خرج عباس شيخ بني دهمان يتفقد أحوال السوق الأسبوعي الذي يقام في قريته (الصَّفَقَين) مركز جبل حُفَاش.
كان يجبي ضريبة السوق تارة باسم السلطان العثماني، وتارة باسم الإمام، فالسلطة في مد وجزر ما بين هذا وذاك، لكنه في هذا الأسبوع ترك الأمر مبهمًا.
يتقاطر على السوق تجار صغار ومزارعون أتوا من نواحي الجبل لبيع منتجاتهم وغلالهم، وكانت مهمة الشيخ ضبط المكاييل وحل المنازعات وتأمينهم من اللصوص.
كان يحرص على لقاء شيخ من ذوي الأسنان العالية، يتجشم عناء السفر من عزلة بيت الشَّمَّاع، اسمه رفيق الله، يأتي على حماره كل ثلاثاء ليبيع الذرة والجلجلان.
ساحة السوق مغمورة بالضباب، فلا يكاد المرء يبصر أبعد من عشر خطوات، والشمس باهتة لم تشتد أشعتها.
لقيه متربعًا على الأرض أمامه بضاعته على مفرش، وفي حجره المصحف يتلو منه بصوت مسموع.
تلبث الشيخ عباس ولم يقاطع تلاوته، ووقف خلفه ثلاثة من العسكر المسلحين بالبنادق والسيوف والجنابي وعليهم دروع الحديد، أحدهم ابنه البكر، والاثنان الآخران من أبناء أخوته. فجأة ضرط حمار رفيق الله ثلاث مرات، فتلفَّتَ جميع من في السوق وتعالت الضحكات، رفع الشيبة رأسه ورحب بالشيخ عباس ومن معه، ووضع المصحف جانبا.
سأله الشيخ عباس: "ماذا أطعمتَ حمارك يا ولي؟ لولا أنني رجل عاقل لظننتُ أنها مدافع الأروام تضرب علينا!".
تبسم رفيق الله وجمع لحيته البيضاء في قبضته ثم أرسلها: "سأخبرك بفأل هذا لوجه الله". تعجب الشيخ عباس: "وهل لضراط الحمير فأل؟". هز رفيق الله رأسه ومسح الرغوة التي تتجمع في أطراف فمه: "ليست الحمير كلها سواء، هذا الحمار فقط هو المختلف عن غيره". قال الشيخ عباس وقد قعد على التراب بإزاء محدثه: "شوقتني يا ولي لسماع مسألة هذا الحمار".
قال رفيق الله: "قد لاحظتُ أحوال الحمار، فإذا ضرط مرة واحدة فهذا شأنه كسائر المخلوقات، فإن ضرط مرتين متتابعتين فهذا مبشر بمجيء ضيوف". توقف رفيق الله لالتقاط أنفاسه، حثَّه الشيخ عباس على متابعة حديثه: "أهاه"، لوى رفيق الله رأسه وتطلع إلى القلعة المنيعة في رأس الجبل: "أما إن ضرط ثلاث مرات فهذا منذر بقدوم العامل في هذا اليوم والله أعلم!".
اتسع بؤبؤا الشيخ عباس وتلاشت البشاشة المطمئنة من سحنته تمامًا: "أتقول يا ولي أن العامل سيصل اليوم؟"، رد رفيق الله: "إن شاء الله".
تقلقل الشيخ عباس في جلسته: "ولكن لو أنه في الطريق لعرفنا الخبر من أصحاب السوق الذين جاؤوا من المشرق".
لاحظ رفيق الله تغيّر وجه الشيخ: "لا تأخذ الأمر على وجه اليقين، إنما هو دابة لا تعقل". جزّ عباس الشيخ على أسنانه وتمنى في نفسه أن يكون الأمر مجرد مزحة. سأل غالب أكبر أبناء الشيخ: "وماذا إذا ضرط حمارك العراف أربع مرات؟"، ضحك الفتية المسلحون وجاراهم رفيق الله في الضحك: "لم يسبق له أن فعلها، لكن أظن والعلم لله أن حربًا ستنشب".
