البردُّوني ذلك العصيّ على التطويع

عن دروبه الكثيرة التي لم يخطئها كأقرانه
د. أحمد سنان
September 1, 2022

البردُّوني ذلك العصيّ على التطويع

عن دروبه الكثيرة التي لم يخطئها كأقرانه
د. أحمد سنان
September 1, 2022

"أيّتها العصافير، ما لكِ صامتة منذ الفجر؟

المطر يهطل نحن نسمع صوته

ولماذا تصمتون أنتم أيّها الشعراء؟

المطر يهطل نحن نسمع صوته"

رسول حمزاتوف(1) 

اللغة مبضع الشاعر، اللغة خنجر الساحر. كلٌّ له لغته.

يتحسس مبضع الشاعر طريقه، فينتهي إلى مكامن الداء وأنواء القلب وإشراقاته المتجلية. ويشق خنجر الساحر ذرات الهواء فيصطاد قلب الشاعر. يكفي الشاعر أن يُطلِق حروفه، فتعرف الأمة ترياق الحياة ومصادره. ولا يكتفي المشعوذ بنشر سهام هذيانه، فتتأكد الأمة نفسها عمق الهُوَّة التي تنتظرها.

حين يتربع الشاعر تلك السماء، تتزين البلاد بشلالٍ من نور الكلمات البهيّ، ويلوذ المشعوذون بدياجير بعيدة منزوية يهجرها الضوء مختارًا.

لا تنتهي المطاردة بين قوافي الشاعر ونصال السَّحَرة، يكفي الساحر أن يرسلَ نصله في أي اتجاه. ألفُ شيطانٍ سيوصلها إلى قلب الشاعر، لكن الشاعر ينثر جواهره في عبق الربيع، فتأخذها العصافير والنسمات مع حُبيبات الطَّلْع، وتنشرها في الروابي والوديان، حينها تزهر المروج، وتتوشح برداء من سندس وبراعم الحروف المشتاقة لمن يحتضن الزهرة والقافية. 

بين الشعر والشعوذة، وديانٌ سحيقة وجبال شامخة. في علياه، كان البردُّوني حكاية لا تنفصم عن بيئته، ينظم شعرًا، وينظمون موتًا.

حينما انحاز البردّونيّ للكاتب الصغير في إحدى الصحف ذات ربيع، انهمر على ظهره وابل من سياط الفتاوى، مع أنّ العرب لم تكفِّر شاعرًا قطّ، وفعلت ذلك مع غيرهم (ابن رشد، ابن سيناء، ابن الهيثم، و...)، وإن كان الشاعر ماجنًا أو حتى فاجرًا، لم تنَله الفتوى مطلقًا.

من غرائبية الحادثات، أنّ أيًّا من الشياطين لم تقترب منه، بل لم تحاول فعل ذلك، حتى وإن تواترت دعوات تكفيره. لا تمارس الهوام شغلها إلا في الظلمات. تنبعث جميعها من كلِّ وكر، ومن الأزقّة المهجورة، ومن فجوات الجُدُر المتصدعة، لا يحوشها عن مزاولة بَذاءَتها شيءٌ غير انبثاق النور حين يقذف الشاعر شلالًا من ضوء الكلمات الصادقة التي تداهم القلوب الحيارى، فتتدفق فيها شذرات من زهو الحياة وبذور الصبر والأمل. 

عادة لا يصدُق الشعراءُ إلا القليلون الذين لا يهيمون كما كان يهيم أترابهم. في حياتنا، عرفنا شعراء هاموا وهاموا، فما صدَقوا ولا صدّقوا ما قالوا! وحدَه البردّوني كان يعرف ليس دربه فحسب، بل ودروب القوم العابرين إلى جواره. خَبرَ كل الدروب وتفرعاتها، لذلك لم يزِغ ولم يهِم في فلوات الشعر.

