(عدن – تعز) في القراءات وخارجها

مدينتان مستعادتان بالشغف والدهشة
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 13, 2022

(عدن – تعز) في القراءات وخارجها

مدينتان مستعادتان بالشغف والدهشة
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 13, 2022

في بداياتي الشعرية كتبتُ نصًّا عن مدينة عدن، ولم يزل هذا النص، وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، مِن أحب ما كتبت، وبقيَت التفاصيل التي ألتفتُ إليها، في الوجوه والأمكنة والروائح والأصوات، تشدني إلى اكتشاف المزيد منها في كل رحلة، كنت أقوم بها، إلى المدينة الأحب إلى القلب، والتي بدأت علاقتي بها وأنا طفل في السادسة في شتاء العام 1972.

وبالمقابل، حينما حاولت استعادة بعض التفاصيل من رحلة الأيام الباكرة، كتبت سلسلة طويلة أسميتُها "الوقت بخطوات عجولة". كانت مدينة تعز هي الفاعل الأول في الكتابة، التي تحسست المكان والوجوه والتجارب البسيطة التي أعادت رسم شخصيتي ابتداء من منتصف سبعينيات القرن العشرين المنقضي.

هاتان المدينتان الاستثنائيتان صارتا بفعل الكتابة المستمرة في تفاصيلهما ملمومتين في كتابين منفصلين، أتحين الفرصة فقط لإصدارهما بالتتابع. كتابان ينفتحان على إرث المكان ومبذولاته كما ثبُتت في التذكُّر مما عايشت، وكما استخلصتهما من كتابات ومشاهدات غيري تاريخًا وسردًا وفوتوغرافيا، سواء بالقراءات والتعليقات، أو بالعروض والشروح.

فعدن، في هذ الكتاب، هي تلك الصورة التي تشكلت كدهشة كبيرة عند كثير من كتاب المذكرات من سياسيين ومثقفين وأدباء، وكيف كانت صانعة التحول في وعيهم، ومن تلك المذكرات علقت في ثلاث حلقات متتالية هنا في منصة "خيوط" على ما ورد عنها في استعادات: جار الله عمر، ومحسن العيني، وعبدالله سالم باوزير، وعبدالله جزيلان، وأحمد قائد بركات، وحسن مكي، وأحمد الصائدي وعلوان الشيباني، وحسين السفاري، وغيرهم. وهي المبحرة في التاريخ المدهش الذي تعقبه الراحل الكبير عبدالله محيرز. فمن "قلعة صيرة" و"صهاريج الطويلة" و"باب عدن" سيتمدد تاريخ المدينة سهلًا طيعًا، خارجًا من بطون الكتب ومخطوطات المؤرخين ومدونات الرحالة، بفطرة لا يمتلكها سوى عاشق مثل محيرز الذي ذرع جبالها ووديانها مشيًا على القدمين، حين كان طالبًا يلتمس الهدوء والسكينة في "أبو الوادي" أو عند "معجلين" أو في "رأس معاشيق" وحتى بلغ مبلغ الشباب فانحدرت به خطواته نحو الأودية غير المأهولة في "جولد مور"  أو سار متتبعًا آثار الوادي الكبير في "الحسوة" و"رباك " أو في "العماد" و"الشيخ عثمان" وحين اجتاز مصبات الأودية عند البحر، راح يتتبع اتجاه الماء القادم من الشمال فعبر الضالع متجها إلى (قعطبة) على ظهر حمار كان دليله الوحيد لعبور الطريق من الجنوب إلى الشمال، حينما كانت الحدود الوهمية مصطنعة بفعل السياسة.