قهقه الشيخ عباس أخيرًا متغلبًا على وساوسه ووقف نافضًا التراب عن مئزره: "إياك يا ولي أن يسمع أحد غيرنا بخبر حمارك هذا وإلا فإن الدول ستتنازع عليه للاستئثار بعلمه وسعة مداركه".
رمى الشيخ عباس بغصن ريحان إلى رفيق الله ليتمشقر به، فثبته الأخير بين لفات عمامته ودعا له.
اشترى الشيخ عجلة مجلوبة من عزلة حمَاَطَة تحسُّبًا، كان أكثر نباهة من أن تنطلي عليه تلك العيافة، لكن كان له اعتقاد في ولاية الشيبة رفيق الله، وأنه ربما أراد تبصيره بالمغيب عن الأبصار من ذلك الوجه الذي لا يخلو من طرافة.
العامل العثماني على عزلة حُفاش استدعي إلى صنعاء قبل أربعة أشهر، وأشيع أنه عُزل، وتولى نائبه الجاووش باشي ألب تصريف الأمور في غيابه.
أرسل الشيخ العجلة إلى داره مع المسلحين ورقى إلى القلعة بمفرده. كره جدًا صوت رفرفة أعلام الدولة العثمانية المرفوعة على الأسوار، كما كره الريح الباردة التي كانت تهب من الأعلى. حيَّا الحارس الرومي المناوب في النوبة وانتظر، كانوا يتعمدون التلكؤ للحط من شأنه.
بوابة الحصن من خشب الطنب المتين، طولها خمسة أذرع ونصف وعرضها أربعة أذرع، وفي أعلاها ثُبتتْ راية عثمانية انخلع مسمار من أحد أطرافها وكلح قماشها من أثر الشمس والريح.
نظر إلى الأسفل، كان الضباب الكثيف قد انقشع، ولغط الباعة في السوق ودوابهم يصل إليه بوضوح.
أدخل كفيه المتجمدين من البرد تحت الصديري، وسلَّى نفسه بإنشاد زامل فيه فخر بأمجاد قبيلته وانتصاراتها في الحروب.
فُتحت البوابة بعد زهاء نصف ساعة، سأل عن النائب، فأشاروا إلى جهة الجامع.
بجوار البوابة حجرات الجنود وإسطبل الخيول، وعلى جوانب الأسوار مدفع واحد وثلاث زيَّارات. وفي وسط الحصن دار العامل المكونة من ثلاث طبقات، ولاحظ أن باب الدار ونوافذها مغلقة لا حياة خلفها، وحدآت تحوم فوقها.. لم يكن يكره الحدآة، كان معجبًا بها، ويستبشر بها.
رأى النائب قاعدًا على درج الجامع يأكل حبات الرمان من زبدية، سلم عليه فردَّ السلام بفتورٍ، ناوله ضريبة السوق ووقف عاقدًا يديه خلف ظهره، فصرفه النائب وزعم أنه سيكتب له وصل الاستلام في الثلاثاء القادم.
لم يكن الشيخ عباس مغفلًا، كان يدرك أن الرومي مكار وسينكره، ولكن عليه التعقل وتفادي شره وشر من تحته من الجندرمة.
والشمس تدنو من المغيب قدم من الجهة التهامية (الغربية) العامل الجديد الأمير محمد راكبًا على حصانه، وخلفه قافلة من الإبل والحمير، تحمل على ظهورها أربعة حراس، وطباخه وخادمه الخاص وجاريته الأرمنية، بالإضافة إلى متاعهم وميرتهم وزِقاق النبيذ.
استقبلته كلاب الصفقين بالنباح، فذخَّر بندقيته وأردى واحدًا منها، فلاذت البقية بالفرار. اختبأ الأطفال في البيوت، وتلصص على موكبه القرويون من خَصَاص النوافذ والأبواب وقد أرهبهم قدومه، فأعجبه ذلك.
فتح الجنود باب الحصن على مصراعه، وأطلقوا وابلًا من الرصاص ابتهاجًا بوصوله.
كانت المتوقع أن يصل العامل من صنعاء، لكنه خالف العرف وأتى من البحر مباشرة لتسلم منصبه.