-------------------------------------------

كانت نوادر عبدالله البردّونيّ مع سجانه حكايات تروى لنا وكنّا نسمعها بشغف دون أن نعقلها. هي حكايا فيها الحقيقة أكثر سطوعًا من كرامات ابن علوان، أكثر صدقًا من حركات مجاذيب سفيان وهم يهوون بالفؤوس على رؤوسهم(2)، وأكثر أصالة من الادعاء بابتكار بلسم نقص المناعة في المعابر المظلمة، وأكثر جلاء من أكاذيب مراهم إزالة الفقر وبعث خصوبة الأرض والسماء التي انتشرت كالهشيم في زهو ربيعنا الذي سرعان ما ذوى وتوارى معه أصحاب مجامر ومحابر القطران.

للبردّوني دروبه الكثيرة لم يخطئها كأقرانه. تلتقي تلك الدروب في نقطة واحدة، في صنعاء ومنها تنطلق في غياهب الغايات البعيدة والقريبة، لكنها لا تتشظى ولا تتعرج ولا تتقاطع لا تنكسر ولا تتهشم.

يعلمنا البردّوني أنّ الثورة هي طموح للتغيير ونزوع متعاظم نحو الآتي، وليست دورانًا لولبيًّا لا متناهيًا، ولا هي حركة عكسية باتجاه الماضي؛ لأنّ ما يُراد تغييره يحمل بذرات فنائه في أحشائه. جدلية الماضي والمستقبل عند البردّوني تعيش في تناغم تامّ، فلا الماضي يطمع بامتلاك المقدرة على تهشيم المستقبل، ولا المستقبل بذلك العجز بحيث يعود على أعقابه.

الشعر في يده مصباحٌ كاشف وهّاج، والتاريخ سفر لا ينتهي، منه يستمد المصباح زيته، والسياسة خط الوصل الرابط بين الإنسان وأرضه، والثقافة حقل البذار والغراس حينًا يقطف منه ثماره، وحينًا أزهاره. وحينًا يزرع من بذور كل خير وينتظر قطر الغيث كي يستنبت عشبًا وخبزًا وفاكهة، والنقد عنده مرة محراث يقلب به تربة الشعر، وأخرى إزميلٌ يعيد به صقل السياسة، وثالثة نار يزيل بها ما يعلق بجدران الثقافة من خرافات السنين.

لأنهم لم يلحظوا جدلية الدروب البردّونية في ترابطها ونقطة التقائها أو عند منحدرات التفافها، فقد ظنّوا، وكلّ ظنهم إثم بالضرورة، أنهم قادرون على إعادة تطويع ذلك الذماري ضرير البصر صحيح البصيرة، لكنه بدا عصيًّا على التطويع؛ ذلك ديدن النبوة. 

لعلّ من كرامات البردّوني الدالة على عصيه أمام كل خصومه، في تروس نظام الدولة بشقيه (المتأسلم والمتحزب)- أنّ كلّ شياطين هذا النظام، منهم الأمرد والملتحي، صُفدت يوم رحيله في 30 أغسطس 1999، ولم تتحرر من أصفادها إلا بعد وداع البسطاء له، هي كرامة لم يحظَ بها إلا قليلون من عظماء البلاد.

تطويع النص

أكثر المشاهد غرابة في دراما هذا الوطن المثخن بالفساد والحروب والتآمر المرير أنّ خصوم السياسة والثقافة لا يتوانون عن التمثيل بخصومهم ولا يتورعون عن ممارسة الاغتصاب السياسي والفكري لخصومهم.

في مطلع التسعينيات، كُفِّر البردّوني كما كُفّر حمود العودي والمقالح قبله. وكُفِّر محمد عبدالولي وعبدالفتاح إسماعيل بعد موتهما، وحتى جار الله عمر، وصالح مصلح، وعلي عنتر، وعديد من المثقفين والأدباء نالهم الكثير. ولكن لم يجد خصوم هؤلاء مضاضة في استدعاء ضحاياهم للدفاع عن فشلهم، لكن ما زادهم ذلك إلا فشلًا.

