عنف التفاهة وتسميم الوعي

عبث يتناسل ويزدهر في سوق رائج!
ضياف البَرَّاق
June 14, 2023

عنف التفاهة وتسميم الوعي

عبث يتناسل ويزدهر في سوق رائج!
ضياف البَرَّاق
June 14, 2023

نعاني من فوضى التفاهة: كذب، زيف، تطرّف، بذاءة وتنمّر، عنف في الكلام والكتابة، عنف في الأفلام، في البرامج، عنف في الظهور، عنف في كل شيء. 

نحن نعيش عصر الحماس التافه، عنف الكلمات وزيْف الصور والتنمُّر الثقافي باسم النقد. إنهم يهربون من واقعهم الحقيقي إلى واقع افتراضيّ ليمارسوا فيه العبثية بحرية وفخر وبمجانية. 

إنّ المحتوى الجيد أو الموضوع المفيد لا ينال على إعجاب الجمهور، وإنما عدد قليل من هذا الجمهور يحترم المحتوى الجميل أو الأداء الرائع ويشجع المبدعين الرائعين، وفي هذا بصيصُ أمل. 

أما التفاهة فتنتشر بجنون سريع، مثل النار في الهشيم، وتحصد إعجاباتٍ ومشاهداتٍ لا مجال لحسابها. 

على هذه المواقع، تشتعل بشكل مستمر معارك لفظية، تدور صراعات غوغائية وانفلاتية، والسلاح المستخدم فيها هو الكلمات أو المنشورات المتعجرفة والفَجّة والغبية منتهى الغباء، فيتم تدمير اللغة، والدوس على شرفها المقدَّس. في المعارك الساخرة التافهة يقع الضرر الأكبر على اللغة. 

يا لَهُ من عبث مُخيف هذا الذي يتناسل ويزدهر في فضاءٍ عالميّ وهميّ يزداد جمهوره على الدوام! 

التفاهة ضرْبٌ من العنف اللغوي والذهني والنفسي الذي ينعكس تأثيره السلبي على النفوس والعقول فيفسدها بسرعة مفعوله. ولكن العنف اللفظي يتحول مع مرور الوقت إلى عنف مادي؛ فحروبٌ كبيرة في التاريخ بدأت من كلماتٍ سيئة، ألفاظ هجومية عنيفة. والتفاهة التي أسمّيها عنفًا هي تلك الثرثرة الحنّانة الطنّانة التي تكتسح السوق في أيامنا، وتسمّم ينابيع الحياة. 

في اليمن، بلدي الغريق في جحيم الصراع العُنْفي، يتلوث كل شيء منذ ٢٠١٥. أزمات متكررة وخطابات عنيفة تحتقر العقول وتُصدّع القلوب. خليط من العنف يلتهم حياتنا، يُفتِّت استقرارنا بلا رحمة. والمجتمع الذي يسوده العنف، يضطرب فيه التفكير والمنطق والروح الأخلاقية تتدهور تدريجيًّا. إنّنا لا نعرف حياة الهدوء والاستقرار؛ ولذا، نهرب إلى مواقع التواصل كي نفرغَ مشاعرنا السلبية في منشورات عُنفيّة، وفيديوهات مبتذَلة!

إن أهمّ ما يرغب به المرء، في هذه الوسائل والمنصات، هو الحصول على الإثارة، كيفما كانت، وبالتالي، عليه أن يُصفِّقَ للتفاهة، ويعجبَ بها، ويساهمَ في ترويجها، حتى يصبح هو أيضًا تافهًا بمرور الوقت. إنّ شبكات التفاهة تقدم الإثارة الرخيصة لجمهورها السطحي، وتكتسِح الصدارة. 

ونحن نعاني من أولئك التافهين المشهورين الذين يتقيّؤون أوساخَهم علينا، عبر صفحاتهم وقنواتهم على السوشيال ميديا، إنهم يمارسون التفاهة بشكل عنيف ضد أذواقنا، تفاهتهم تفسد الذوق العام، ولا نستطيع الفرار من سمومها المنتشرة في الأرجاء. 

ويزداد انتشار التنمر الثقافي وثقافة التنمر على هذه المواقع والتطبيقات، بل إنّ معظم وسائل الإعلام أصبحت تقدم لجمهورها محتويات تتضمن الإثارة العنيفة في برامجها السياسية والثقافية، والجمهور يحب هذه المواد المثيرة، يلهث وراء أيّ محتوى فيه إثارة أو حماسة أو كذب وضجيج أو بذاءة، وكأنّ متابعي قنواتِ الثرثارين المشاهير لم يعودوا قادرين على قضاء أوقاتهم بهدوء ونضج واحترام للذات. 

إنّها إثارة غير طبيعية أو فورية ولكنها مصطنعة، زائفة ومشوهة وغير إنسانية ولا أخلاقية. هذه الإثارة هدفها الأوحد إفساد طهارة الأرواح وتشويش الأذهان وتوتير أعصابنا. 

هو لا يفكر إلّا بعقلية التاجر، الربح هو الأهمّ، وعلى هذا الأساس يصنع محتوى تافهًا ويحشو رأسَك به. 