عُرف جناب الأمير محمد في الأستانة بلقب مُقلِّع الأسنان، وإذ خشي السلطان مراد الرابع أن تصبح عاصمة الدنيا متحفًا للهُتْم والدُرْد، فيُذكر ذلك في كتب التاريخ ويُعيَّر به، رأى أنه من حسن التدبير نفي هذا الأمير إلى صقع ناءٍ من أصقاع الإمبراطورية، وحانت الفرصة حين أصدر فرمانًا في عام 1625 بتعيين الباشا حيدر واليًا على اليمن، فحُشر اسمه في البعثة، وشُحن في السفينة مع الوالي.
في عرض البحر كان من ندماء الوالي في جلسات الأنس، وتفطن الباشا حيدر إلى رذائل الأمير الغالبة على طبعه: ميل إلى القيل والقال وحبك الدسائس، فعلم أن كرسيه في صنعاء لن يستقر وهذا المفتن المتشامخ بأنفه حاضر في دوائر النفوذ، فقرَّ عزمه على التخلص منه ما إن يطأ اليابسة.
رست السفينة في بندر الحديدة، ونزلوا في دار الضيافة، وفي جلسة الشرب، وبعد أن حسا الأمير محمد عدة كؤوس أذهبت برشده، عرض عليه الباشا حيدر منصبًا شاغرًا في قضاء حفاش، وأثار حميته بقوله إنهم قوم أشرار، خارجون على طاعة السلطان مراد الرابع خان المعظم، ويراد لهم حاكم حازم يريهم العين الحمراء، فوافق الأمير ودق صدره، ووقف وهو يتمايل وسلَّ سيفه متوعدًا الحفاشيين بالويل وقطع الحيل، فتنفس الوالي وارتاح وهمس في كأسه يشكر الراح.
في اليوم التالي الذي وافق يوم الجمعة، صعد أعيان ومشائخ الصفقين إلى القلعة بعد الصلاة، هنأوا الأمير وأهداه كل واحد منهم بقدره، فانشرح صدر الأمير وسُرَّ بهداياهم، وتبدد الانطباع السلبي الذي سمعه عنهم، فرأى قومًا كرامًا لطفاء المعشر، في وجوههم السماحة وفي قلوبهم طيبة الجبليين الفطرية.
وما هي إلا أيام قلائل حتى أرسل في طلب الشيخ عباس، فلما مَثُل بين يديه طالبه بتسديد الضرائب المتأخرة، فقال إنه سلمها أولًا بأول للجاووش باشي ألب، فأنكر الأخير أنه استلم منه شيئا، فسأله الأمير إن كانت لديه إيصالات، فرد بالنفي، فألزمه الأمير بالدفع. ومضى معه جندي إلى بيته، وسلم له مئتين وثمانين حرفًا.
وعلى هذا المنوال دأب الأمير على استدعاء كبار الملاك والتجار والمشائخ إلى حضرته، وتشدد في مطالبتهم، وحصل منهم على جملة وفيرة من الأموال.
ثم أتى الدور على نائبه ألب، فطالبه بجميع الأموال التي قبضها قبل تعيينه عاملًا، فأنكر إنكارًا تامًا، فأمر الجلاد فقلع بالزَرَديّة أربعة من ثناياه، وهُدد بقلع كافة أسنانه، فاعترف وحفر الموضع الذي دفن فيه المال.
وقع قتيل في عُزلة رأس الأحجول بين قريتين، واتهمت كل قرية الأخرى أن القاتل منها، فلما وصلت القضية إلى العامل استدعى عاقليّ القريتين وحبسهما، وأمر الجلاد بقلع أسنانهما، وأمر باستخراج جثمان القتيل وقلع أسنانه هو الآخر تأديبًا له على إقلاقه راحته، وألزم القريتين بدفع ديتين، دية تدفع لأهل القتيل، ودية تدفع للدولة العلية.
وبعد أن ذاعت أنباء هذه الأحكام دب الرعب في أفئدة الناس من سطوة العامل، وتفكروا أن الأمد إذا تطاول عليهم وهو في منصبه، فلا مَنْدُوحَة أن يقتصر طعامهم على العصيد وحده!