عدن هي الخربشات على جبلِها الأشمّ شمسان التي أحدثتها أصابع هشام علي بن علي وهو يكتب عن قصة البر والبحر ومجازات الشكل، وهي طاولة لعب الورق في شارع عام، ابتدعها ثلة من أبنائها، في مدينة صنعاء؛ طاولة تعيد صياغة المرح في الشارع المتجهم. وهي الثلاثون مترًا في شارع خلفي في قلب العاصمة حيث تتكثف عدن في رائحة المطبوخات والتمبل والشاهي الملبَّن والخمير. هي الخلاصة للمدينة الكوسوموبولتية في روايات علي المقري وأحمد زين. هي بذرة التنوير الباكرة في اليمن عند محمد علي لقمان المحامي، وهي تاريخ الصحافة والأحزاب وحراك النقابات، وهي الوعاء الصاهر للإثنيات والأعراق والأديان... وهي أزقة وشوارع مدينتها العتيقة (كريتر) وأسواقها التي ظهرت مفصلة في استرجاعات حسين السفاري لفترة الخمسينيات حينما وثبت وثبتها الكبرى كميناء وممر للتزود بالوقود، وهي صوت الأغاني والموسيقى المنبعثة من مبارز القات، وتاليًا من المسارح في الشيخ وكريتر، قبل أن تنتقل إلى أثير إذاعة عدن التي كانت إحدى عناوين المدينة في حضورها المديني منذ أغسطس 1954. هي عديد السينمات (ريجل، شاهيناز، مستر حمود، بلقيس، الشعبية، الأهلية وغيرها) التي كانت تخاطب التعدد الثقافي في المدينة. هي مغامرات العدنيات الرائدات في خشبة المسرح ووراء الميكرفون. وهي أيضًا عنوانٌ لمغامرات الساسة وتنازعات الفصائل والمناطق وأيديولوجيا البداوة المستجلبة من خارجها، التي حوَّلت المدينة الوادعة في أكثر من دورة دم، إلى جحيم مضاعف لذلك الجحيم الذي رآه في أواخر القرن التاسع عشر الشاعر الفرنسي الإشكالي آرثر رامبو، الذي جاء إليها مغامرًا، فصار تاجر سلاح وعبيد متنقلًا بينها وبين بر الدناكل في الضفة الغربية للبحر الأحمر وخليج عدن.

• الرواية الرسمية عن المستعمرة عدن تكثفت، من مجمل هذه القراءات والمطالعات، ومنها تلك التي قدمها السير (توم هيكنبوثام) المندوب السامي البريطاني في عدن خلال الفترة من 1951-1956

عدن هي الجمعيات والأندية القروية التي استطاعت تحويل الريفيين الفقراء إلى عناوين كبيرة داخل سردية اليمن المعاصر. هذه الأندية والجمعيات والاتحادات بأنظمتها الداخلية وأهدافها وأسماء مؤسسيها يمكن الاستدلال عليها من كتاب أعده الموثق والباحث الدؤوب الدكتور يحيى قاسم سهل، تحت عنوان (المجتمع المدني في عدن 1839-1967).

وهي كتاب الباحث والمترجم بلال غلام حسين المسمى (زوايا من تاريخ ولاية عدن)، والذي تتبع فيه بالصور النادرة والكتابة المكثفة أهم مفاصل تاريخ المستعمرة الإنجليزية السابقة، منذ وطئت أقدام المحتلين برها في يناير 1839 حتى مغادرتهم لها في آخر أيام نوفمبر 1967.

وهي الترجمة الأنيقة لمحمد محسن محمد العمري لكتاب البريطاني (ر.ججافن) "عدن تحت الحكم البريطاني"، الذي يعد من أخطر الكتب في تحليل الظاهرة الاستعمارية لعدن خلال مئة وثمانية وعشرين عامًا.

الرواية الرسمية عن المستعمرة عدن تكثفت، من مجمل هذه القراءات والمطالعات، في تلك التي قدمها السير (توم هيكنبوثام) المندوب السامي البريطاني في عدن خلال الفترة من 1951-1956م، والذي ترافق وجوده خلال تلك الفترة في النهضة الكبيرة التي شهدتها المدينة بدءًا من مطلع الخمسينيات، ولهذا سيبدو هذا المندوب من وجهة نظر مترجمة كتابه المسمى (عدن) هو باني نهضتها، "ففي عهده تم إنشاء المصافي، وبناء مدن خورمكسر والمعلا والقلوعة، وبناء مستشفى الملكة، وتوسعة ميناء عدن".

