الحربُ والهجرةُ في رواية "طريق مولى مطر"

استدعاء رمزية "قابيل" و"هابيل" لتكثيف كارثية الاقتتال
عبده منصور المحمودي
September 28, 2022

الحربُ والهجرةُ في رواية "طريق مولى مطر"

استدعاء رمزية "قابيل" و"هابيل" لتكثيف كارثية الاقتتال
عبده منصور المحمودي
September 28, 2022

في روايته الثالثة: "طريق مولى مطر"(1)، يتعاطى الكاتب اليمني عمار باطويل -سرديًّا- مرحلةً من تاريخ حرب البدو في وادي حضرموت مع المستعمر البريطاني، وقد أحال إهداؤه فيها على مَن لم يكن لهم نصيبٌ من صفحات التدوين التاريخي والوطني؛ "إلى ضحايا النسيان، الذين لم تخلدهم تواريخ الدول، ولم تلتفت لهم القوافل العابرة"، (ص:5).

استثمرَ الكاتب في روايته تقنيةَ تعدد الأصوات السردية، وباستثناء فصلين اثنين -السادس الذي جاء على لسان "فرج"، والثامن عشر الذي جاء على لسان الولي- فإنّ صوت المرأة هو المستحوذ على فصول الرواية كلها، حيث تشاركتْه شخصياتٌ ثلاث: "فاطمة"، في الفصل الثاني، و"سعيدة" في الفصل الثالث، و"بركة" التي استأثرت بنصيبٍ كبير من صوت المرأة -أربعة عشر فصلًا من فصول الرواية البالغة ثمانية عشر فصلًا- حيث كانت هي الصوت السردي في الفصول: الأول، والرابع، فالخامس، ثم السابع حتى الفصل السابع عشر. 

وتحيل غلبةُ صوت المرأة السردي -في هذه الرواية- على تجانسٍ بين الأنثى وبين مضامين العمل التي ارتبطت ارتباطًا رئيسًا بالمرأة اليمنية، في وادي حضرموت، وحملت صورًا من حياتها البائسة، المنهكة بمآسي الحرب وهجرة الرجال من أرض الوطن.

وعلى ما في استثمار تقنية تعدد الأصوات السردية من تجديدٍ فنّي، فإنّ هيمنة رؤيةٍ واحدةٍ على العمل -وإن تعددت الأصواتُ التي ترويها- أمرٌ غير متسقٍ مع ما تقوم عليه هذه التقنية السردية، من جوهرية التعدد في الرؤى حد التناقض فيما بينها. وفي هذا العمل، هيمنت رؤيةٌ واحدةٌ، تعددت الأصوات التي روت أبعادها، بينما غاب الصوتان (سالم/ والنجدي)، اللذان يحملان ما يمكن توصيفه برؤى مغايرة، اضطلعتْ بروايتها الأصواتُ المتعددةُ ذاتُ الرؤيةِ الواحدة. وكان سرد تلك الرؤى المغايرة على ألسنة أصحابها سوف يضفي على العمل زخمًا فنيًّا أكثر اتساقًا مع ماهية الاستئناس بتقنية تعدد الأصوات السردية.

المرأة: مقاتلةً وضحية حرب

لقد أسّس الاشتغال السردي، لمسار أحداثه -مقاومة المستعمر- من خلال إشارته إلى صيغة العلاقة السياسية بين المستعمر البريطاني في عدن وبين المشمولين بحمايته من حكام السلطنات، الذين منهم السلطان القعيطي، حاكم حضرموت: "أجداد السلطان وقّعوا اتفاقية مع بريطانيا بأنّ تحميهم من كلّ شر وحتى من الرياح العابرة فوق قصره. وهذه الاتفاقية أطلقوا عليها اتفاقية الحماية. فقط يحمون مصالح السلطان مقابل نفوذ سياسي في البلاد وخوفًا من نفوذ الدولة العثمانية أن تسيطر على البحر العربي وتعرقل المصالح البريطانية"، (ص: 57). 

