هناك الكثير من الفنانين الذين قدّموا نماذجَ وتجارب لا بأس بها للأغنية التهامية، منهم فنانون شعبيون قدّموا نماذج من الأغاني التهامية في محيطهم الشعبي، ووفق ظروفهم المحيطة آنذاك، وقد توفِّي معظمهم، إلى جانب فن السماع الذي يمتاز بخصوصيته التهامية. وهناك فنانون معاصرون، بعضهم من أهالي تهامة، كالفنان جابر علي أحمد، وأحمد فتحي، وحسن علوان، ومحمد الحلبي، وعلي ذهبان، وأحمد حسين، وحمدون من حيس، وسالم بازغة، والحندجي، وأحمد علي مروعي، ومحمد البيور، والشجون، والزبيدي، وسمير فريد، ومحمد عبدالودود، وبعض الشباب أيضًا، كان آخرهم تميزًا وإبداعًا الفنانَين حسن زغبي وعبدالله آل سهل، كما أن هناك فنانين من خارج منطقة تهامة أسهموا في الغناء باللهجة التهامية، كالفنان أيوب طارش عبسي، ومحمد مرشد ناجي، وعبدالباسط عبسي، وعبدالجليل عبسي، وغيرهم.
لكن كيف تطورت الأغنية التهامية، ومتى بلغت أَوْجها؟
يجيبنا الباحث والشاعر علي مغربي الأهدل، بأن الأغنية التهامية كلون غنائيّ، ما زالت تتبلور وتتشكل، ولكنها في طريقها إلى النضج والبروز كلون منافس بقوة للألوان الغنائية الأخرى الموجودة على الساحة الفنية.
ارتباط الغناء بالبيئة وثقافة الفرد والجماعة في أي مجتمع يمتاز بخصوصيته اللهجوية والثقافية، قديم قدم المجتمع ذاته. فكل المجتمعات بمختلف أماكنها وثقافاتها تغني بلهجتها بشكل فردي أو بشكل جماعي، ويتمثل هذا الغناء في تعبير الشعب أو المجتمع عن همومه بأصوات غنائية، وتهامة جزء من المجتمع العربي الكبير في هذا الجانب، وينطبق عليها ما ينطبق على كل المجتمعات الأخرى.
وعند سؤال الأهدل عن سبب فقدان الأغنية التهامية مكانتها وصيتها، ردّ بالإجابة التالية:
"لا يوجد لدينا من التجارب والنتاج المطروح في إطار اللون الغنائي التهامي ما يجعلنا نجزم بوجود ألوان داخل اللون التهامي؛ لأن المنطقة ما زالت بكرًا وخصبة في الآن نفسه، وما تم تقديمه من نماذج ما زالت تصارع من أجل تسجيل حضورها كلون غنائي منافس على الساحة الفنية، في ظل حضور الألوان الغنائية اليمنية الأخرى البارزة على الساحة، كاللون الصنعاني واللحجي والعدني والحضرمي، وغير ذلك من الألوان المعروفة، ولكن من خلال النظر إلى ما تمتاز به منطقة تهامة من تنوع في اللهجات والثقافة المجتمعية والآلات الموسيقية والرقصات والإيقاعات والألوان الشعرية المختلفة، يمكن القول إنه إذا تكثفت الجهود وتآزرت التجارب الفنية والغنائية وسطع ضوءها، فربما نجد ما يشير إلى أن اللون الغنائي التهامي قد يضم في داخله ألوانًا أخرى، أما ما نراه من خلال ما ذكرنا سابقًا، فهناك تعدد وتنوع في الثقافة الشعبية التهامية، وهذا بالضرورة ينعكس على الأغنية من خلال تجسيد اللهجة والإيقاع وطفو روح البيئة فيها. إنما من حيث وجود هذه الثقافة الغنائية في شكل لون أو فن بارز قياسًا بالألوان الغنائية الأخرى، فللأسف تهامة متأخرة في حضورها على الساحة الغنائية الفنية كلون منافس".