هو يربح نقودًا على حساب وقتك وصحتك النفسية والعقلية. إثارة لتسميم وعي الجمهور بالسخافة والسطحية والضياع. إثارة ساخنة وزائفة تقتادك شيئًا فشيئًا إلى مستنقعِها المليء بالجراثيم. 

فليس المعنى مُهِمًّا، ولكن المهم هو الشعور بالحماس، الوصول إلى النشوة البائسة. 

لصناعةِ محتويات مثيرة، تلائم مزاج الجمهور، فلا بُدَّ من التهريج الجذّاب، والتلفيق، والخداع، والكذب، والتملق، والنفاق، وإهانة الكلمات، والاستعراض المبالَغ فيه. 

وبكل إسراف تُمطرنا بعض المواقع بمحتويات إعلامية وإعلانيّة مصنوعة من أفكار مريضة وبأساليب مُنفِّرة وألفاظ خالية من المعنى، تفتقر إلى الفلسفة، إلى الفن، إلى البساطة والعمق، إلى النزاهة؛ وبالتالي تكون مؤذية لمشاعرنا وتفكيرنا، إننا نتجرّع فيديوهات ضاجّة بالتفاهات والمؤثرات المُزعِجة. 

تفاهة كل غايتها استثارةُ المشاعر والرغبات، لا مخاطبة العقول، تركز على الغرائز وحدها، تستغل العواطف وتنجح في تحويل أصحابها إلى مجانين استمتاعيين بالهُراء والوهْم. 

إنّ لهم أسلوبًا خطيرًا لنشر تفاهاتهم المثيرة، والجماهير تتشوه فكريًّا ونفسيًّا إذ تلهث وراء الإثارات الفارغة. وبالنظر إلى أنفسنا من خلال هذه التفاهات، تبدو حياتنا بلا معنى. فهذا الجيل أصبح كل همّه هو الحصول على المتعة، التعلق بأي شيء يمنحه النشوة الداخلية المؤقّتة. 

أمّا الذوق الجمعي فقد أصبح مدمنًا على لغة العنف، وثقافة الوهم وضجيج الأحداث العابرة. لنجعل كل شيء مثيرًا، ممزوجًا بالسخرية والعبث والإغراء، هكذا يفكر الأوغاد الساعونَ إلى الربح والشهرة، وهذه طريقتهم لجذب الجمهور. 

لا تخلو نفوسنا نحنُ البشرَ جميعًا، من بذور النرجسية والتطرُّف، ولا يوجد بيننا إنسانٌ واحد نقيّ جدًّا، حتى إننا عندما نمارس الحب، نتصرف بطريقة أقرب إلى العنف، والعنف أسبابه كثيرة، وأشكاله عديدة، وإذا كافحنا العنف، نمارسه بدورنا، ونستخدم أدوات عنيفة لفض النزاعات العنيفة!

والعنف له وجود في كل بقعة من العالم، ويمارسه جميع البشر بعضهم ضد بعض، ويستمتعون بسلوكهم هذا. الإنسان بطبيعته كائن تخريبي، ولقد فشلت جميع الفلسفات التنويرية والقيم الروحية والتعاليم الدينية وكل القوانين والدساتير في تهذيب غرائزنا البشرية الغريبة. نعم، هذه هي الحقيقة. وينتهج الإنسانُ في حياته اليومية أساليب فوضويّة، كي يعيش مُفترِسًا أو عابثًا، كما لو أنه عاجزٌ نفسيًّا عن العيش بلا حماس، بلا إثارة، بلا عبثية، وليس من جدوى لأنْ نتساءل: لماذا كل هذا؟

الواضح أنه يزداد هذا العبث كلما تقدمت البشرية تكنولوجيًّا وصناعيًّا، والآن، الجميع يعيشون في خطر، لا يشعرون بالأمان والتوازن، ويتهاوون في الفراغ، من الناحية النفسية.

وهناك بشر متخلفون عقليًّا، أو بلا مواهب ذاتية، وهؤلاء عندما يعجزون عن تحقيق أحلامهم أو طموحاتهم، يذهبون لتحقيقها عن طريق العنف، ولكنهم يفشلون، ثم يتنمّرون على المتفوقين عليهم كلما تهيأت لهم الفرص.

في الماضي البعيد، اعتبرَ الشاعر العربي العظيم أبو العلاء المعري، الطبيعةَ البشرية فاسدةً من أساسها، وبالتالي أعلن يأسه من إصلاحها. وبالنسبة إليه، يزداد الفساد بزيادة الناس. وفي القرن التاسع عشر، سيقول الروائي الروسي الشهير دوستويفسكي، إنّ هذا الكائن البشري يحب الهدم والفوضى، وهذا في رأينا صحيح. 

فوضى وتفاهة لها كل وجوه العبث. وبما أنه عصر مهووس بشعارات وهواجس التقدم، فيجب تطوير كل شيء، وإطلاق الغرائز، ولو بجنون، وهذا العبث السائر على قدم وساق إنما هو الجانب السلبي للتقدم.

