قراءة في تجلّيات الأنا

"زفاف الحجارة للبحر".. حين تأخذنا الكتابة إلى جوهر الكينونة
د. دورين نصر
November 10, 2022

قراءة في تجلّيات الأنا

"زفاف الحجارة للبحر".. حين تأخذنا الكتابة إلى جوهر الكينونة
د. دورين نصر
November 10, 2022

لا يسع الدّارس إلاّ أن يقف حائرًا أمام نصوص الشّاعر عبد الودود سيف. فيشعر بأنّ الكتابة التي يعاينها تتفلّت منه تارةً، وتمنحه أنصافَ معانيها تارةً أخرى. فهو يحيلنا إلى جوهر الحياة، إلى جوهر الكينونة البشريّة، وكأنّنا نحيا مجاهدين: فينطلق الإنسان من أناه ويعود إليها، إذ يقول في قصيدته: "الميلاد تخطيط على جسد المهد":

"هذي خطاي تعود بي نحوي، وتُجلسني إليّ...

وأنا أعود إليَّ مُبتَكرًا، كأبهى ما يكون اليتمُ

وأنا أسيرُ إليَّ محتشدًا

آتي، وأجعل من صدايَ شذًى وأجعل من هوايَ هوايَ"

إنّه صوت المتكلّم في القصيدة، حيث تصبح "الأنا"، هي البؤرة المركزيّة التي تشعّ في النّصّ. كلّ شيء ينطلق من "الأنا" ويعود إليها، ما يجعلها تتّصف بالدينمائيّة والحيويّة، وتتّخذ أبعادًا مختلفة: فلسفيّة ونفسيّة وفكريّة واجتماعيّة. فـ"الأنا" في نصوص الشّاعر عبدالودود تتماهى مع كلّ الموجودات في وحدة إنسانيّة، ووعي كوني شامل. فهو ليس بالشّاعر الرومنسي الذي يلوذ بالطبيعة، وإنّما يعود إليها طلبًا لملامسة الوجود في عناصره البدائيّة، إذ يقول:

"لمعُ البرق بعضُ شواردي

والغيمُ سنبلةٌ على إبطي

وأنا أدندن بالنسائم واللّواقح والأريجْ

هذا ابتداء المهرجان"

فالشّاعر لا يقف، من الطبيعة، من المحيط، موقف العاشق للارتماء بين أحضانها، بل يقفُ وقفة الشّاعر في تحسّسه لباطن القصيدة في بدن الطبيعة. 

وتجدر الإشارة، بأنّه يقيم حوارًا نشِطًا مع كلّ ما يحيط به، ما يتيح له تلقّي دروس في الاندفاعة والصعود والوصول في حِراك خطواته بين العناصر مع الغير.

فيكون "المشي" عنده مسار انعتاق، ومسار لقاء، ومسار انفتاح، ما ينتزعه من ضغط ما يحيق به، سواء في الوجود أم في القصيدة.

فالمشي في القصيدة هو تفاعل الجسد الشعري مع الذات ومع العقل والحواس، إذ يقول:

"هذا رجوعي من سوايَ إليّ، في عرشٍ وقافية

وأنا أسير إليَّ محتشدًا

وأدخل في هوايَ

آتي وأجعل من صدايَ شذًى وأجعل من هوايَ هوايَ...

ثمّ أسيرُ أقلتعُ الرّتاج

وأنا كمن آتي إليَّ مُسلِّما

وأنا كمن أمشي إليّ مُبَدَّدا".

في الواقع، إنّ هذا المشي هو سبيل لاكتشاف العالم وللتحرّر من الألم. وتجدر الإشارة بأنّ البحث عن الحريّة من تمثّلات المشي، لأنّه مجالٌ خصبٌ للتخيّل. ويرى نيتشه أنّ الأفكار فقط التي تأتي من المشي لها قيمتها. فهو نوع من معرفة الذات، من يقظة الروح وأسرار الوجود. فكلّ ما يفعله الشّاعر ينطلق منه ويعود إليه، ما يجعلُ خطابَه الشعريّ متّجهًا نحو الآخر الذي هو "أناه". واستخدامه لهذا الضمير بوفرة يدلّ على أنّه يمثّل جزءًا من التواصل الداخلي للنّصّ. والواقع، إنّ فاعليّة ضمير المتكلّم وثيقة الصلة بفاعليّة الأنا الشعريّة، ما يجعلها تتمظهر بصور مختلفة، وما يجعل إمكانيّة معرفة الهُويّة الموحّدة التي تجمع بين عناصرها صعبةَ التحقّق، لا سيّما أنّ حضورها متعدّد في الآخر، والأشياء والطبيعة. لقد تحوّلت إلى "أنا" جمعيّة مثقلة بالعالم ومستغرقة في استيعاب الآخر، من هنا الحيرة التي تخلق من المادة دهشة مستمرّة، لا سيّما أنّ الأنا صارت "الأنا الخالقة"، المعادل الموضوعي للإله، إذ يقول: "أنا الذي منح الصواري في الفضاء سموقَها وشرودها". إنّها النشوة في خلق عوالم جديدة، إنّه مبدأ إعادة الخلق، وهو أسمى من وصف الوجود نفسه، إنّه الحلول والتماهي في معناه الجوهري الذي يعني فناء الهُويّة القديمة، وولادة هُويّة أخرى مركّبة وأكثر تعقيدًا. 

