"سُقَمة حارات".. الكتابة داخل المدون الشعبي ومشافهاته

المنصوص الشعري والأمثال الجارية أعمدة في مدماك القص
محمد عبدالوهاب الشيباني
April 25, 2022

"سُقَمة حارات".. الكتابة داخل المدون الشعبي ومشافهاته

المنصوص الشعري والأمثال الجارية أعمدة في مدماك القص
محمد عبدالوهاب الشيباني
April 25, 2022

اشتغالات عبدالفتاح عبدالولي القصصية -فيما هو متوفر أمامنا من نصوص- تنفتح كثيرًا على المحكي الشعبي وتمثيلاته المنصوصة في الحكايات والمشافهات التي لم تزل تنشط داخل المخيال الشعبي في مجتمع القرية وثقافته الأسطورية. النموذج المكتمل لهذه المقاربة سيكون في بعض قصص مجموعة (سُقمة حارات) التي أصدرها الكاتب قبل خمس وعشرين سنة (اتحاد الكتاب العرب بدمشق/ 1997)، ولم يصدر بعدها شيئًا، مكتفيًا بها، وبمجموعة أخرى عنونها بـ(البشارة)، أصدرها في العام 1985م.

(**)

"حارات" هي المنطقة التي ينتمي إليها الكاتب ومتعينة جغرافيًّا في نواحي عزلة الأعبوس في ريف تعز الجنوبي، أما سُقَمتها "شجرة الجميز" فتصير في النص التمثيل القوي للحكاية الشعبية بأبعادها الأسطورية التي أنتجها المخيال الشعبي: فهي "موجودة منذ عهد جدهم الأول ريحان العظيم الذي -كما يزعمون- ذكَر تاريخ ميلادها في ملحمته الطويلة التي كانت أجيال القرية السابقة تتناقلها شفاهة أبًا عن جد، ولم يفكر أيٌّ منهم بتدوين كلماتها؛ لذلك فقد انمحت معظم أبياتها من ذاكرة القرية التي أصيبت بالغيبوبة وفقدان الإحساس بالزمن في القرون الماضية"، ص59.

وحدها قمر –الطالبة الجميلة والذكية- لم تزل تحفظ ما كتبه جدّ سكان القرية في ملحمته:

"عند ملتقى الرياح التي تهبُ من كل اتجاه/ برأس الأكمة حيث يسطع النور/ تقف سُقَمة عمرية كأنها الحكمة/ ترصد السحب والمواسم والوجوه/ التي تمرق أمامها كاللمحة/ لا تتحسر على ماضٍ فات/ ولا يصيبها الحاضر بالإغماء/ في نُجُب جذورها / تدفن النذور والتمائم/ وتحت ظلها تعقد المواثيق/ وتقام طقوس الماء والنار/ الحصاد والسفاد والبذار/ لحاؤها دواء لكل علة/ وفي ثمارها السر كله"، ص60. 

الطالبة ستصطفيها الشجرة في آخر يوم دراسي، وبعد أن أدّى طلاب المدرسة طوافهم الأخير تحتها، لترى ما لا يُرى من تاريخ القرية؛ لأنها نجحت في امتحان الصبر، كما قال (عود الحنَّاء) في جدله الطويل مع قمر بعد عودته من رحلة الحنين التي تفرضها عليه مهنة قص الآثار.

(**)

"عود الحنَّاء" شخصية مركزية في ثلاثة نصوص، على الأقل، في المجموعة تشير إلى القرية وثقافتها الشعبية، أما عن التصاق تسمية عود الحنَّاء به فتعود إلى قيامه بنحت تكوين جمالي بديع من جذع شجرة حناء اقتلعها أحد سكان القرية؛ لأنها هددت أساس بيته، كما زعم. يصفه الراوي بـ"الأحذق وسريع البديهة، ومطلق الألحان العذبة وصاحب الحُنجرة الذهبية. يحفظ كل مهاجل مواسم الزراعة، ولديه قدرة فائقة على تقليد الأصوات، وأصابع تبدع النحت والرسم". أطلق عليه فقيه القرية لقبًا طويلًا "أبو الأفكار الخادعُ المكار"، والذي يعتقد أن الشيطان تدرَّع به يوم مولده بعد مغرب السابع من صفر، لهذا فإبليس يعلمه الطلاسم والحيل ويحشوا مخَّه بالأسئلة التي لا يستطيع المفتي الرد عليها لغرابتها، وأنه بعينيه الحولاوين يرى ما لا يُرى. هاتان العينان أول ما حدقت بهما قمر توهجتا كمرايا النسر فرأت قريتها مكبرة. رأت الدُّور، الناس والبهائم، قلائد المدرجات الزراعية الخضراء، خيوط الكهرباء والهوائيات، دخان فضي ينفذ من فتحات المطابخ ويتوه في الفضاء الواسع. الصور واضحة وملوَّنة، قريبة حتى إنه يمكن للأنامل لمسها"، ص73. 