   لقد اتخذت المعالجة السردية من حادثة مقتل "رحمة" نسقًا فاعلًا في نسج مضامين العمل، فتمظهر هذا النسق في كثيرٍ من المساحات السردية.

ومن هذا التأسيس، تنطلق سرديةُ الحكاية، إلى ما حدث من صراعٍ دامٍ بين مجتمع البدو وبين المستعمر، طيلة فترةٍ زمنيةٍ امتدت ما بين الثلاثينيات والستينيات من القرن العشرين. وقد ورد على لسان الشخصية الرئيسة "بركة"، ما يحيل على أسباب ذاك الصراع، حيث سمعت من زوجها الأول "سعد" -قبل أن يهاجر- تأكيده على أنّ الحرب ضد البدو لا تعني سوى محاربتهم في قوت أطفالهم: "منذ فجر التاريخ كانت القبائل تنتقل بالجمال من أرض إلى أخرى ومن البندر إلى الوادي تنقل البضاعة الآتية من مدن جاوة أو من مكة أو سواحل أفريقيا، ومن ثَمّ تقوم بنقلها إلى القرى القابعة في عمق الوادي، فكلُّ الطرق كانت لأصحاب الإبل، فكيف يريدون أن يقطعوا تجارتنا بالجِمال وفرض ضرائب علينا ندفعها لحكومة السلطان... فمنع الجمال والتجارة بها يعني أنّ الطعام لن يصل إلى أفواه أطفالنا... يجب حمل سلاحنا في وجه بريطانيا وسلطان هذه البلاد الموالي لبريطانيا"، (ص: 45).

يتصدر عوامل نشوب الحرب -في هذا العمل- إقدامُ عسكر السلطان على ذبح أي بعيرٍ أو ناقةٍ تصادفهم في الطريق من غير العودة إلى أصحابها، وهو ما حدث مع "عبدالله" ابن "بركة"، الذي شاهدهم ينحرون ناقته، فأطلق النار عليهم؛ قتل واحدًا وأصاب آخر بجروح طفيفة، فأطلق عليه بقية العسكر الرصاص وأردوه قتيلًا، (ص: 24).

وفي السياق ذاته، يأتي شعور سكان المحميات بالتهميش، قياسًا بما هي عليه الحال في عدن؛ إذ تسترسل "بركة" في استذكار حديث سعد معها: "بريطانيا لا تكترث لمصالحنا، ولو كانت بريطانيا تهتم بنا لبنوا لنا المدارس [و] المستشفيات كما فعلوا في عدن... نحن لم نرَ من بريطانيا والسلطان إلا الرصاص، ولن يقابل رصاصهم إلا رصاصنا... نحن لا نتمرد على أحد كما يدعي سلطان هذه البلاد، بل نحن نقاوم وننهض نهضة رجل واحد من أجل حياة كريمة لنا ولأطفالنا"، (ص: 46،45).

تضمّن العمل صورًا من مشاركة المرأة البدوية في تلك الحرب، حيث يحرص أهلها على تأهيلها، وهو المدخل الذي ولج منه الاشتغال السردي إلى أحداث الصراع؛ فالجدة "سلوم" تهمس في أذن "فاطمة الطيارة": "تعلمي الرمي بالبندق، فبنت القبائل تتعلم ذبح الأغنام ورمي العدو بالرصاص"، (ص: 14).

وعلى هذه العتبة التأهيلية للمرأة، تأتي سردية التفاصيل المحيلة على شخصيتها المحاربة، فـ"سعيدة" امرأةٌ "ماهرة في استخدام البندقية والرمي بها، وتتحدى رجال البدو في القنص"، (ص: 50). وعلى لسانها وردت أحداث الفصل الثالث، الذي تحدثت فيه عن دورها: "كنتُ أقوم بأعمال عسكرية تخدم قبيلتي... فكنت أرعى بأغنامي وأسوقهن أمامي، ومهمتي التي أوكلت إليّ أن أراقب الوجوه الغريبة التي تصادفني في الطريق، وبدوري أقوم بإخبار أحد أفراد القبيلة ليقوم بتبليغ (المقدم) [الشيخ]... وفي أوقات أخرى تكون مهمتي أن أحضر بعض أقراص الخبز، والتمر، والروبة لرجال البدو الذين تمركزوا في المرابي... يراقبون خطوات العسكر، ويحاولون الإيقاع بهم"، (ص: 23،22).

