"تعز" في بعض الكتابات التاريخية المعاصرة (2-2)

تاريخ البياض الذي لم يطمسه سَمْل الأعين
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 30, 2021

"تعز" في بعض الكتابات التاريخية المعاصرة (2-2)

تاريخ البياض الذي لم يطمسه سَمْل الأعين
محمد عبدالوهاب الشيباني
December 30, 2021

ارتبط تاريخ مدينة تعز في العصر الوسيط بالدولة الرسولية (1229م-1454م/ 626-858هـ)، والتي قامت بعد زوال الحكم الأيوبي في اليمن، واتخذت الدولة الرسولية، منذ ملكها الثاني المظفر، تعز عاصمة لها. ينسب بعض المؤرخين الرسوليين إلى "جبلة ابن الأيهم الغساني"، في الوقت ذاته الذي ينفي البعض هذا النسب كما سنلحظ؛ وتسموا بالرسوليين حينما طغى لقب الرسول على جدهم محمد بن هارون الذي استقر في العراق وخدم في عهد أحد الخلفاء العباسيين، الذي اتخذه رسولًا له إلى مصر والشام بحكم دهائه ولباقته، قبل أن يستقر نهائيًّا في مصر ويموت هناك.

حينما حكم الأيوبيون مصر أدخلوا بعض أبناء الرسولي في خدمتهم، ولما جاء توران شاه إلى اليمن رافقه خمسة من الرسوليين، وكانوا من خاصته، ومنهم عمر بن علي رسول مؤسس الدولة الرسولية، الذي أنابه الملك المسعود يوسف بن الكامل -آخر الحكام الأيوبيين- واليًا على اليمن قبل سفره إلى مصر، فاستغل عمر بن علي وفاة المسعود بمكة لتقوية نفوذه في أعوام قليلة، ليعلن بعدها استقلاله باليمن متلقبًا بـ(المنصور) ومؤسسًا بذلك دولة بني رسول التي خلفت الحكم الأيوبي على كل اليمن من حضرموت حتى مكة، وفي ظلها عرفت البلاد فترة ازدهار علمي وأدبي ومعماري ميزها عن غيرها من الدول التي سبقتها. [ينظر الموسوعة اليمنية، ص1390، (الرسوليون)]، أما ولده المظفر يوسف بن عمر، الذي تولى الملك بعد مقتل أبيه على يد مماليكه في قصره بالجند، فقد انتقم من قتلته، كما تغلب على منافسيه، واستمال الأشراف (بني حمزة) في الشمال، وأعاد السيطرة على حضرموت وصنعاء وصولًا إلى الحجاز، وقد عُرف بالكرم وحسن السياسة، وكان له اهتمام كبير بالعلوم والآداب، فكتب في الطب والفلك. [الموسوعة، ص1391]. امتد حكم المظفر لقرابة خمسين عامًا (سبعة وأربعون عامًا، على وجه التحديد) فازدهرت تعز في عهده، وصارت إحدى المدن الرئيسية في المشرق، وفيها أنشأ الملك المظفر دارًا لسكّ العملة وضربها وأنشأ فيها عدة مدارس للعلم، فسنَّ بذلك أمام لاحقيه سنَّة الاهتمام بالمدارس والمساجد.

بقيت الدولة الرسولية، في مرحلتها الأولى، تدين بولائها لعاصمة الدولة الأيوبية (القاهرة)، وفي عهد الملك المظفر، بعث رسولًا للخليفة العباسي في بغداد يستمد منه شرعية أخرى، الذي سرعان ما استجاب لذلك، ويقال إن والده المؤسس أيضًا استمد من الخليفة العباسي (المستنصر ابن الظاهر) شرعية حينما وصل رسوله إلى جامع الجند وألبسه الخلعة الخليفية، وقرأ على الحاضرين المرسوم الذي يقول: "لقد تصدقت عليك باليمن، ووليتك إياه" [ينظر تاريخ اليمن، ص460]. 