في نص (القُبلة)، وحالما أناخت الغمام إبلها في قرية الصفافة، خرج الأطفال يطاردون الحمائم الصغيرة في الطريق، وبين الزرع، كل من يظفر بفتاة ينال قبلة طازجة على الخد، تحت جنح الضباب الكثيف. وحده بقي عود الحناء يجري أينما اتفق، انصبّ كل همه في الحصول على خدٍّ يطبع عليه قبلة الغمام، أي خدٍّ، حتى ولو كان خد عجوز، وأثناء هيامه بين الضباب مر بجانبه كائن بسرعة ظنه إحدى الفتيات التي ستختبئ بين الزروع بانتظار أحدهم، غير أنه اكتشف أن الكائن هو الثعلب الذي قضى على دجاج القرية، وكانت بين فكيه لم تزل حية دجاجةُ رباب السمينة. استوقف الثعلب بصوت مقلد لثعلب آخر، وحين اكتشف حيلته أراد الهروب، غير أن حجرة حادة أطلقها عود الحناء أصابته بمقتل، فجرى مع دجاجة رباب إلى أمام منزلها وأطلق الدجاجة وعلّق الثعلب على شجرة الحناء قرب الدار، قبل أن يقوم بتقليد صوت زوج رباب وكأنه عائد من هجرته الطويلة، ففزت من نومها مذعورة مثل بقرة شغوف، "وقبل أن تصل إلى باب الدار لتفتحه داست على روث بقرتها، فانزلقت، والتوت رجلها، سيل دافق من النجوم اللوامع استطار في كل الأنحاء.. ثم همد كل شيء"، ص9.

في نص (سُقمة حارات) يصير عود الحنَّاء الرائي الأكبر ومترجم استبصارات الشجرة في الأحوال والأهوال. "كان هناك بين الفروع الخضراء، واسع العينين بحوَل واضح، في عنقه طوق نوراني متزرًا بإزار بنفسجي، وفيه من كل عناصر الأرض لون..."، ص63.

(**) 

الصفَافة (تسمية شعبية لنوع من أنواع الفراشات)، وهي في المجموعة اسم للقرية المتخيلة التي اشتغل عليها الكاتب بعناية لتبدو وكأنها مكان متجسد جغرافيًّا، وهي إلى جانب كونها مكانًا في متن النص هي أيضًا الفراشة الوردية التي تصل (عود الحنّاء) بعوالمه الماورائية والتي صعد على ظهرها إلى ظهر الكوكب -سعد مطر- لجلب النامة التي تجلب المطر. وهي التي جاءت من وادي حمامة أو رأس جبل شوكة ملبية نداءه حين تركبه الهلع، وهو في كيس النوم وقت سماعه لعزف الجن داخل شقوق الجبل. دخلت من سُجَّارة الغرفة التي ينام بها وجاءت حاملة جُبح عسل النوب الذي يتضوع برائحة أريج زهر "العِلب"، فأدخل أصبعه فيه ولعق ما لعق بها من عسل، وفي التو ارتفعت درجة حرارة جسده، وفرت وطاويط الخوف. 

"لقد حمتك الصفافة الوردية من الأرواح الشريرة ومن العرجاء ذات الأنياب الزرقاء التي كانت تحاول الدخول إلى غرفتك لمص الدم من رقبتك لأنك لم تنم مبكرًا"، ص35.

(**)

عُرِف عن عبدالفتاح ولعه الشديد بتتبع الحكاية الشعبية ومسنوداتها من أشعار وأمثال وحكم، وصار توظيف بعضها في نصوص سردية جديدة ملمحًا في تجربته، وتُختزل في مجموعة (سُقَمة حارات) بشكل واضح في نص (لولا)، إذ يصير المنصوص الشعري والأمثال الجارية أعمدة في مدماك القص.

يبدأ توظيف المهجل الشعبي (شعر عامي يكتب بتقنية عروضية خاصة) من استيقاظ لولا من النوم وذهابها لإطعام وحلب بقرتها (ربيعه). فبعد تمسيدها لظهر البقرة تنشد لولا بصوت مسموع: "يا صباح الخير، ويا لله اليوم.. هذي ربيعه قامت من النوم"، أحست البقرة بماء السعادة يجري في بدنها، ولحست خد لولا المجدور ونشَّت الذباب بذيلها.

عندما ندش الضوء شعره الفضي في صباح لولا الباكر وهي في الحقل، قالت: "أضوا الصباح والعابدين قاموا.. والعاشقين لمُّوا الصدور وناموا".