وبعدما علم صنّاع القرار، في عدن، بدور المرأة هذا، اتخذوا قرارًا قضى بأن يشمل القصف كل شيء: الرجال والنساء والأطفال والحيوانات وأشجار النخيل، وهو ما تم تنفيذه، إذ كانت "رحمة"، أخت "بركة" واحدة من الضحايا، على شخصيتها المسالمة، التي لم تقم بشيءٍ ممّا قامت به سعيدة، (ص: 65،23).

لقد اتخذت المعالجة السردية من حادثة مقتل "رحمة" نسقًا فاعلًا في نسج مضامين العمل، فتمظهر هذا النسق في كثيرٍ من المساحات السردية، كانت أولى الإشارات إليه، في حديث "بركة"، عن سبب ترددها على الولي: "لعلي أجد في مغارته وحياته شيئًا يقودني إلى الله وإلى الحقيقة التي أبحث عنها منذ زمن مقتل أختي رحمة"، (ص: 8). وتكررت الإشارات المقتضبة إلى هذا النسق، ضمن أحداثٍ قريبة أو بعيدة منه، كحديث "فاطمة"، ابنة "رحمة" عن مصيرها بعد الكارثة: "انتقلت إلى دار خالتي بركة في الوادي بعد مقتل أمي بطيارة بريطانيا"، (ص: 17). أو استمرارية الأثر الوجداني للحادثة في حياة عائلة "رحمة"، فمقتلها صار من أهم المعاني، التي تحيل عليها الطائرة، كلما سمع أهل الضحية صوتها، أو استشعروا مراقبتها لهم، (ص: 61).

ثم تنمو سردية الحادثة نموًّا يصل بها إلى لحظتها المرعبة، التي لم تستوعبها "بركة"، ولم تعلم بها إلا بعد أيامٍ من إحدى النساء اللواتي عشن تلك اللحظة: "الرأس أصبح لا يميزه أحد، فهل هو رأس امرأة أو رأس رجل أو جمل، فقد أصبح الرأس أجزاء متناثرة وأصبح معجونًا بالدماء والمخ والعظام"، (ص: 66). أما "فاطمة"، ابنة "رحمة"، التي كانت بمعية أمها لحظة مقتلها، فقد نجت؛ إذ فقدت وعيها، ولم تفق إلا على خبر موت أمها، وأطلقت النساء عليها -بعد تلك الحادثة- اسم "فاطمة الطيارة"؛ لنجاتها من الموت بأعجوبة، (ص: 66). وقد تركت هذه الحادثة أثرًا بالغًا في حياة "بركة"؛ حيث: "كان مقتل أختها رحمة سببًا في انقلاب حياتها، وخاصة عندما أصبحت تقوم في دارها برعاية جدتها سلومة الطاعنة في السن وبنت أختها فاطمة"، (ص: 109).

تأتي الحرب ثيمةً مركزية -في هذا العمل- بصورتها القائمة على طرفيها الفاعلين في الحيز المكاني والزماني، الذي يتأطر فيه الاشتغال السردي؛ حيث "تُقَرّب الرواية بين أحداث الثلاثينيات التي شهدت حضرموت خلالها صلح إنجرامس وقصف الطائرات البريطانية لمرابض الحموم والصيعر، وبين أحداث حرب (المدحر) التي وقعت في مطلع ستينيات القرن الماضي (صيف 1961) في أعالي دوعن، والتي شارك فيها كذلك الطيران البريطاني" (2).