في يوم الثلاثاء، هبط الأمير محمد من حصنه وتمشى في السوق الأسبوعي، وفي معيته حاشيته الصغيرة، وكان يمنح هبات بسيطة لمن يُسلي محظيته الأرمنية بطرفة أو نادرة غريبة، وفي ذاك اليوم اعترض طريقه شاب أسود البشرة، من طائفة الأخدام، زعم أنه يستطيع التهام موزة في لمح البصر، فأمر جنابه بإحضار الموز، فوضع بين يديّ الشاب، فقشَّر واحدة وبلعها في أقل من ثانية وفتح فمه على آخره ليري الحاضرين سرعته المذهلة. ضحكتْ المحظية وافترَّ ثغر العامل لضحكها، وأمره أن يأكل موزة أخرى، فقشر أخرى وبلعها أسرع من الأولى، وفرقعتْ ضحكات الأرمنية أكثر من السابق! وهكذا استمر يَزْرَطُ الموز حتى قضى على العِذْق كله.
تعالت صيحات الإعجاب، وتوقع الجمهور الذين تابعوا العرض أن العامل سينفح الشاب الأسود بحرفين أو ثلاثة، لكنه صدمهم حين أمر الجلاد بقلع أسنانه بحجة عدم حاجته لها!
امتقع وجه الأرمنية ولم تجرؤ على معارضة نزوة سيدها، وبعد ارتفاع موكب العامل، نُفِّذ الحكم في ساحة السوق والناس ينظرون، وذلك الشاب أغمي عليه عدة مرات، ولم تنفعه مهارته في بلع الموز، فلم تطل سلامته سوى بضعة أشهر ثم مات متضورًا من الجوع.
ومضت الأيام رخية، ولم تصدر من الرعية ما يوجب الانتقام، وطاب للأمير المقام في تلك الربوع الخضراء ذات المناظر الطبيعية الخلابة والطقس الجبلي المعتدل، وتدبر أموره ليصل إليه تموينه من الشراب المعتق من صنعاء مع العلوفة (الرواتب) التي تدفع كل ثلاثة أشهر هجرية.
وحلَّ شهر رمضان، واستخدم المدفع لإعلام الصائمين بحلول وقت الإفطار، وكانت حتى القرى البعيدة تنصتُ لتسمع دويه المهيب.
وفي آخر جمعة من رمضان، صعد شيوخ الصفقين وما جاورها من القرى إلى القلعة، للسلام على العامل كعادتهم بعد صلاة الجمعة، وفتح لهم الجنود البوابة، وأدخلهم قدري إلى الديوان، وترقبوا تشريف الأمير.
كان منهم من جلب معه العسل أو السمن، ومنهم من حمل الفاكهة أو التمر، وأدناهم أحضر الرياحين والزهور العطرية التي تسبي عقل المحظية.
لكن العامل في هذه الجمعة تأخر، فهموا بالانصراف، ولكن قدري أبلغهم أن الأمير آتٍ إليهم، فذهب وهمهم أنه يستبقيهم ليستضيفهم على مائدة الإفطار.. ثم تناهى إلى سمعهم أصوات جلبة وصراخ، ثم أطلَّ عليهم الأمير وهو ثمل ونصفه الأعلى عارٍ، فوقفوا وتحيروا من هيئته، فأمرهم بغلظة بالجلوس، فلما قعدوا سألهم: "ما موجب دخولكم؟"، رد عليه الشيخ عباس وهو يلاحظ عبوسة وجه الأمير وخروجه عن طوره: "للسلام"، قال الأمير: "نطيبكم"، ثم فتح سرواله وبال عليهم! فخرجوا من عنده مُذلين وضحكاته المعربدة تلاحقهم.
بلغ الغضب أشده بالشيخ عباس ومن معه من المشائخ، فأجمعوا أمرهم على قتله ولو كان في عين الشمس. كانوا يعلمون أنها لحظة فاصلة في تاريخ الجبل، وأن الإهانة التي لحقت بهم ستظل وصمة عار تلحق كل حفاشي إلى آخر الدهر إن لم تُرد الإهانة بإراقة دمه.
استنفروا قبائلهم وأفرغوا القرى القريبة من مدى المدفع والزيارات من النساء والأطفال، فما أزف وقت صلاة العصر إلا والصفقين كخلية النحل ترتجُ بألف مقاتل ببنادقهم وسيوفهم ورماحهم ونبالهم، أسرعهم أتوا على خيولهم وجمالهم، ولحق بهم المشاة الذين انحدروا من عزل الجبل الثلاثة عشر، وفرضوا حصارًا محكمًا على القلعة، ونادى المنادي يطلب من الأروام تسليم الأمير محمد لرفع الحصار وحقن دمائهم.