 يتذكر الكثيرون كيف أعاد شركاء حرب 1994، استنطاق كلمات إسماعيل وعنتر ومصلح ابتداء من 2007، وكيف أنهم عادوا يرجون عبدالولي كي يدافع عنهم في مأزقهم الجديد. ألم يعودوا لقراءة رواية صنعاء مدينة مفتوحة، وتحويلها دراما تلفزيونية؟ وهي التي كُفِّر الكاتب بسببها؟!

يعيدون تجريفه لتسويق الوهم لمن قد خبرهم طويلًا، وهو يعلم أن البردوني هو القائل:

   لأن له شطرًا يسميه غانما   وشطرًا يراه منذ لاقاه مغنما 

الفكر لا يُنتج إلا فكرًا، ولا ينتج الصراخ إلا قتلًا؛ هذه هي المعادلة البسيطة الجديدة التي اكتشفها البردّوني. يأبى "الدواشين" والمهمهمون في غشاوة سحب الدخان استئناسَ الفكرة؛ لأنها مرعبة ومعضلتها أنها لا تموت. 

يسألهم، ومن متن السؤال يقفز استنكار ويختفي في ذاته الاستفهام: 

       وما ذنب دور الكتب قالوا أرتهم      سوى ما نراه ثقفت من تعلما 

لا مشكلة والحال كذلك، فلم يكن ينتظر جوابًا أفضل، فلا مانع من مدهم بغيّهم إذن: 

     فبُولوا على تلك الكراريس كلكم وسموا رفيق الحبر وغدًا ومجرما

    صفوه شيوعيًّا ولو كان حاكرا       ونادُوه (بوذيًّا) وإن كان مسلما 

تطويع النص البردّوني مستحيل، لأنه نص متصل لا ينقطع، تتصل القافية بحروف البحث التاريخي، ويرتبط الحدث التاريخي عنده بالموروث الثقافي. لا تنفصل القصيدة البردّونيّة عن نثرياته؛ لهذا هي غير قابلة للتطويع النفعي. 

ولأن الأمر، كذلك فلا يمكن إعادة إنتاج البردّوني بأقلام غيره؛ لأن الفضيحة ستبدو جلية عارية. وكم هياكل للقصائد ترامت علينا من هُنا وهناك، ولا واحدة استطاعت أن تكتسب جينات أو ملامح الشعر البردّونيّ! 

لن تجدي محاولات إسقاط البردّوني على بعض الوقائع والأحداث وفقًا للاحتياجات الآنية للبعض، وإن توهم ذلك؛ فالمغزى النهائي لأي قصيدة بردّونية يرتبط بغائية معينة لا تتعلق بالأشخاص، بل بصيرورة التاريخ وتأثيره العام، وليس الخاص.

يعلمنا البردّوني أنّ الثورة هي طموح للتغيير ونزوع متعاظم نحو الآتي، وليست دورانًا لولبيًّا لا متناهيًا، ولا هي حركة عكسية باتجاه الماضي، لأن ما يُراد تغييره يحمل بذرات فنائه في أحشائه. جدلية الماضي والمستقبل عند البردوني تعيش في تناغم تامّ، فلا الماضي يطمع بامتلاك المقدرة على تهشيم المستقبل لأنه يدرك مدى الاستحالة التي تواجهه، ولا المستقبل بذلك العجز بحيث يعود على أعقابه لاستيلاد أدوات الماضي.

أفق الثورة عند البردّوني مفتوح على المستقبل. لكن الثورة متغيرة في الموقع والدلالة. فإذا كانت الثورة في لحظتها التاريخية غاية بذاتها، كانت بعيدة المنال، وإنها بتحقق شروطها تصبح كائنة. وعندما تصبح الثورة حقيقة ناصعة محسوسة بكل تجلياتها، فإنّها تكف حينئذٍ عن غائيتها، وتتحول إلى وسيلة أو أداة يحقق بها الشعب غايات جديدة مثلها مثل أي إنجازات في مجالات الحياة الأخرى. فإذا كانت الغاية في اللحظة الراهنة أن نتمكن من توفير الطاقة فإننا لو فعلناها وحقّقنا غايتنا حينها، لا بد أن نحوّل هذه الطاقة إلى وسيلة لتحقيق غايات جديدة؛ شوارع ومصانع. 