وقد تعاطت سردية العمل مع صلح (إنجرامس) هذا بواقعيةٍ غير نازعةٍ منه سمته الإيجابية، فقد سعى فيه المستشار البريطاني مع أعيان حضرموت إلى الصلح بين القبائل المتناحرة، التي توافقت على أن نفس القبيلي على القبيلي حرام: دمًا، ومالًا وعرضًا، والتزمت بتنفيذه، فسكنت النفوس وتسامح المتقاتلون. وبعد سنواتٍ، أخل عسكر السلطان بالصلح؛ فدخلوا أراضي القبائل من غير إذن مسبق من أصحابها، فعاد الصراع بين القبائل وبين الحكومة، وعاد الاقتتال فيما بينهم، ولم يلتزم الحاكم البريطاني الحياد، بل كان في صف حكومة السلطان، وقصف طيرانه النساء والرجال والشجر، (ص: 49).

لقد عالج الخط السردي موضوعة الحرب، بتصاعدٍ متسقٍ مع تنامي الأحداث التي وصلت بالصراع إلى ذروته في معركة "المدحر"، الفاصلة، التي كانت رحمة واحدةً من الضحايا الذين سقطوا على إثرها، فتشابكت الخيوط السردية في إثراء محورية حادثة مقتلها الفاعلة في تنامي النسيج السردي، الذي بنى عليها ذروة المشهدية في حكايته، من خلال التداعيات المأساوية المتسارعة، على صورةِ قصفٍ وحشي، استهدف كل شيء بهذا السلاح الفاتك: "لم يدعوا شجرة إلا وحرقوها بقصفهم بالقنابل بعد أن هجّروا الناس من قراهم، ولم يكتفوا بحرق النخيل، فقاموا بحرق النساء اللاتي يرعين بالغنم وكل البدو يضربونهم بالطيران. لديهم أوامر بقتل كل من يصادفونه في مناطق البدو الذين شاركوا في معركة المدحر"، (ص: 64).

لقد كشفت سردية الحرب عن الدور المركزي والحاسم، لهذا السلاح الجوي، الذي ورد -في الرواية كلها- بصيغته المحكية "الطَّيَّارة"، لا الفصحى "الطائرة"، فجسدت أسلوبية السرد بهذه الصيغة اللغوية تجانسًا مع الحيز السردي في حيويته الاجتماعية، التي يأتي في صدارة مكوناتها مستواه اللغوي، ومستوى ذهنية الإنسان فيه، تلك الذهنية التي كان الرعب هو ما رسخته فيها الطائرة، فخاف الناس من رؤيتها، حتى وهي على الأرض: "كانت الطيارة رابضة على (السهب) ولأول مرة يرونها على الأرض، وكان صاحبها النصراني ومعه شخص آخر واقفين جنبها، أراد سلوم والقانص قتل النصراني، ولكن منظر الطيارة كان مخيفًا، وخافوا أن تطير فيهم وتقتلهم إذا قاموا بقتل أصحابها"، (ص: 18). وارتبط صوتها -في هذه الذهنية- بكارثةٍ قادمةٍ: "الأمور هادئة وساكنة إلا من خبر طيارة بريطانيا، فقد سمعت أنها تدور في هذه السماء وفزعان أن تلقي القنابل على البدو مرة ثانية بعد أن ضربتهم في وادي حويرة، وشرج حاح، ووادي عدم قبل أسابيع"، (ص: 11)، فهي ملعونة لديهم، (ص: 64)؛ كونهم "يواجهون الشيطان المسمى طيارة بريطانيا"، (ص: 23).

قدم العملُ الهجرةَ وآثارها الاجتماعية من زاوية غايتها المالية لدى أصحابها، وفي الوقت ذاته تعاطى معها من زاويةٍ أخرى، ذاتِ غايةٍ وطنيةٍ، محورها الرغبة في محاربة المستعمر وأتباعه والانتصار عليهم.

