سعدي يوسف العدني (1)

بعيدًا عن السماء الأولى، تحت سقف سماء يوتوبيا عدن
نجيب مقبل
June 28, 2021

سعدي يوسف العدني (1)

بعيدًا عن السماء الأولى، تحت سقف سماء يوتوبيا عدن
نجيب مقبل
June 28, 2021

لا يدور الحديث عن الشاعر الراحل الكبير سعدي يوسف إلا بمقدار ما يكون الحديث مخصوصًا عن المنافي التي مرت في حياته، والمدن التي استوطنت حياته وصاغت ملاحمه الشعرية وأثرت في صياغته ورؤاه وتيمات واستلهامات قصائده طوال أكثر من خمسة عقود من المنفى القهري.

بعيدًا عن السماء الأولى (1) سماء البصرة حيث المولد والتلاقي والتلقي مع الأوليات من نبع الحياة وطراوة اللقاء مع الشاعر الأيقونة بدر شاكر السياب، وامتداد هذه السماء الأولى إلى بغداد: الجواهري ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري، ومن تحت سقف هذه السماء الأولى امتدت رحلة الشاعر الشقي والمناضل إلى سماوات مدن لا تعد: الكويت، بيروت، الجزائر، عدن، دمشق، الجزائر، الرباط بلغراد، نيقوسيا، باريس ولندن.

وتحت سماء عدن، كانت ثمة ظلال يوتوبيا ثورية وجدها الشاعر سعدي يوسف في عيون نخبة سياسية مثقفة من نخب الحزب الاشتراكي وجلهم من بقايا نخبة حزب الشعب التقدمي الذي كان رائده المفكر اليساري الراحل عبدالله باذيب، ومن هذه النخبة: أحمد سعيد باخريبة، وزكي وفريد بركات، وأحمد وعبدالله سالم الحنكي، وآخرون من مثقفي الحزب ونخبته المائزة الذين كانوا يوصفون بجماعة (الثوري)، صحيفة الحزب.

كانت لقاءاته بهذه النخبة اليسارية وحواراته معها ضمن زيارته الأولى لعدن عام 1981، قد منحت الشاعر التائه في فلوات العالم المتلاطمة بين معسكري الشرق والغرب صورة مخيالية ليوتوبيا ثورية متخلقة على هذه الأرض العدنية العذراء.

حين جاءت الضرورة القاسية أن يرحل الشاعر جبرًا من بيروت المحتلة عام 1982، كان استعداد سعدي يوسف لجعل عدن استراحة محارب له يجترح مآثرها في الحياة والسياسة والشعر وبمجموع هذه التداخلات التصورية صار الشاعر مكتملًا في تصور الرحيل إلى منفى جديد، وقابلًا لانتقال مكاني وتاريخي وحلمي يحياه ويعايشه عن قرب

أضف إلى ذلك، ما تراكم من المخيال الحضاري لحضرموت الحضارة، فكانت أصداء وترجيعات الشاعر امرؤ القيس ودمونه الحضرمية تعاوده من أصلاب التراث الشعري العربي.

يقول سعدي يوسف في كتابه "يوميات المنفى الأخير":

عدن بعيدة / وعدن في القلب / ولا مسافة بين القلب والمسافة

تقول جنوبيون / تقول يمانيون

علمونا اللغة وأنطقونا الشعر، ومنحونا امرأ القيس الجميل

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا إخوة يمانيون، وإننا لأهلنا محبون

تقول جنوبيون تقول يمانيون

سددوا خطاهم من الثورة إلى نظرية الثورة

ومن نظرية الثورة إلى الثورة

وأنبتوا في رايات العرب أول نجمة حمراء

ولا ننسى أن مغامرات الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في عدن، في مرحلة ما بعد موت الشاعرية الطفولية والمكوث في المكان العدني القاسي وشغف اللقاء مع هذا المكان البعيد، ليصبح إحدى دوال الشاعر الذي أثار الدنيا وأقعدها بقصائده الحداثية، ورحلة الفيلسوف والكاتب الفرنسي اليساري الغاضب بول نيزان وكتابه "عدن العربية"، التي احتفظ بمسودته ونشر ترجمته في عدن لاحقًا.

كل ذلك كوّن لدى الشاعر سعدي مخزونًا تذكاريًّا، ساهم في اتخاذ قرار الذهاب إلى تلك الـ"عدن" التي يتسابق كتاب العالم لاكتشافها. 