حينما رأت الطيور وهي تخترق الفضاء بريش أجنحتها المدهونة بعسل (دوعن)، وكان العسل يتقطر من مهابل السحب الداكنة، قالت: "الطائر الأخضر أين رواحه؟! هاتوا الدَّواة شاكتب على جناحه خطاب غرام". وفي الوقت ذاته سمعت امرأة من سقف دار في القرية تنشد: "يا ديك يا صيَّاح، ليتك مذبوح، صحيتني من جنب مُرْعِش الروح"، وحين ظنت أنّ (مدهشًا) يريدها زوجة له، غنت لتكيد نساء القرية: "مدهش تمناني غزال رديني... واني تمنيته كُحُل بعيني"، وغنت وهي تعزق الأرض: "دنى عليك الليل يا زارع العنب، يا خاتم الفضة، ويا مجلى الذهب أو شوقتني بالمواهاة يا بتول.. شوقت قلبي للمحاجين والسَّبول".

بعد أن قرصتها حيَّة رقطاء، وهي تعزق الأرض، اعترتها نوبة ضحك هستيرية، نكست رأسها إلى صدرها كي تعيد الهوك إلى موضعه. من خلال فتحة الصدر رأت نهديها يسبحان بين حبات العرق، فتذكرت قول المغنَّي: "اثنين كعوب رب السماء حماهم.. تفاح وليم يا سُعْد من جناهم".

توظيف بعض الأبيات المغناة يمكن للمتلقي ملاحظته على نحو ما يرد في أغنية الفنان عبدالباسط عبسي، كتب كلماتها الشاعر د.سلطان الصريمي:

"أحبِّك قُلتها/ من قلب عاشق، وفي حبك للأذنين غارق"، كان يؤديها راعي غنم وحملتها الريح عذبة ودافئة لتصل إلى أذني قمر، وهي تبصر أحوال القرية في مرآة الزمن بالقرب من السُّقمة.

(**)

 قارئ مجموعة (سُقَمة حارات) ستستوقفه بكل تأكيد اللغة الشعرية العالية في بناء الجملة السردية وتفصيل صورها، إلى جانب توظيف النص الشعري ذاته في المتن الحكائي أو في استهلالاته. لغةٌ تحيل إلى خبرة أديب في إنتاج الدلالة البليغة من لغة شعرية مقتصدة وذكية، على نحو هذه القصيدة الشعبية التي صِيغت بذات هدهدات النوم للأطفال أو مَوَاهَات الفلاحين في الحقول:

(جوهرة ما أجملك/ طيور غبش تحملك/ تحملك في الجفون/ في البحار تغسلك/ تغسلك باللبن/ اللبن يشعلك/ وينير البدن/ وجنتك لؤلؤة/ لؤلؤة نادرة/ من لآلي عدن)، ص14، من نص "جوهرة".

أو هذه القصيدة اللمعة شديدة الدلالة:

"عندما يأتي المساء/ تنطفئ عوسجة الدم/ وتذبل نجمة الأعصاب/ عندما يحل الليل يستيقظ (الطاهش)/ في شوارع المدن الهرمة"، ص53، مدخل نص "المعركة".

"إذا جنَّ الليل نتدثر بجلودنا.. في الليالي الباردة، نستمد الدفء من أنفاس المساجد التي ننام لصقها"، ص19، من نص (المجانين).

النقش السبئي القديم الذي فككت رموزه وصار مقروءًا شعريًّا يُستحضر هنا على لسان (عود الحنَّاء) حين أطلق زفرته، وهو يرسل نظرات شاردة إلى القرية:

(أَلِنُ الجبَّار/ ينظر إليكم/ بعين الرضا/ يتحنَّنُ عليكم يا فرسان/ قدمتم أرواحكم قرابين للعزَّة/ وعجلّتم بزيارته/ قوِّسي لهم ظهرك يا سماء/ ويا أرض اركعي/ إنَّا لنلمحُ في باطنكِ براكينا).

غير النصوص الشعرية المباشرة تتبدى الصور الشعرية الخاطفة في متن الوحدات الحكائية، مثل منمنمات دقيقة شديدة الإبهار والتي لا يمكن عزلها عن منسوج النص. وهو يصف حال نهدَي لولا بعد أن تلَبستها الحمَّى وبللها العرق أثر قرصها من حيَّة سامة في الحقل: 

"كانا يرتقلان كعصفورين تبللا بماء المطر وكانا جائعين من الخوف، ألقمتهما أصابعها ونفخت جمراتهما حتى اشتعلا.. اشتعلت الحمى في جسدها. تقيأت على قميصها وارتعشت كرايةٍ ممزقة القماش وبدأت تصرخ وتمزق ثيابها وتأكل نباتات الزرع وتعبث بأعضائها، وتتلوى كتلك الحية الرقطاء التي قرصتها قبل قليل"، ص44، نص (لولا).

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English