يقول صاحب كتاب (تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربية)، محمد محمد المجاهد:

"إن أكثر ما يتبادر إلى الذهن إزاء مسلك الرسوليين في اللهاث وراء شرعية أخرى لولايتهم على اليمن من القاهرة مرة ومن بغداد ثانية يجعلهم أشبه بمستأجري أرض في عصرنا، يحاولون الحصول على وثائق استقرار في قطعة الأرض التي بحوزتهم من أطراف مختلفة تدعي ملكيتها (مُلّاك وأوقاف) حتى يرضى الجميع، وإن كان هناك ما يشبه الإجماع عند اليمنيين على محبتهم والرضاء عنهم، بالذات عندما أكدوا انحدارهم من أصول غسانية.

مثل كثير من دويلات التاريخ الوسيط في اليمن، أدى تفجر الصراعات داخل أسرة الحكم إلى تآكل الدولة رويدًا رويدًا حتى سقطت، ورافق هذا الانهيار التدريجي تحول الدولة من راعية علم وعمران وتوحيد إلى سلطة لسمل عيون المنافسين.

يختلف محمد يحيى الحداد صاحب كتاب (التاريخ العام لليمن) في بعض تفاصيل نشوء الدولة وملوكها، ومنها عد تأييديه لرواية الأصل العربي اليمني لنسب الرسوليين، بقوله:

"وأما أسرة بني رسول عمومًا فإنهم من التركمان -شعب تركي في بلاد التركستان والقوقاز بآسيا الصغرى- فيما هو معروف، ولكنهم لكي يُكسبوا حكمهم في اليمن الصفة الوطنية، أشاعوا في بداية حكم الملك المظفر (يوسف بن عمر بن علي رسول) ثاني ملوك بني رسول في اليمن أنهم من نسل (جبلة ابن الأيهم) آخر ملوك الغساسنة اليمنيين الذين نزحوا من اليمن بعد خراب سد مأرب وأقاموا لهم دولة على مشارف الشام، وأن أسلاف بني رسول نزحوا من الشام إلى التركمان، واختلطوا بقبائلهم وتعلموا لغتهم، وانقطعت أخبارهم عن العرب حتى نُسبوا إلى التركمان، ولا دليل يثبت هذا الادعاء الذي حاول الملك المظفر أن يدعمه في كتابه (طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب)، ولم يقنع الباحثين. [التاريخ العام لليمن المجلد الثاني، ص450 وما بعدها].

ومثل كثير من دويلات التاريخ الوسيط في اليمن، أدى تفجر الصراعات داخل أسرة الحكم إلى تأكل الدولة رويدًا رويدًا حتى سقطت، ورافق هذا الانهيار التدريجي تحول الدولة من راعية علم وعمران وتوحيد إلى سلطة ملك عضوض، لا يتورع فيه الملك من سمل عيون معارضيه على نحو الواقعة التي يثبتها المجاهد في غصنه النضير، والتي -حسب روايته- بدأت "مع أول الضحايا، وهو الأمير حسين ابن اسماعيل الأشرف عندما خرج على أخيه الملك الناصر أحمد فحاصره [الأخير] ثلاثة أيام في حصن تعز ثم قبضه قهرًا وأرسله إلى حص ثعبات، وأمر شقيقه الملك الظاهر أن يسمل عينيه هناك" [المجاهد، ص41].

هذه الحادثة، وما تراكم عليها، تتناقض كلية مع نزوع التسامح الكبير الذي كان يتحلى به مؤسس الدولة عمر بن علي رسول وخلفه الملك المظفر، وتروى عن الأخير قصة:

"المواجهة بين السلطان والإمام المهدي لدين الله، إبراهيم بن تاج الدين الذي أعلن نفسه إمامًا من ظفار عام 670هـ، فحدثت الحرب بينهما، وتمكنت جيوش المظفر من الإمام ووقع في الأسر، وعندما وصل إلى تعز وهو بهيئة غير حميدة، زجر السلطان رجاله وعنَّفهم واستقبل الإمام استقبال الملوك وتبادلا التهاني، هذا بالسلامة وذاك بالنصر، ثم ركب الإمام البغلة وسار إلى معقله في دار الأدب بحصن تعز، وظل هناك مكرم الجانب عزيز المقام حتى تُوفي بعد ثلاثة عشر سنة" [المجاهد، ص22 وما بعدها].