مقابل عدن، تحضر مدينة تعز هي الأخرى في هذه السردية المكانية، ليس فقط من خلال تاريخ نشوئها الذي تتبعته المصادر التاريخية المختلفة، والتي اتفقت جميعها على أن الصليحيين في تأسيسهم الباكر لدولتهم الإسماعيلية الموحدة، أنشؤُوا حصنها التاريخي وقلعتها، حينما كان المكان غير مسكون.

أُطلق على الحصن، الذي لم يكن للجبل الذي بُني عليه اسمٌ متداول ومعروف، اسم (تَعِّزُ)، في اشتقاق لغوي جميل، بصيغة الفعل المضارع، وتاء مثناة مفتوحة بعدها عين مهملة مكسورة ثم زايٌ مفردة مشددة، فقد شاع في المنطقة العربية كلها في ذلك الوقت اتخاذ أسماء لمواقع تستحدث من لغة خصبة واهبة حتى في أفعالها كما أشار المجاهد. أما التمثيل الأقرب لحالة الاشتقاق اللغوي من صيغ المضارع لتسمية المواضع في ذلك الوقت، فقد كان في قرار الخليفة العباس المعتصم بتسمية الموضع الذي اختاره عاصمة لحكمه بدلًا عن بغداد (سُرَّ من رأى)، والذي اختصر مع الزمن حتى صار (سامراء)، وهي مدينة معروفة حتى اليوم في العراق. كما يقول محمد بن محمد المجاهد في كتابه ( تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي).

وهي المدينة التي ستقترن بالحقبة الرسولية، حيث ستصير مدينة للعلم والتجارة معًا، ولم تزل معالم تلك الحقبة ماثلة حتى اليوم في جامع المظفر ومدرسة ومسجد الأشرفية، والمدرسة المعتبية، والمدرسة الأتابكية، وستستوعب تاليًا الحقبة الطاهرية، والاحتلال التركي الأول، الذي سيخلف هو الآخر بعض المعالم العمرانية التي صمد بعضها طويلًا مثل بعض السماسر والتكايا والأبواب التي تجددت في ذلك العهد البعيد.

كتبت قبل سنوات عن الديون الكبيرة والكثيرة التي راكمتها مدينة تعز في رقبتي، والتي لا يمكن حصرها. أما دهشة الاكتشاف هي أكثرها لمعانًا في ذاكرتي؛ لأنها الأكثر ثقلًا في هذه الديون. فمنذ أتيتها طفلًا في الثامنة في العام 1974، وهي تحفر بداخلي سيرتها في الأشياء والناس، ومنذ سنوات طويلة وهي تستنهض عندي، وفي كل حين، رغبة الكتابة كلما خطر ببالي خاطر وجه أو معلم، أو واقعة لم تمح من لوح التذكر في هذه السيرة، الذي صار مع الأيام لحظة استرجاع مشهدية متقدة وطويلة، لم تطفئها رمال العمر، أو مياه التهالك التي يصبُّها الخراب في الروح.

• يتكون سوق «الشنيني»، الواقع شمال جامع المظفر بتعز، من بعض الأزقة داخل السور، ويمتد شارعه الرئيس بين الباب الكبير وباب موسى، وموقع السوق بالقرب من الجامع يؤكِّد قِدَمَهُ

استعدتها، في خطوات الوقت العجولة، من خلال السوق المركزي وناسه وطقوسه، ومن خلال مدرسة الثورة الابتدائية (الأحمدية سابقًا)، وشارع 26 سبتمبر، وحلويات بور سعيد وياسين، وسينما بلقيس، ونادي الطليعة، ومكتبة الوعي الثوري، ومدرسة تحفيظ القرآن. وحواري الضبوعة والأصنج. استعدتها من خلال شاهي صالح ماوية والخطاط شكري ومطعم شمسان المعمري، ودكان الحاج سعيد عمرو الذي عمل به والدي. استعدتها من خلال خالي عبدالله وأصدقائه في البنك اليمني. أما البائعات الصبريات بملابسهن الشعبية المحببة كن أكثر طراوة في هذه الاستعادات المحببة.