ومن ذروة الحكاية، تظهر فنّية الانتقال إلى سردية العاقبة الهادئة، التي استقامت على استسلام البدو، بعدما أدركوا الهوة السحيقة بينهم وبين العدو، من حيث التسليح، وقد اكتنز هذا الاستسلام غضبةً وإباءً، وانتقامًا قادمًا لا محالة، من ذلك ما ورد على لسان "بركة"، كقولها: "نحن ننتقم من العدو ولو بعد حين، نتظاهر بالسلم، ولكن في صدورنا نار تلتهب"، (ص: 73)، وقولها: "لقد هزمت بريطانيا البدو في تلك المعركة، ولكن سوف يهزمها أهل هذه الأرض كل الأوقات، عندما يخبرون الأجيال عن قتل الأبرياء وعن صمود رجال ونساء هذه الأرض أمام نيران طيارة بريطانيا، فالغازي المعتدي ينتصر لفترة قصيرة ويمرغ أنفه التاريخ بصمود رجال هذه الأرض ونسائها"، (ص: 17).

الهجرة إلى المال والحرب

كانت الهجرة من أهم مضامين هذا العمل، بنمطيتها القائمة على الغاية المالية، حيث ورد عددٌ من صورها التي شكّلت سياقًا سرديًّا متشابكًا مع الأحداث، وفاعلًا في مساراتها، من مثل موقف "سعد"، مع زوجته "بركة"، وهي تحاول استعطافه حتى يتراجع عن قرار السفر، لكن لم يلِن موقفه، ولم يتخلَّ عن غايته المالية: "لن أعود لهذه البلاد إلا وأنا محملٌ بكل كنوز الأرض"، (ص: 43). هاجرَ، ونسي أن يعود، (ص: 7)، فتركت هجرته تداعياتٍ قاسية على حياة زوجته، التي عذبتها سنوات الانتظار التي "تذبل فيها زهور الزوجة"، (ص: 42).

كما تركت هجرة الأب آثارًا بالغة القسوة في حياة أبنائه، من ذلك، التمزق الوجداني الذي انسحقت به "فاطمة الطيارة"، في موقف جدالها مع امرأةٍ فضولية: "تسألني سعيدة عن أبوي، وماذا يفعل في الأرض البعيدة ولماذا لم يعد؟ وما اسم زوجته التي تزوجها ...؟ كل هذه الأسئلة تثير حنقي"، (ص: 16).  واستخدمت الفتاة في ردها سلاح المرأة ذاته: "ربما زوجك يا سعيدة سافر وتزوج عليكِ... فكلُّ من سافر من بلادنا تزوَّج هناك، ولذلك طال السفر بزوجك وطاب له المقام"، (ص: 16). ثم عادت فتحدثت إلى نفسها: "أخفيتُ ما في نفسي، ولم أبح لسعيدة بما يدور فيها، وسألت نفسي أين أبوي؟ ولماذا هاجر ولم يعد بعد موت أمي، فقد هاجر قبل مقتل أمي بخمس سنوات ولم يزرنا بعده، ... غياب أبي الطويل عني يجعل حياتي ناقصة وأشعر أن لا معنى لها بدون أب وأم"، (ص: 17،16). 

لقد قدّم العملُ الهجرةَ وآثارها الاجتماعية من زاوية غايتها المالية لدى أصحابها، وفي الوقت ذاته تعاطى معها من زاويةٍ أخرى، ذاتِ غايةٍ وطنيةٍ، محورها الرغبة في محاربة المستعمر وأتباعه والانتصار عليهم. جاء ذلك في حديث "سعد" مع "بركة"، عن إخفاقه في تفاوضه مع السلطان الذي بدا كمن لا يملك من مقاليد الحكم شيئًا، وكل من حوله يدعون محبتهم للأرض بينما أفعالهم شر يحرق الأخضر واليابس، (ص: 47). فكان الإخفاق واحدًا من دوافع هجرته كي يستعد للحرب: "أنا مسافر إلى مكة المكرمة وعندما أصل هناك سوف أحاول أن أجتمع مع التجار الحضارم وأحثّهم على التواصل مع الملك فيصل بن سعود لدعم القبائل بالسلاح، وعندما أفشل سوف أسافر لمصر وأقابل الرئيس جمال عبد الناصر"، (ص: 44).