فأتى الرد من القلعة بصب المدفع قذائفه على بيوت القرية، وأولها بيت الشيخ عباس، وراحت الزيَّارات ترمي النفط على المدرجات الزراعية فأشعلت فيها الحرائق.
تبادل رماة البنادق إطلاق الرصاص، وسقط قتلى وجرحى من الطرفين.
استمر الضرب إلى المغرب، وأخرب كثيرًا من البيوت، وتعالى الدخان الكثيف من الأشجار وقصب الذرة التي طالتها النيران، ثم تراجع حتى همد مع حلول الظلام.
بين المغرب والعشاء وصل الحاج رفيق الله راكبًا على حماره، فلما وقع بصر الشيخ عباس عليه ضحك حتى بانت أسنانه ولمعت في الظلام، سأله: "أفعلها؟"، رد عليه رفيق الله: "أربع مرات، وإلا كيف كنت سأعرف؟!". بدا للحاضرين ساعتها أنهما يتكلمان بالألغاز!
رفيق الله الذي نمت أسنانه من جديد، فعلى ظنه أن عمره جاوز المئة عام، قال إنه في فتوته شارك في حفر نفق سري يمتد من جرف أفقي ضيق في حيد وعرٍ، ويصل إلى حجرة داخلية في الدار التي في وسط الحصن.
دلهم على مدخل النفق، وقرروا الهجوم في الهزيع الأخير من الليل.
ندم الأمير محمد على ما بدر منه أشد الندم، فهو يعلم أن هؤلاء الجبليين أهل عزة وإباء، وربما لو قتل واحدًا من رجالهم لسامحوه، وأما كرامتهم فلن يسامحوا فيها البتة.
أملى على خادمه قدري مكتوبًا إلى والي اليمن الباشا حيدر يخبره أن قبائل حفاش قد ثارت على الباب العالي، وامتنعت عن دفع ما عليها من جبايات، وأنه يطلب سرعة إمداده بالجند والذخيرة لتأديب العصاة.
ثم أملى وصيته ذاكرًا ما له وما عليه، ولمن تؤول إقطاعيته بعد وفاته، إذ كان عقيمًا لم ينجب.
في تلك الليلة عاقر الصهباء مغمومًا وحده بلا مؤانسة، وصرف الجميع من حضرته. كان أشقر البشرة، في الخامسة والثلاثين، طويل القامة، عريض المنكبين، يحلق لحيته ويطيل شاربيه ويفتلهما، وفي خده الأيمن شجة غائرة من رفسة فرس.
في السحر وقت اشتداد حلكة الليل، تسلل من النفق إلى دار العامل ثلاثون مقاتلًا من الأشداء البواسل من قبائل حفاش، واشتبكوا مع حراسة الأمير في الحجرات السفلى وأجهزوا عليهم وصعدوا إلى الأعلى، وهبّ الجنود الذين في الخارج حين سمعوا قعقعة السلاح، لكن الأوان كان قد فات لنجدة العامل، فقد قتله الشيخ عباس بسيفه واحتز رأسه، ورماه من النافذة قدامهم، فخارت قواهم واستسلموا.
هربت المحظية أنزا إلى السطح وقد طاش صوابها من الذعر، فلما سمعت صوت أقدام تصعد الدرج والمحاربين يتحدثون بالعربية رمت بنفسها فماتت على الفور.
في الصباح دفن الأروام الأمير محمد وعشرة من قتلاهم والمحظية خارج الحصن، ورحلوا إلى صنعاء لا يحملون سوى أمتعتهم الشخصية.
وزع الشيخ عباس البنادق والذخيرة والأموال بالتساوي على المشايخ الذين أهينوا في مجلس العامل الصريع.
ترقبوا مجيء حملة عثمانية انتقامية وتأهبوا لها، ولكن خفي الألطاف نجاهم، ولم يأتِ أحد لاستلام الزَرَديّة التي علقها الشيخ عباس في ديوانه.
*وجدي الأهدل.