إفراط التفاؤل والإخفاق

الرحلة التي ليس لها قاع أو قرار
د. أحمد سنان
June 2, 2022

إفراط التفاؤل والإخفاق

الرحلة التي ليس لها قاع أو قرار
د. أحمد سنان
June 2, 2022
Photo by: Shohdi Alsofi - © Khuyut

علاوة على أن أبي كان رعويًّا بارعًا أو محترفًا بلغة اليوم، فقد كان متدينًا منفتحًا ومقلدًا لوالده الذي طاب له المقام في دولة السلطان العبدلي، في الربع الأول من القرن الماضي. في لحج أنشأ جدي أسرته الجديدة بالزواج من أسرة لحجية فاضلة.

لم ينتظرني جدي، فقد آثر أن يلقى ربه بعد رحلة طويلة في هذه البلاد، لقد اتبع هو نفسه سيرة أجداده، الذين أغراهم الرحيل الدائم من مرابع الصيعر والمناهيل في الصحراء الحضرمية، إلى قفار وصحارى وجبال ووديان، كلما استقر جيل في وهدة ما، رحل جيل آخر نحو آفاق لا عنوان لها.

لا تذكر الأسفار كم جيلًا رحل وكم جيلًا ظفر وكم جيلًا ترجل وكم جيلًا ضل، لكن الرحلة نفسها لا تزال مستمرة ليس لها قاع أو قرار.

كنت ما زلت غضًّا عندما عرفت أن لي حُبابة (جدة) ما زالت تنافح عن الحياة في الخضيرة لحج. طفولتي لم تكن حينها تسمح لي بالسفر الطويل من عدن إلى الخضيرة. كان تصوري أن ذلك كونٌ آخر مستحيل البلوغ، كان للمسافات في ذهني أبعاد تخصني وحدي، ولا تتطابق قياساتي مع المتعارف عليه.

ذات حين قرر أبي الثاني "عبدالله فوتبات" (رحمه الله) -هكذا يعرفه كل أهالي عدن- قرر أن نزور (جدتي مريم القزيفية) وعمومتي. كانت مفاجأة لذيذة الطعم، سأكتشف كوكب لحج، وسأتعرف على بعض جذوري الممتدة في جغرافية لا متناهية من الخصب والجبال البيد المحرقة والساحل النضير الحنون.

عندما دلفنا باب البيت في الحي الخامس -هكذا كان يسمى- رأيت حُبابتي التي اشتقت إليها وأحببتها، بمجرد سماعي بها. يا لهول مفاجئتي بجدتي الرائعة، لقد أحنى الزمن ظهرها، وأخذ بصرها بالخفوت، لكن عوامل كهذه لم تستطع إخفاء جمال وبهاء جدتي، لقد أشعرتني بهيبة وجلال.

كان أبي يعتقد بصدق، بالثورة وقدرتها على اجتراح المعجزات، وأن الناس فعلًا لن يحتاجوا بعدها للكدح، فالعنب سيتدلى من نوافذ البيوت، في أماكن كثيرة، تكون العبارة تركيزًا لحقيقة الأرض الخصيبة، لكنها في الغالب الأعم تعني سهولة الحياة في عهد جديد يجر خطاه نحونا كما اعتقد أبي

بمجرد أن أخذتني في أحضانها حتى شعرت بعالم آخر لم أدركه حتى اللحظة، ولكنها وهي ترسل دمعات صغيرة على أودية خدها، بادرتني بسؤال بلهجتها التي لم أكن قد تعرفت إليها بعد: "شو مراخص لي يا أبو أبوي؟". وقفت مشدوهًا محتارًا كيف أجيب. لا بد من ترجمان يقوم بإنقاذي من هول الموقف وجلاله.

أحد أعمامي -وهم جميعًا من أقحاح لحج طبعًا بحكم المولد والنشأة وعصبية الانتماء لأرض الخضيرة (رحمهم الله جميعا)- وعطفًا على حالتي سارع لنجدتي فورًا، "جدتك تسألك: أيش أنت مخاصمها؟".

وبدلًا من الرد بالكلمات زدتُّ من شدة تشبثي بها. 

كما قلت، التقيت حبابتي القزيفية في خريف عمرها وفي سنِي عمري الأولى، برغم شيبها وضعفها كانت حُبابتي رشيقة خفيفة نحيفة، حين (تُطرّب لي) كنت أطربُ لذلك الحنين الحزين المنبعث من عينيها ورنين لهجتها اللحجية المميزة والرقيقة و(العذبة المغناجة). 

أحبتني اللحجية من محبتها لأبي، رغم أنه ابن ضرتها وأحببتها لذاتها، وفي محبتي لجدي وأبي.

عندما التقيت حبابتي هذه كنت قد فقدت جدي وابنه، هي سُنة الكون التي يسير عليها.

عن السلطان والقمندان والحسيني، كانت حبابتي تحدثني والحنين يشع في عينها، وهي تنظر من المشكاة (النافذة)، وكأنها تراقب، بما تبقى من شحيح البصر، أفولَ شيء عزيز في الأفق البعيدة.

في تلك السنين، بالكاد كنت أفهم بعض ما تقوله أو ما تقصده بالمقارنات بين ما مضى الرغيد وبين ضنك ما جاء الجديد.