يرى المهتمون أن نضج التجارب الغنائية النابعة من روح البيئة التهامية واستمرارها، يمكن أن تفرض نفسها بشكل أو بآخر على الإعلام والمتلقّي، غير أنهم يؤكدون على محورية دور الإعلام في إبراز الأغنية التهامية كلون غنائيّ يضاف للألوان اليمنية
ويضيف الأهدل أن "هذا الغياب يعود لأسباب كثيرة؛ منها عدم توجه الكثير من فناني تهامة للغناء باللون التهامي بشكل يجعل الأغنية التهامية تتصدر نتاجهم الفني. أيضًا الاشتغال على الأغنية كلون يحتاج إلى احترافية وإبداع في اللحن والكلمات، وكذلك القدرة على استنباط اللون من إيقاعات المنطقة والمطالع الشعرية والغناء الشعبي عمومًا؛ فاللون لا بد أن تفوح منه نكهة البيئة ورائحة طينها وأنفاس حياتها. وما تم تقديمه خلال الأربعة العقود الماضية، يعتبر نماذج محدودة لا نستطيع التعبير عنها أو تسميتها لونًا، ولكنها أسهمت في لفت الأنظار؛ ففي حين نجد في بعضها شيئًا من الإبداع، نجد في بعضها الآخر قصورًا كبيرًا، سواء من حيث الكلمات أم من حيث اللحن والأداء أم من حيث افتقار الأغنية لروح البيئة التهامية وعبقها ونكهتها، إلى جانب عدم وجود الإمكانيات التي تشجع الكثير من الفنانين للتوجه نحو هذا اللون والإخلاص له. هذه الأسباب وغيرها جعلت من الأغنية التهامية، كلون فنيّ، لونًا لا يحظى بالحضور المطلوب على مستوى الساحة الفنية قياسًا بالألوان الأخرى.
غياب الأغنية التهامية في الإعلام والتلفزيون
هذا الغياب هو جزء من مشكلة أشمل تعاني منها تهامة، تاريخًا وفنًّا وثقافةً، رغم الثراء الثقافي الكبير الذي تمتاز به المنطقة، والثقافة الضاربة جذورها في عمق التاريخ. أيضًا لقلة التجارب الناضجة والنابعة من روح البيئة، والتي إن تكاملت وتتابعت، فربما تفرض نفسها بشكل أو بآخر على الإعلام والثقافة والمتلقي، ويبقى تركيز الإعلام وتسليطه الضوء على الأغنية التهامية من أهم العوامل التي ستساعد على إبراز الأغنية التهامية كلون غنائي يصل إلى أكبر شريحة من الناس.
أبرز الفنانين الصاعدين في الفن التهامي
يحضر الفنان عبدالله آل سهل، كأبرز الفنانين المكرسين للغناء التهامي. وهو فنان وملحن ومؤلف موسيقيّ، وُلد في 14 فبراير/ شباط 1996، في مديرية "الحَوَك" بمدينة الحديدة، من أسرة محبة للفن، شجعت حبه للفن في عمر مبكر، كما شجعه الكثير من حوله، وكان للموسيقار الراحل أحمد عبدالرب تكرير، فضل كبير في تعليم عبدالله العزف على آلتي العود والكمان.
برز عبدالله آل سهل مؤخرًا في الساحة الفنية، وقام بتحديث بعض الأغاني التهامية، مثل "قطر امزعفران"، و"واجون"، و"واباه ومناصف"، كما شارك في كتابة أغنية "العشة والسيل" التي غناها أيضًا.