تراجع الدولة الرسولية ومعها عاصمة الدولة تعز، بدأ "منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي على إثر الحروب الداخلية التي وضعت نهاية لحكم الأسرة الرسولية سنة 1454م. فقد نَقَل سلاطين الطاهريين (حكموا من سنة 1454 إلى 1517م) العاصمة منها إلى المِقرانة، وعانت وصولَ جيوش المماليك سنة 1515م، واستولى عليها إمام زيدي سنة 1535م لتقع في النهاية في أيدي العثمانيين سنة 1546م. واستعادت تعز بفضل العثمانيين بعضًا من دورها السابق كعاصمة، حيث أصبحت مركزًا إداريًّا لـ«سنجق» يحمل اسمها، وحافظت على هذا الدور في عهد أئمة القاسميين الذين استعادوا السيطرة على اليمن سنة 1639م. وجعل منها الاحتلال العثماني الثاني (1872–1918م) عاصمة «متصرفية» ذات دخل مهم، وتشمل أراضيَ واسعة، وفقًا لما أكده سنة 1887م، دارس النباتات الفرنسي ألبير دوفلير Albert Deflers، الذي يقول: "تعز عاصمة متصرفية تمتد سلطتها على البلد الممتد بين منطقة الحديدة والمناطق المستقلة الممتدة إلى الشمال الشرقي لعدن. وتشمل أراضي المخا والشيخ سعيد التي تخلت فرنسا عنها حديثًا". [ينظر دراسة نهى صادق- المشار إليه].

الحديث عن مدينة تعز في العهد الرسولي لا يكتمل إلاَّ بتتبع الأثر المعماري الذي أحدثوه في المدينة، من مدارس ومساجد وقصور ودور ضيافة وقنوات توصيل مياه من الجبل إلى المدينة، غير أن القليل جدًّا بقي شاهدًا على تلك المرحلة، والإنجاز الذي أضافه العثمانيون وقت وجودهم الأول في اليمن صار جزءًا من إرث المدينة المعماري، وتقول نهى صادق:

"لقد بنى سلاطين الرسوليين عددًا كبيرًا من العمائر المدنية والدينية في تعز، إلا أن أيًّا من قصورهم أو مساكنهم لم يبقَ، وبخاصة بعد خراب حي المغربة حيث كان يوجد أغلبها، ولم يعد يُعرَف سوى أسمائها المذكورة في حوليات عصر بني رسول. ويشهد الوصف التفصيلي لقصر «المعقلي» في ثَعبات التي تقع على بعد ثلاثة كيلومترات شرق تعز، على غنى عمارته وزخارفه. وهكذا لم يعد بالإمكان قياس الجمال الفني لعمائر تعز الرسولية إلا من خلال ثلاثة آثار دينية متبقية.

كما نفَّذ الرسوليون أعمالًا معمارية كبيرة، وبخاصة قنوات تحت الأرض لتوصيل الماء من جبل صبر إلى المدينة، لخلوّ المدينة من الآبار. وهو ما سمح بإنشاء الحدائق والبساتين التي كان الرسوليون شغوفين بها. واشتهر ماء صبر بعُذُوبَته، كما لاحظه الرحالة الغربيون مثل دوفلير Deflers ومَنزوني Manzoni، وذكر الأخير أن ماء صبر «غزير وبارد وعذب وممتاز». وأنشأ العثمانيون مشاريع مياه تشمل قنوات لنقل مياه صبر إلى المدينة وتصريفها، كما أنشؤوا أسبلة وأحواض لشرب البهائم".

مسجد ومدرسة الأشرفية أجمل مباني المدينة القديمة وترمز إلى الدولة الرسولية. بنيت المدرسة ومسجدها في العام 880هـ في منحدر قلعة القاهرة السلطان الأشرف إسماعيل ابن العباس 

ويرصد صاحب الغصن النضير العديد من المعالم العمرانية الرسولية التي لم تزل قائمة حتى اليوم، ومنها المدرسة الأتابكية، التي تقع بين أكمة هزيم ونقيل الحقر جنوب وادي المعسل، وسميت بهذا الاسم نسبة لمنشئها الأمير سيف الدين الأتابك سُنقر، في العهد الأيوبي، وقد تكون هي المعلم الأيوبي الوحيد المتبقي من تلك الحقبة، ولكم تكمن قيمتها التاريخية بوجود العديد من الأضرحة بها، ومنها ضريح منشئها، وضريح مؤسس الدولة الرسولية عمر بن علي رسول، الذي كان قد تزوج ابنة الأتابك وأرملة الملك المسعود بن الكامل والمعروفة بابنة جوزة.

