القرشي عبدالرحيم.. في خرائبه

نصوص في استعادة الشاعر من احتراقات المكان
نجيب مقبل
May 30, 2023

القرشي عبدالرحيم.. في خرائبه

نصوص في استعادة الشاعر من احتراقات المكان
نجيب مقبل
May 30, 2023

عندما اندلعت الحرب في شوارع عدن عام 2015، وغزوها بقصد الاستيلاء عليها، انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي منذ اليوم الأول لاندلاعها، صورة عمارة محترقة في مدينة كريتر. لم يكن أحد يعلم أنّ

هذه العمارة المحترقة والمدمرة تتوسطها شقة الشاعر الراحل القرشي عبدالرحيم سلام!

كان بيت الشاعر القرشي أول بيت يحترق بنيران هذه الحرب!

القرشي يومها كان غائبًا في موته، وربما هانئًا في رقدته الأبدية، أما (صفية) زوجته ورفيقة رحلته في الحياة فكانت هي الأخرى متغيبة، ولا ندري أغيابها كان بسبب بقائها في القرية (القريشة) التي حج إليها الشاعر كوداع أخير، ومات ورقد تحت ترابها بصورة مفاجئة يوم الأربعاء 5 أغسطس 1998، أم أنّها غادرت هي الأخرى إلى دار البقاء؟

احترقت الدار في غياب صاحبها الشاعر القرشي عبدالرحيم سلام.

لكنّ أشياءه وحضور المكان وشذرات الذكريات، وهي كضحية نيران الحرب المندلعة أوارها منذ أول أيامها حتى يومنا هذا بعد أن حُرّرت المدينة، وكل ما في المنزل المحترق، ظل علامة استثناء لحضور الشاعر ورهان بقائه في الوجدان الجمعي.

ثمة الكثير والغالي والعزيز ممّا احترق مع احتراق بيت الشاعر القرشي. 

أشياؤه، كرسيه الهزاز في الشرفة المطلة على تقاطع شارعي المتحف الحربي، ومكتبة باذيب الوطنية من الأمام، وفي الجانب شارع (الهريش) الذي تجاوره فيه صديقتنا الصحفية سلوى صنعاني، وثمة مكتبته التي كان يجلس فيها لكتابة أشعاره أو كتاباته، وربما لقراءة الكتب والصحف والمجلات، وفيها بقايا أوراقه وربما أشعاره التي كتبها ونشرها أو لم ينشرها، ومكتبة الكتب التي احتوت على ما قرأ وما لم يقرأ، وهنالك سرير النوم ومخدته القطنية ولحافه، وعلى الأرض صندله و...

ثمة أشياء كثيرة تركها الشاعر في شقته المتواضعة الجدران ذات الرواق الضيق والنوافذ المغلقة والشرفة (البلكونة) التي كانت موطن (ضحوته) و(عصريته)، وهو يتأمل الناس ذهابًا وإيابًا في حركتهم إلى سوق (البز) أو السوق الطويل أو مقهى زكو، أو شارع الزعفران.

ناس عدن الطيبون كانوا وجبة يومية لعينيه وقلبه، يتكاملان في الرؤية والتأمّل صباحًا (ضحى)، ومساء في (العصرية) وهو يحتسي كوب الشاي من يد زوجته الصابرة ورفيقة حياته (صفية).

كانت هذه الشقة، المحترقة في غيابه، تمثّل -حسبما نعلم من زياراتنا الدائمة لبيت الشاعر- بقعةً حميمة إلى روحه، هو مطبوع بحب جدرانها وأركانها، ولوعٌ بكل ما فيها، ومن حبه الجم لهذه الشقة قصة تروى!

فقد كان الشاعر من ضمن المحظوظين بطلوع اسمه في كشف وزارة الإسكان ضمن منتفعي شقق حي المعلا الجديد.

ولكنه بغرابة شديدة، كتب رسالة متواضعة إلى وزير الإسكان يومها يرفض فيه هذا العرض الذي يتمنّاه أيّ مواطن يومها، بالحصول على شقة مجانية من وزارة الإسكان، وسبب هذا الرفض القاطع كان الشرط الذي وضعته الوزارة بالتخلي عن شقة عمره مقابل الحصول على شقة مريحة في المشروع الجديد.

كان الشاعر قد اشتم من رائحة هذه الصفقة غير المعلنة بالخروج منها، أمرًا في نفس يعقوب، فهو لم يطلب يومًا شقة أخرى؛ فلماذا هذا العرض المحموم لإخراجه من شقة عمره الطويل بذكرياتها وأحلامها وربما ارتكاساتها، وأيامها البيضاء والسوداء، ما لم يفكر الطامعون بشقته والعمارة التي عليها بعقلية تجارية بحتة.

كان الشاعر القرشي غير مستعد لأن يضحّي بقطرة انتماء للشارع الذي يطل على الناس السابلة طوال يومهم العدني، ولا يحتاج لشقة عصرية وعريضة في مخنق أو كرتون خرساني! 

من يعرف القيمة المعنوية لهذه الشقة الوسطى في العمارة التي يخرج من تحتها أزكى أنواع العطور والبخور العدني سوى الشاعر القرشي!

عدوان حرب 2015، اختار -بقصد أو دون قصد- أن تحرق نيرانها بيتًا عدنيًّا هو بيت الشاعر القرشي عبدالرحيم سلام، في ظلّ غيابه الوجودي المادي، إلّا أنّ ثمة حضورًا معنويًّا مكانيًّا واعتباريًّا راسخًا في تاريخ المدينة رسوخ الذاكرة والتذكار.