يطمح الفنان عبدالله آل سهل أن تصل الأغنية التهامية "لجميع الأطياف في العالم"، لاعتقاده بأن كل من يسمعها يشعر بالطرب والفرح، وهو اعتقاد يشاركه فيه متذوقو الغناء على نطاق واسع، ممن يعرفون قيمة الموروث التهامي
في سياق حديثه لـ"خيوط"، يقول الباحث علي مغربي الأهدل عن عبدالله آل سهل: "أدهشنا جميعًا بأدائه وتقديمه لتلك النماذج الغنائية الرائعة، على الرغم من أنها تمثل بداية له، وكما يقال، أنا شهادتي فيه مجروحة، من خلال تشرفي بالتعاون معه في بعض الأعمال، ولكن ما رأيته في الفنان عبدالله آل سهل من وعي بالأغنية التهامية أعجبني كثيرًا، فهو يدرك ما معنى اللون التهامي وعلاقته بالبيئة وموروثها، فاللون كلون، لا بد أن يحمل روح البيئة ونكهتها وخصوصيتها كلمات ولحنًا، ثم يتم العمل على تطويره شيئًا فشيئًا في مراحل وتجارب لاحقة حتى يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وعبدالله آل سهل يعي هذا الجانب تمامًا، وانطلاقته كانت انطلاقة موفقة جدًّا، نتمنى أن تستمر وتزداد ألقًا وإبداعًا لتصل الأغنية التهامية كلون غنائي إلى المتلقي والجمهور الفني في كل مكان. أيضًا نتمنى أن يحذوا الشباب من الفنانين المبدعين حذوه لتتآزر التجارب الفنية وتكمل بعضها لإبراز اللون التهامي وإظهاره كما يجب".
يعمل آل سهل، مع عدد من الشعراء والعازفين والمثقفين في الحديدة، على مشروع "تهاميات"، وهو مشروع يتضمن عناوين أغانٍ كثيرة من الموروث التهامي. ويضيف الأهدل أن اهتمام هذه النخبة من مثقفي المحافظة الساحلية يعملون على تنوع اللحن والكلمة والإيقاع. وعن أغنية "المناصف"، قال إن الفكرة كانت ليحيى البكاري أثناء حديث المجموعة عن موسم جنْي "المناصف" (البلح)، وهو حدث اقتصادي مهمّ في تهامة. يقول الأهدل عن تنفيذ الفكرة: "بدأنا بالتنفيذ على وجه السرعة بالتزامن مع موسم "المناصف".
خرجت أغنية "المناصف" للجمهور في عيد الأضحى المنصرم (يوليو 2021). ويقول الفنان آل سهل في حديثه لـ"خيوط"، عن تجربته الفنية: "بدأت الغناء في سن العاشرة بعد أن تعلمت أصول الغناء، وتدربت على يد الراحل معلمي الأكبر أحمد تكرير، رحمه الله. لحنت أول قصيدة وغنيتها وأنا في الـ12 من عمري بعد أن اشترى لي والدي العود والأورج، وكنت أمتلك كمبيوترًا ومايكروفونًا لتسجيل المحاولات لعرضها على من هم أكبر وأخبر مني في المجال الفني؛ لكي أتعلم من أخطائي وأطور من قدراتي".
أما اهتمامه بالموروث التهامي، فبدأ "منذ سنوات طويلة من خلال جمع الأعمال الفنية من الموروث التهامي". ويتابع: "ثم جاءت مرحلة تطويري للون التهامي بعد لقائي بالأستاذ يحيى البكاري، حيث كان يحمل الهمّ نفسه؛ وهو إبراز الهُوية التهامية بشكل عام، والموروث التهامي الفني بشكل خاص، ويأتي هذا الاهتمام من واقع انتمائنا لتهامة، وقد نشأت فيها وحفظت تفاصيل تراثها وموروثها العظيم. ثم تم توزيع العمل بيننا، كلٌّ بحسب تخصصه، فقد استلمت جميع النواحي الفنية، واستلم الأستاذ يحيى البكاري، جميع النواحي الإدارية لما يمتلك من خبرة إدارية ورؤية استراتيجية للعمل، وبلا شك واجهتني صعوبات كثيرة في التنفيذ، نظرًا لإقامتي خارج البلد، والموروث التهامي يتميز بتفاصيل إيقاعية صغيرة، ومن الصعب أن أجد عازف إيقاع يجيد عزف الإيقاعات التهامية خارج اليمن". غير أنه يؤكد أنه تجاوز مع شركائه في هذا المشروع الكثير من الصعوبات؛ "لأن أمامنا هدف ورؤية واضحة".
يطمح الفنان عبدالله آل سهل أن تصل الأغنية التهامية "لجميع الأطياف في العالم"، لاعتقاده بأن كل من يسمعها يشعر بالطرب والفرح، وهو اعتقاد يشاركه فيه متذوقو الغناء على نطاق واسع، ممن يعرفون قيمة الموروث التهامي.