قبل سنوات طويلة، وقعت عيني على صورة للمرحوم "غالب مخسو" ومقهاه المشهور في الجحملية بعدسة أروى عبده عثمان، فتذكرت تعز المتنوعة. تذكرت الجحملية بخصوصيتها الثقافية، تذكرت، من الصورة، تحضيره للبن المحلَّب والشاهي المفوَّر بالطريقة ذاتها التي يُصنع بها في مقاهي صنعاء العتيقة بـ(الدافور السويدي) أو مواقد الجمر. تذكرت (البِرْعي) الذي يحضَّر، من البازيلا، في المنازل القريبة من المقهى بالطريقة ذاتها صناعته بباب اليمن، أو باب السبح. تذكرت (الكُدَم) الساخن الذي كان يُستجلب من فرن العسكر القريب. تذكرت طرمبة الجحملية (بلح الشام) التي لا تتشابه، بطعمها، بما يصنع بغيرها في مدن ومناطق اليمن.

تذكرت اللهجة الهجينة التي تشكلت في هذا الحي من لهجات محليَّة متعددة. تذكرت النادي الأهلي وجمهوره المتعصب. تذكرت البساتين التي كانت تحوط المنازل القديمة في أطرافها، وكانت ذات وقت جزءًا من (ثعبات) التاريخية التي شاد فيها الرسوليون قصورهم وحدائقهم؛ تذكرت الصورة الإشكالية التي كانت تُرسم عن الحي المختلف في الوعي التجزيئي.

وحين وجدت في أرشيفي صورة لعلي ناجي (علي مدرة) تذكرت المدينة القديمة بمعالمها الرسولية ولهجتها الخاصة وتذكرت الزي الذي "يتقيف" به رجالها المسنون، وحين تتذكر علي ناجي  يعني أنك ستتذكر تحضيره للفول بالطريقة التقليدية القديمة التي تجتذب إليها عشرات المفتونين بهذه الطبخة.

تذكرت (مقهى الشُّعبي) في سوق الطعام، وتذكرت المخابز الشعبية التي تصنع (خبز الملوّح) المختلف. تذكرت باب المخلولة وبائعي الجبن البلدي والتمر، وتذكرت سوق الشنيني ببضائعه الريفية التقليدية، والذي قالت عنه نهى صادق:

"يتكون السوق الحالي، المعروف بسوق «الشنيني»، الواقع شمال جامع المظفر، من بعض الأزقة داخل السور. ويمتد شارعه الرئيس بين الباب الكبير وباب موسى. وموقع السوق بالقرب من الجامع الكبير (جامع المظفر) يؤكِّد قِدَمَهُ، وهذا من سمات المدن الإسلامية حيث تكون الأسواق قريبة من الجامع الكبير، ومن المحتمل أن اسم السوق ينتسب إلى اسم الفقيه أحمد بن عبدالله الشنيني (تُوفي سنة 1418م)، الذي تولى منصب خطيب الجامع الكبير، وهو ما يعزز من انتمائه زمنيًّا إلى العصر الرسولي".

تعز التي تستعاد هي: هاشم علي عبدالله، أحد أعظم فناني اليمن في القرن العشرين، الذي أحبها كما لم يحبها غيره من أبنائها وغير أبنائها. هي الشاعر الراحل محمد الفتيح بكل عنفوانه وتمرده الشعري، هي مهرجانات السعيد التي كانت تجمع كل اليمن في أواخر أبريل من كل عام.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English