لروحك السلام أيُّها القرشي النبيل، رغم الرماد والأطلال المحترقة التي دلت عليك باقيًا في وجداننا، ودلت على أنّ الحروب لا تقتل الشعراء العظماء، بل تصنع مجد بقائهم الأبدي فينا.

هذه النصوص استعادة للشاعر وهو يسجل أشياءه وأنفاسه وتاريخه المجيد بين أطلال الخراب:

      القرشي في خرائبه 

 القرشي.. عودة إلى برزخ منزله

-------------------

بعد عشرين ونيف من الرحيل

أكثر أو أقل قليلا

من عمر الغيابات

وسكوت ساعة الحائط عن نطق الأزمنة

          * * *

 بعد خشخشة صمت متأرجح

في المقعد الخشبي

في عصرية البلكونة المشرعة

على الشارع الطويل

وحفيف السابلة المنهمكين 

حين كان يبلغهم تحيته 

ويباشر ملاقاة سحنتهم المرهقة

منذ قبل هبوط الشمس إلى مرقدها

حتى آخر شفق مغربي

          * * *

بعد ذهاب (صفية) إلى جهة ما

إلى ما وراء جبال القريشة

ولما ينبت، بعد، رائحة أوبتها

أو تأتي ريح عدنية 

بأنباء عن ثبوت هلال رفيقة الدرب

       * * *

القرشي..

بعد سنوات رطبة من الهجوع

في (صلاة التراب)(1)

عاد إلى برزخ منزله

 ليقتات استعادة عودته

 من مقلاة حرب الأنصار 

يسعى بين حرائقها 

كي يلتمس قبسًا من ماء.

لا يدري كيف يحمي أوراقه المدعوكة

وكل ما بقي من صمت متفحم

في ركن بارد.

كيف ينزع ستائر الذاكرة

من جمرات قماش مهترئ.

(السماء لا تمطر نصرًا)(2)

في هذا البيت الذي قضى نحبه! 

         * * *

من رغائب القرشي المتأخرة

----------------

ما كان القرشي 

وهو يصافح حمأ شقته 

ليدرأ طيف حرائقها 

بأوراق الخوف وغبار الدهشة.

أو ينهض بكل أدواته السلمية

كي ينال في وجوده المباغت

ما نال الخليل من الأعجاز:

   "كوني بردًا وسلامًا على سطور قصيدي"

احترقت نجمته المتلألئة 

في عيني غرفة المكتبة

وفي الأرض السوداء

أوراق الذاكرة المبعثرة.

 في كبد النار

ثمة خطيئة مكتوبة بقلم غادر

التقمت ألسنة الهلع ما بقي 

من صمت الجدران

ونالت ثعابين النار

أقدام الكرسي المتحرك

المتفحم في ظلّ المقعد الشاغر 

     * * *

ما كان القرشي يرتجي 

من كأس نكبته

أن تلعب الجمرة برأس عودته،

لو أنّ مكانه الأخير 

في جذوة الهواء 

انطفأت أركانه 

من قطرة ماء شاعر.

      * * *

القرشي.. وحيدًا في منزله الأول

-------------------

القرشي في عودته الفادحة

اختار سلالم السرداب المعتم

كي يخطف آخر أوراق الشارع 

ويغادر من الطرف الآخر

كما كان نقيًّا 

في أبهى نصاعته.

خرج من باب السقر

كما خرج الخليل من الحمأ الناجز

وعلى مرأى الإخوة الأعداء

أمضى أوقاتًا ملتهبة

كظيمًا بلا مأوى مقدس

إلا من النجمة الحمراء

         * * *

ها أنت أيها الساعي إلى عتبة الدار

تكتب بأعواد سريرك المتفحم:

- من هنا مرّوا...

 غير مرغوبي الخطوات.

مدججة أقدامهم بالمشي الغليظ

وصقور أعينهم تغزو بجع الساحل

        * * *

لا يمكن لمنزلك الأول

أن يخفي في قلبك المحترق 

 سردية الدهماء:

 إنّ "نيرون" في عدن البهية 

 أتى على نفسه

 قبل أن يؤتى بخرائب من حمق التاريخ

وإنّ القرشي في ظِلّ فداحته

ما زال عدوًّا للأقدام الباغية

ولتاج الملك المخلوع

ولكل تنابلة الإيوان.

ما زال خفيفًا وطريفًا 

ومجاهدًا بالصمت النبيل

للبحر واللقلاق

والبيت القتيل.

وأنه

 القرشي في بهاءاته..

لا يأسى إلّا على صداقته

لنورس يخفق على جناحي ساحل البحر العربي.

           * * *

القرشي على طلل خرائبه 

---------------

أولئك..

الذين أتوا إلى بيته القريب

من أم المساكين

ودقوا بإسفين ضراوتهم باب الشقة 

اختاروا، دون غضاضة،

تلك الوردة المحمرة العينين

في جبين شرفة الأحلام(3).

ثم انتزعوا رائحة الشاعر التي ترقص في صحن الدار.

انتخبوا خطوات الموت المدجج

نحو حضوره الضئيل.

انساقوا وراء خط دخان المقذوف

ليخطّوا عنوان اقتحام مستعجل

في مدينة،

 تأبى قدوم الضيف الثقيل.

تلك جزماتهم تغشى الطرقات.. 

تلك بنادقهم تقنص الموت

فردًا..

     فردا..

 وعلى طلل خرائبه.. القرشي:

- أمنح قاتلي وردًا!(4)

           * * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

(1)، (2)، (3)، (4) عناوين دواوين للشاعر القرشي عبدالرحيم سلام.

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English