لم يعُد، وترك زوجته فريسةً لنوائب الزمن؛ تحدثت عن ذلك بحسرةٍ وألم: "لم يعد سعد إلى وطنه، وقُتل ابني عبدالله بعد سنوات من هجرة والده"، (ص: 44). حاولت أن تلتمس له العذر في أن يكون قد شعر بعار الهزيمة في معركة "المدحر"، لكنها استدركت التماسها، وهي تروي حالها البائسة: "لست أدري لماذا هذا الصد! وأشعر بوجع عميق بمقتل ابني وصد زوجي الذي لم أسمع عنه منذ سنوات، ولعل عدم عودته لي بسبب هزيمة رجال البدو، ولعله بسبب مقتل ابننا عبدالله وهو بعيد عنا، أو لعل زوجي سعد يشعر بالعار، ولكن العار أن يترك الرجل زوجته وحيدة تواجه المجهول"، (ص: 54).

حربٌ وتعاسةٌ وصمود

حفلت الرواية بعددٍ من الإحالات على اطراد الحرب والتعاسة، وعلى كارثية الاقتتال التي تكاثفت معانيه في استدعاء رمزية "قابيل"، و"هابيل"، "والغراب"، استدعاءً عابرًا لحظة رؤية "فرج" غرابًا على مقربة منه، (ص: 40). 

وكثيرًا ما وردت تلك الإحالات مسبوقةً بجملة: "هذه البلاد"، بما فيها من دلالة على التعميم والشمول: "وجوه أهل هذه البلاد التعيسة"، (ص: 9). و"رجال هذه البلاد يحصد رؤوسهم القتال المستمر فيما بينهم"، (ص: 32)، و"هكذا هم رجال هذه البلاد يغادرون ولا يأتون"، (ص: 42)، و"مَثَله كمثل أهل هذه البلاد لا يستر عورتهم إلا خرقة"، (ص: 95)، و"كل هذه البلاد شر"، (ص: 96)، و"عقول الناس في هذه البلاد مغلقة"، (ص: 106).

وقد تضمّنت عددًا من هذه الإشارات -الدالة على اطّراد الاقتتال- تأكيدًا على قيم التمسك بالأرض وعدم التفريط فيها، (ص: 72،71). كما تضمّنت شحنةً كبيرةً من الأنفة والكبرياء، والاعتداد بالشخصية البدوية المجبولة على الحرية. من ذلك حديث "بركة"، مع ابنها عبدالله، قبل مقتله: "ليس غريبًا عليك هذه الشجاعة، فأجدادك منذ [فجر] التاريخ يُضرَب بهم المثل في القتال، كانوا يخطفون أرواح الأعداء قبل أن تصل إليهم، فقد تربّى أجدادك يتامى لأنّ آباءهم حصدهم الموت في المعارك"، (ص: 52).

لقد قدّم الكاتب في عمله صورةً من صور الحرب والمقاومة، التي خاضها مجتمع البدو في وادي حضرموت مع المستعمر الأجنبي، حيث كانت إضاءته لمساحاتٍ من ذاك الصراع متسمةً بسرديةٍ غير متعاليةٍ على الواقع، ذلك من خلال مقاربته لِمَا آلت إليه الحرب من انهزامٍ واستسلامٍ متعددِ الحيثياتِ والمتغيراتِ الفاعلةِ فيه، مع إضاءةٍ لصمودٍ وإرادةٍ في الذوات المستسلمة؛ استنادًا على تاريخٍ من الحروب، التي لم تكن فيها هزيمة ابن الأرض سوى محطةٍ أفضت إلى نصرٍ مؤزرٍ، بعدما اسْتُكْمِلَت اشتراطاتُهُ الموضوعية الفاعلة في إنجازه.      

___________

الهوامش:

1- صادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع، الإمارات، 2019م. وسبق وأن صدر له الروايتان:

  • "سالمين"، الطبعة الأولى: دار فضاءات، عمان - الأردن، 2015م.
  • "عقرون 94"، دار ثقافة، الإمارات، 2017م.

 2- مسعود عمشوش، قراءة في رواية (طريق مولى مطر) لعمار باطويل، 16يناير2020، متاح على الرابط:

https://www.southern-g writers.or

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English