في الواقع، كلما كبُرَ خيالُ العالَم وتطورت أدواته، وسائله وطرُقه، انفلتت رغباته من عقالها، واضطربت حياته، واتسعت شهيته وشهوته لمزيد من الاستهلاك والثرثرة والصراع مع طواحين الهواء. والتقدّم هو في الحقيقة إثارةٌ اندفاعيّة، أو بالأصح عُنفٌ مُطوَّر.

والواضح أنّه يزداد هذا العبث كلّما تقدّمت البشرية تكنولوجيًّا وصناعيًّا، والآن، الجميع يعيشون في خطر، لا يشعرون بالأمان والتوازن، ويتهاوون في الفراغ، من الناحية النفسية.

فمثلما يفعل الطغاة لجذب شعوبهم، يفعل التافهون في هذه المنصات لجذب الجمهور. فمن أجل الوصول للشهرة والمجد الزائف، على التافهين أن يثقوا بأنفسهم ويخاطبوا الفارغين بطرق مفعمة بالحماس والوعود البرّاقة الكاذبة، لغة الخطاب لا بُدّ أن تكون ناريّة وسطحية إلى أبعد مدى، خاطب الغرائز ودعك من العقول، حتى لو كنت تافهًا، فقدّم نفسك للجمهور على أساس أنك مُخلِّصهم المُنتظَر، وسوف تنال ثقتهم بسهولة وسرعة، لا تقدّم نفسك على أنك شخص عادي، فارْتدِ قناع البطل أو السوبرمان، ومارس التفاهة من غير يأس، واكذب عليهم دائمًا، لكن بلهجة صادقة، بلا عجرفة لن تنتصر، لن تنجح، لن يلتفت إليك الناس، لا شُهرة من دون صراخ. 

قنوات التفاهة منتشرة ومستمرة بالتلاعب بنفوس وأدمغة الناس، تجرّدهم من إنسانيّتهم إذ تدغدغ غرائزهم. كان المفكر الكندي، آلان دونو، قد تنبّه منذ وقت مبكر لهذا الخطر الذي بدأ يفشو في العالم، ويعبث بالفنون، والأفكار الخلّاقة، والقيم، فكتب بالتفصيل كتابه الهامّ "نظام التفاهة".

وهذا الكتاب عبارة عن صرخة الكاتب ضد نظام التفاهة، نعمْ، صرخته القوية مُعبَّرًا عنها بلغة نقدية احتجاجية ثاقبة. 

وها نحن نشهد تحول التافهين إلى مشاهير وأبطال ونجوم، ونشهد انهيار المفاهيم والأخلاقيات والقيم، ويحدث هذا بسبب توسُّع نظام التفاهة، ولكن هذه التفاهة اللامعة قد صارت الآن معبودة الجماهير، صنم العصر. 

أيُّ مجتمع لا يحترم نخبته المثقفة يغرق في الظلمات، ويعيش زمنًا طويلًا خارج التاريخ. وحاليًّا يستطيع أيّ (يوتيوبر) عديم موهبة وقليل ذوق، وكثير ادّعاء، ويتصنّع الحماس، أن يخدع الكثير من الناس، ويسيطر على عقولهم، ويحولها إلى حاوية يرمي فيها نفاياته النفسية والعقلية. أجل، إنه يستطيع إثارة العوام وتلقينهم أكاذيب شتّى من حيث لا يشعرون. وعندما يتحرك الناقد الحقيقي لفضح هذه التفاهات، وشجْب هذا السلوك العبثي، يسخر منه الجميع. 

يُقال، لا ثقافة عقلانية للحشود، لا وعي ولا حس نقدي، وهي لا تستخدم العقل. حشود تشجع التافهين، تعشقهم، وتحتفل بتفاهاتِهم، وتكره الخطاب العقلاني والفنون الرفيعة. جمهور لا يبحث عن الجودة، بل عن الإثارة، ويتهافت على الأفكار السطحية والوجبات الثقافية الفاسدة، وكأنه عاجزٌ عن تمييز السمين من الغث، وعن التفكير الإبداعي، فيضيقُ صَدرُه بالنقد الموضوعي الهادف، ويسخر من الأفكار العقلانية، أو لا يعيرها أيّ انتباه، وهكذا يتهرّبُ من أزمته الداخلية. 

والسعي إلى الشهرة أصبح في زمننا مصحوبًا بالضجيج، والذين هدفهم الشهرة يمارسون ضجيجًا مُثيرًا على هذه المواقع؛ لأنّ الجمهور مجنون بالإثارة، يطربه إيقاع العنف. إذن، العبارة الجميلة مكروهة في زمن التفاهة، الرصانة غير مستساغة، لا تنشُدوا فكرة الارتقاء والنضج، ولا تعيشوا في ذوق وهدوء. 

إنّ الشيء الذي لا يفيد أحدًا ويؤذي الجميع هو عنف الإثارة أو التفاهة. وإزاء هذا العبث كله، فإنّ السؤال الاضطراري المطروح هو: ما أفضلُ طريقة لمكافحة هذا الانحطاط الكارثيّ؟

•••
ضياف البَرَّاق

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English