فعندما قال البردّوني:

  صنعاء يا أخت القبور                   ثوري فإنك لم تثوري   

 حاولت أن تتقيئي                        في ليلةٍ، عفنَ العصور    

 وأردتِ قبل وسائل البنيان                  تشييد القصور       

 ونويتِ في تشرين أن                      تلدي أعاجيب الزهور  

هنا لم يطلب الشاعر من هذه المدينة توْءَم التاريخ أن تعود للخلف، بل أن تغدو نحو الأمام، فقد استنكر عودة سبتمبر يومًا وهو خالي الوفاض، يريد من صنعاء أن تحمل جنينًا مختلفًا، صورة وجسدًا، غير منشغل بذاتيته. من الابتذال بمكان، أن يأتي من يعيد تفسير البردّوني تفسيرًا رجعيًّا، فالرجل قال ما قاله وهو يفسر نفسه من خلال مؤلفاته الكثيرة. 

الوضع محمول في أحشائه

لا يمكن تعسُّف البردّوني بأي حال، فلا يمكن أن يكون الميلاد بالقتل، والقتل ليس فجرًا للضوء ولا القاتل مشكاة، ولا يمكن للقتيل أن يكون رديفًا للظلام، وربما كان العكس صحيحًا؛ لأنّ تكريس هذا المنظور يقلب فلسفة البردّوني رأسًا على عقب. وقراءة بهذه العقلية سوف تستدعي قراءات أخرى وبعقليات شبيهة، ولكنها لكائنات أخرى لزمان بلا نوعية أو حتى لوجوه دخانية، لكنها قراءة تحاول تكييف البردّوني لنزواتها. وفي كل الأحوال يتم تلبيسها بثوب الأيديولوجيا الأسود.

أخيرًا. لن تُجدي محاولات إسقاط البردّوني على بعض الوقائع والأحداث وَفقًا للاحتياجات الآنية للبعض، وإن تُوُهِّمَ ذلك. فالمغزى النهائيّ لأي قصيدة بردّونية يرتبط بغائية معينة لا تتعلق بالأشخاص، بل بصيرورة التاريخ وتأثيره العام، وليس الخاص.

كان البردّوني يمارس نبوءته بطريقته المتفرِّدة، ويعرف يقينًا أنّ: 

ما دامت هجعتها حبلى فولادتها لن تتأخر

هي بالعادة لا تتأخر، لكن بالمقابل من غير المقبول قراءة البردّوني قراءة ميكانيكية حَرفية للمفردة أو القصيدة؛ فصنعاء ليست بالضرورة هي نفسها، لأنها في الغالب تمثّل رمزية مفتوحة لكلِّ مدينة في هذا البلد تحوز كل الشروط الذاتية والموضوعية لانطلاق ربيع الثورة. 

فعوامل فناء الوضع القائم كما كان عبر التاريخ، محمولة في أحشائه بصورة جينية كما كان في كل النظم السابقة، ولولا ذلك لما وجد هو نفسه، كما يرى البردّوني. إذن، الأمرُ لا يحتاج لأكثر من استعداد جمعيّ للمشاركة في عملية التغيير، ولكن جوار ذلك، يحتاج إلى توفر وضع إقليمي ودولي متهيِّئ يساعد على نجاح هذه العملية، وليس ممانعًا كما هي العادة.

الهوامش:

 (1) أديب وشاعر داغستانيّ.

(2) سفيان: منطقة في حوطة لحج، تقام فيها سنويًّا زيارة ولي الله سفيان بن عبدالله، وقد هدم المتطرفون ضريح الولي سفيان أثناء حرب 1994.

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English