حكايات حُبابتي اللحجية عن أبي كانت كثيرة، وعندما تحكيها تبدو وكأنها تتحدث عن مقدسات لا تعلمها إلا هي، لكن ذاكرتي الصغيرة لم تستوعب كثيرًا مما حكت. خيّل إليَّ أن حُبابتي كانت تعتقد في إيمان بكل ما كان أبي يهمس في أذنيها عن المستقبل الرومانسي للبلاد والناس، لكن الأمل تضاءل بتضاؤل السنين التي كانت تحملها وتضاؤل جسدها النحيف وبصرها الذي كان حادًّا ذات زمن. لن تحتاجي (للمكشة ولا للمكحُت) قال لها أبي ذات يوم: "لن يكون في لحج (مخرُط)، ولكن شوارع طويلة وعريضة ونظيفة، ولن تتكبدي مشاق المشي فيها ستحملك الشوارع"؛ بينما ترد عليه مستغربة: "شوه ذا الهرج يا وليد؟".

كنت صغيرًا جدًّا في ذلك الوقت الذي عاد فيه أبي من عدن، كلمني حول الكثير وعن الكثير مما لم أفهمه إلا بعد سنين طوال، وحين فهمت ما قاله كان هو قد رحل.

كانت علاقة أبي بالناس كعلاقته بالأرض وبالقرآن، طاهرة نقية وصادقة معطاءة، امتدت علاقته إلى أبعد من عالمي الصغير ذلك.

"با تكونوا تقطفوا العنب من الطاقة"، قال أبي يخاطبني وهو يمسح على رأسي، لم أكن قد عرفت العنب بعد، تلك كانت المرة الأولى أسمع فيها بالعنب من أبي، وكنت قد قرأت كلمة عنب في ختمة المِعْلامة (الكتّاب).

كان أبي يعتقد بصدق بالثورة وقدرتها على اجتراح المعجزات، وأن الناس فعلًا لن يحتاجوا بعدها للكدح، فالعنب سيتدلى من نوافذ البيوت، في أماكن كثيرة، تكون العبارة تركيزًا لحقيقة الأرض الخصيبة، لكنها في الغالب الأعم تعني سهولة الحياة في عهد جديد يجر خطاه نحونا كما اعتقد أبي. هذا ما قالته ثورة 26 سبتمبر والقومية كما قال.

عندما عاد أبي من عدن كان منفعلًا بما يجري، وكان متأكدًا أنّ عصرًا جديدًا جميلًا سينبلج، ولكن خيب المناضلون ظنه.

"أنت با تدرس في مدارس عدن" قال أبي؛ ستكون عدن أحسن من لندن، وأحسن من روما، والخير با يغطي البلاد، وستكبر البلاد". لقد كان أبي "جوادًا" (كما نقول بالعامية) يصدق كل ما يقوله الآخرون، لقد صدق ما كان يقوله أعضاء النوادي والجمعيات، وما قاله الاتحاد اليمني، وما قالته القومية، وحتى أنه صدق العطروش والمرشدي وعبدالناصر، أن بكرة أفضل وأجمل والبلاد ستكون أكبر. الحمد لله يا أبي، أنك لم ترَ بكرة!

حينما هلَّ نوفمبر 1967 بأنواره البهية، لم يكن أبي شغوفًا بالانتظار، فلم ينتظر نوفمبر كثيرًا، فقد ذهب في طريقه، ليس ثمة وقت كي ينتظر أن يخيب أمله.

قالت حُبابتي (القُزيفية): "كان أبوك دائم السفر إلى "بلود" كثيرة في البحر، كان يتاجر "بالورس" الذي يجمعه من قرى البلاد، وكان يسافر "بالصمبوق" مع صاحبه الإيطالي أبو مصنع "المرمر" إلى الحبشة، ومن هناك إلى بلاد الطليان". حينها فقط أدركت لماذا قال أبي إن "عدن سوف تكون أحسن من لندن ومن روما". 

آه يا أبي، لقد انتظر الناس كي يقطفوا العنب من الطاقة، ولم يقطفوا غير الهوان وإهدار الكرامة. نعم، يا أبي، لقد درست في مدارس عدن، وشربت ماءها وذبت فيها، لكن عدن يا أبت قد ذهبت وحلت القرى والصحاري بديلًا عنها.

آه يا أبي، لقد جاء نوفمبر في بلادي منيرًا مرة واحدة ثم انطفأت جذوته، وجاء شهر أطلقوا عليه "مايو" ظنناه للمرة الأولى ماءً كما هو عند التهاميين، ثم أدركنا هول سوء فهمنا. فلا هو ماء للشرب، ولا هو موسم لفرح كنا ننتظره. لقد انتظرت طويلًا لكن عدن لم تعد أحسن من لندن، ولا من روما! لقد أفرطتَ يا أبتِ كثيرًا في تفاؤلك، ليس لنا التفاؤل يا أبت. يا أبت، فعلًا لقد كبرت البلاد، ولكنها صارت أكثر ضيقًا بأهلها.

أعرف يا حُبابة أية خيبة جنيتي، لكن ذنب أبي أنه كان صادقًا صدوقًا.

•••
د. أحمد سنان

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English