ويُعيد شاعرُنا صرخة "الشّاعر الجاهلي" تميم بن مقبل: "لو أنّ الفتى حجرٌ" بطريقة مختلفة، إذ يقول:

ألا ليتَ الفتى ماءٌ فيخلَع من يديه جراره

فأسير أنحتُ من السنابل قامتي

وأعود بي نحوي / وأسقط في الحطام

فهو يبحث عن الخلاص، ولكنّ المخاض عسير، وربّما لن يكون إلّا في القصيدة. هكذا تتماهى أناه مع كلّ الموجودات في وحدة إنسانيّة، فتنكشف له ذاتُه وتؤرّخ للحظة الكتابة، التي أصبحت تجربة وجوديّة يمتزج فيها صوت الشّاعر بصوت الفيلسوف تارةً، إذ يقول:

"فلكلِّ مذنب سبب، ولكلّ سبب مسبّب"

والمتديّن تارةً أخرى:

"فأنا أخشى على العبد أن يثمَلَ ويغيبَ عن موعد اكتناه الحكمة قبل إقامة صلواتها"

وهو المؤرّخ الذي يعيد إنتاج التاريخ:

"افتحوا أَبوابَ طروادة

كي أعيد ترتيب أبراجها

ومقاصيرَها

وأسمادَها

وأخلَعَ "هيلينا" من عرشِها العاج"

وهو المتمسّك بوطنه الحزين على الوضع المتردّي وما آلت إليه الظروف:

"فلنقترف أولى خطايانا

ونزعم أنّه مِلكٌ لنا

أو أنّنا ملكٌ لهُ

ونؤجّل الأفراحَ – حتّى ينتهوا"

في الواقع، إنّ الذات المتكلّمة تعيش في المنفى، وفي حالة الغربة في غياب الحرية. فهذه الكينونة المفقودة ليست سوى الهُويّة الغائبة المحجوبة عن الذات الفرديّة والجمعيّة. فتتشظّى الذات نفسُها وتتمزّق وحدتها المركزيّة، وتتشتّت عوالمُها في ظلّ التمزّق الكينونيّ، وفي ظلّ الأزمات.

ويوظّف الشّاعر ترتيب العبارات وتداعي الكلمات وهندسة تواليها وإيقاع تواترها توظيفًا دلاليًّا، فيحضر المعنى في الفراغ المقلِق الذي يأخذُنا إليه المنزَلَق الذي يؤسّسه الشّاعر في لَعِبه البارع باللّغة. فيبدو الأسلوب أحيانًا، أهمّ من الغاية، بل أكثر متعة، حتّى إنّ الطريق في ذاته هو ما يستثير الأمثلة.

وتجدر الإشارة بأنّ الذي يتكلّم في النّصوص الشعريّة ليس هو عبدالودود سيف، بوصفه شاعرًا واقعيًّا اجتماعيًّا وحسب، إنّما هو الشّاعر الحاضر عبر ضمير المتكلّم (أنا). فهو ذات صنعها الشّاعر لتعبّر عن تجربة حياتيّة تحيكها الكلمات، أو هي ذات أخرى للشّاعر لا تستطيع أن تكشف عن نفسها إلاّ بواسطة اللّغة ومضامينها.

فكيف تستطيع هذه الذات أن تحافظ على حضورها، وليس لديها أيّة وسيلة ولا إمكانيّة لتحقيق وجودها سوى اللّجوء إلى اللّغة؟ وذلك بغية خلق واقع جديد مغاير للواقع الراهن الذي تعيش فيه. فاستخدامه لضمير (الأنا) وتكراره بشكل ملحوظ أتى من محاولة من أجل الخروج من المأزق النفسي الداخلي وتخفيف الضغط الخارجي. فأين تناثرت شظايا الأنا؟ ومَن لملمَ أجزاءَها المفكّكة؟

إلى أين تذهب الأنا؟ لا الماضي يشفيها، ولا الواقع يرضيها، ولا الهروب ينقذه منها. كيف تلملم أجزاءها المبعثرة؟ هي التيه والشوق والرغبة والموت. هي نفسها، وأهلها، ومجتمعها، ووطنها المجروح. هي الضعيفة المتألِّمة، الحزينة والثائرة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English