جامع المظفر، وهو المسجد الجامع في المدينة، وشيده الملك يوسف بن عمر بن علي رسول الملقب بالمظفر في سنوات حكمه الأولى. تعاقب الملوك والسلاطين في عهد الدولة الرسولية ولاحقًا الطاهرية، رافقها عمليات توسع وإضافات للجامع، ابتدأت مع الملك المجاهد الرسولي -أحد أشهر ملوك الدولة- والذي أضاف الجناح الغربي للمسجد بنفس النمط المعماري للمسجد الأصل؛ أما السلطان الطاهري عامر بن عبدالوهاب، فقد أمر، في إحدى زياراته لتعز، بنقض المسجد وإعادة بنائه وتوسعته ورفعه بطريقة أجمل.

مسجد ومدرسة الأشرفية أجمل مباني المدينة القديمة وترمز إليها. بنى المدرسة ومسجدها في العام 880هـ في منحدر قلعة القاهرة، السلطان الأشرف إسماعيل ابن العباس، وهذه العمارة البديعة لم تزل محتفظة بهيئتها التي بنيت عليها تمامًا بأبوابها (الشرقي والغربي والجنوبي) وأروقتها، وبطريقة المدرسة الأشرفية ذاتها، ابتنت زوج الأشرف الجهة الكريمة جهة الطواشي جمال الدين معتب بن عبدالله الأشرف، في منطقة الواسطى المدرسة الأنيقة بقبابها الصغيرة، وبدون مآذن. وعن مدرستي الأشرفية والمعتبية يرد في نص نهى صادق:

وفي عُدَينة توجد أيضًا مدرستا الأشرفية والمعتبية؛ الأولى ذات حجم كبير، بناها سنة 1400م السلطان الأشرف إسماعيل، في حين أسست الثانية سنة 1392م زوجته جِهة مُعتب. وكما في الجامع المظفر، تُغطّي قاعة الصلاة في كلٍّ منهما قباب ذات زخارف غنية بالأرابيسك والأشكال النباتية المتشابكة والهندسية والكتابية. ووصف نيبور الأشرفية بأنها «جامع كبير يوجد تحته أقبية تستخدم مخازن للقمح». الأشرفية هي الوحيدة التي لها مئذنتان مبنيتان بأسلوب فريد في اليمن، لكل منهما قاعدة مربعة تعلوها قاعدة أخرى ذات ثمانية أضلاع. وتدل الصور المأخوذة سنة 1937م لمئذنة الجامع المظفر التي انهارت سنة 1962م، ولإحدى مئذنتي المدرسة الظاهرية التي اندثرت أيضًا، على أن تلك المآذن كانت مماثلة لمآذن الأشرفية.

صاحب كتاب "تعز فرادة المكان وعظمة التاريخ" رصد قرابة خمسٍ وثلاثين مدرسة بمواضعها على حيي المدينة الرئيسيين (ذي عُدينة والمغربة)، وقد "تضمنت مناهج هذه المدارس مختلف العلوم الشرعية واللغوية والأدبية، إضافة إلى علم الفلك والطب والحساب والمنطق، [ولهذا] كانت تعز في عهد الدولة الرسولية مقصدًا للعلماء من جميع الأقطار الإسلامية" (ص 133-134).   

مصادر ومراجع المادة:

(1) "تعز غصن نظير في دوحة التاريخ العربي"، محمد بن محمد المجاهد، المعمل الفني للطباعة - تعز، ط1، 1997.

(2) "تعز فرادة المكان وعظمة التاريخ"، فيصل سعيد فارع، مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة تعز، ط1، 2012.

(3) "مدينة تعز قبل الجمهورية"، نُهى صادق، ترجمة: علي محمد زيد، مجلة الفيصل، 1 نوفمبر، 2019.‬‬‬‬

(4) "الموسوعة اليمنية"- الجزء الثاني، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، الطبعة الثانية، يناير 2003.

(5) "التاريخ العام لليمن"– المجلد الثاني، وزارة الثقافة اليمنية- إصدارات تريم عاصمة الثقافة الإسلامية 2010.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English