينة والطمأنينة والأمن النفسي، لقد صار كائنًا لم يعد نفسه، ولن يكون نفسه، بعد أن تضع الحرب أوزارها.

إنّ أخطر ما تتركه الحروب يتمثّل في أنّها تسحق الإنسان في أخلاقه وقيَمه التي يؤمن بها، وتترك لديه فجوة بين أخلاقه قبل الحرب وبعدها، فجوة كبيرة جدًّا، تهوي به إلى القاع مهما كان متشبِّثًا بالقمة.

يقول أحد الأصدقاء: "أشعر أنّي قد غادرت إنساني على مدى ثماني سنوات من الحرب، أو أنّ إنسانيتي قد غادرتني، وخلالها فقدت كلَّ ما كنتُ أشعرُ أنّه مصدر قوتي من قبل. فقدت هدوئي وتوازني وشغفي بمحبة الناس، وانتظاري بلهفة لزياراتهم لي، واجتماعنا معًا على المائدة، ولحظات الفرح والألفة. ويضيف: "لم أعد قادرًا على الابتسام في وجوه من يأتي إليّ، حتى إخوتي وأقاربي. لقد انكسرَ شيءٌ ما بداخلي، انكسر جوهر الحياة وشغفها، انكسر حُبِّي لكلّ شيء".

هي حقيقة مُرّة لن يدركها إلّا من سحقته الحرب، وطحنت فيه كل مكامن الجمال؛ إذ من الصعوبة بمكان أن يعود المرء إلى مساره الطبيعي بسهولة، ربما تمرّ هذه الحال على أربعة أجيال حتى تستعيد الحياة توازنها، وربما أكثر، لقد صار الإنسان يضيق بما كان يحفل به، ويأنف من كلِّ ما كان يشعر ببشاشة نحوه، ويرفض كل ما كان يقبله بكل مَحبَّة.

لقد صارت تبعات الحرب جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية، لا يمرّ يومٌ دون أن يفقد الإنسانُ عزيزًا بسببها أو شيئًا قريبًا إلى نفسه. لقد فقد المثقّف شغفَه بالقراءة، وفقدَ القريبُ شغفَه بقريبه، وفقدَ المُحِبّ للحياة شغفَه بهذه الحياة، وفقدَ كلُّ من يحبّ شيئًا ما محبته لهذا الشيء. لقد صارت النفس مجروحة بالحرب، ومُدمّاة بتبعاتها، وقلِقة حدّ رفض كلّ ما تحبّه وما كانت ترجوه. وتعوَّد الناس على سلبيات كثيرة ما كانوا ليتعوّدا عليها لولاها، ولولا جحيمها المسلط على الرقاب.

لم تعد الحرب هي ما قاله السابقون: "الحرب هي أن تلتهم الأرضُ لحومَ البشر"، بل الحرب الحقيقية هي أن تلتهم الحربُ أخلاقَ البشر، وتشرخ مكامن الجمال في أرواحهم، وتُحيلها إلى خرائب لا يمكن ترميمها مطلقًا. 

كما لم تعُد مقولة: "الحرب سوف تنتهي في حال عاد الموتى" صائبة، بل الصائب أنّه سوف تنتهي الحرب حينما تعود أخلاق من أخذت الحرب أخلاقهم.

وبناء عليه، فإنّ الحرب لن تنتهي، حتى لو وضعت أوزارها، فالحرب ليست هي الحرب الظاهرة، بل تبعاتها على الأخلاق والأنفس، وهي تبعات طويلة المدى وبعيدة، إلى درجة أنّه لا يمكن قياس المسافة بينها وبين ما يمكن قياسه، حتى ليصدق فيها قول القائل: "الحرب لو يعلمون لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع، بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضًا"، إنّها تستعر في كل شيء جميل، وتسلب الناس شغفهم وجمالهم وحبّهم للحياة.

وكما قال محمود درويش: "ستنتهي الحرب ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل. لا أعلم من باع الوطن! ولكنني رأيتُ من دفع الثمن". لقد دفعنا الثمن جميعًا، حتى من يظنّ نفسه منتصِرًا، دفع ثمناً باهظًا بأخلاقه وإنسانيته. لقد بتنا جميعًا ننتظر شيئًا ما، شيئًا عزيزًا علينا فقدناه بسبب الحرب، بسبب جنون المتحاربين.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English