وهذه المرجعيات المتلقاة في ذاكرة ووعي الشاعر، قد منحت الشاعر سعدي يوسف قدرًا من جاذبية الرحيل إلى عدن البكر، لتلمس عذرية المكان وصدى التاريخ وحلم العصر اليوتوبي الثوري.

وحين جاءت الضرورة القاسية أن يرحل الشاعر جبرًا من بيروت المحتلة عام 1982، كان استعداد سعدي يوسف لجعل عدن استراحة محارب له يجترح مآثرها في الحياة والسياسة والشعر، وبمجموع هذه التداخلات التصورية صار الشاعر مكتملًا في تصور الرحيل إلى منفى جديد، وقابلًا لانتقال مكاني وتاريخي وحلمي يحياه ويعايشه عن قرب.

كانت عدن منحة قدرية لشاعر متلاطم كي ينوع ذاته وينقذها من الملل الثقافي والإبداعي الذي كان يحاربه بكل وعي ودون هوادة، ويبتعد عن سوط السلطان وبقايا آثار الزنازين، وبدؤوا وجع الخروج من بيروت، لينقل حقيبة الترحال دون وجل أو حسابات إلى يوتوبيا منتظرة في عدن.

لا شك أن زيارة سعدي الأولى لعدن عام 1981، وحواراته مع تلك النخبة المثقفة وتعرفه على المكان: بحر عدن، ساحل أبين، ساحل جولدمور، حضرموت، التواهي وتتبعه لأرض الحضارة والتاريخ وآليات الشعر العربي- منحت قدرًا من تقدير زاوية البوصلة جنوبًا، حيث ينتظر أن يجد الحلم الثوري موقعه من التحقق.

جبرية الرحيل من بيروت 1982، لا تقلل من عفوية الاختيار لجعل عدن سماء جديدة لمكوث الشاعر سعدي تحت سقفها في المكان والتاريخ واليوتوبيا!

جاء سعدي يوسف إلى عدن، تلك المدينة القابعة في الركن الغربي من قارة آسيا، منفيًّا من بيروت الجريحة والمحتلة بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، وعلى رأس المغادرين الشهيد القائد الفلسطيني ياسر عرفات.

خرج المقاتلون الفلسطينيون ومعهم ثلة مميزة من المثقفين العرب على ظهر باخرة، ومعهم سعدي يوسف.

كانت عدن، في أوائل الثمانينيات، قلعة لليسار العربي من خلال نظامها السياسي ومناصرتها لقضايا حركات التحرر العربي.

قدمت الطلب للجوء المقاتلين والمثقفين العرب، فاستجاب سعدي يوسف للدعوة، لا سيما وقد كان فيها العديد من اليساريين العراقيين والسودانيين والعرب الذين انخرطوا في الحياة الأكاديمية والثقافية والصحفية المعتملة في عدن.

في ظني أن عدن لم تكن بذاك القدر من الإغراء من ناحية البيئة والبنية الثقافية التي كانت تقف حينها على بون شاسع من جاهزية مدن الثقافة العربية المشهورة، مثل القاهرة وبيروت وبغداد وغيرها.

لكن عدن كانت قبل الاستقلال الوطني 1967، ذات سمعة عالمية كثالث ميناء في العالم من جهة، وهي إحدى مناطق التحرر العربي في الستينيات التي كانت حلمًا ونموذجًا للثوريين العرب، ولديها إرث من المدنية وبقايا تعددية غابرة في الحياة السياسية والصحفية في عهد الاستعمار البريطاني، وهي الآن عاصمة دولة تصنف ضمن دول المعسكر الاشتراكي.

عندما جاء سعدي يوسف إلى عدن كمحطة جديدة ونقل حقائب الترحال إليها بعد معاناة الغزو الإسرائيلي للبنان واجتياح بيروت وانهيار اليوتوبيا الثقافية التي عاشتها بيروت وعاش الشاعر حلمها الجميل حتى نهاياته على وقع دبابات وجنازير الاحتلال الإسرائيلي، لم تكن تساوره مشاعر التعالي والاستعلاء في مخملية رغد العيش وأن ينتقل إلى مدينة أقل شأنًا في صناعة ثقافية.

جاء سعدي إلى عدن، ربما محمّلًا باستعادات سياسية لدولة تنهج المسار الاشتراكي، جاءها متواضعًا في حلمه واشتراطاته للإقامة. وربما كان حالمًا في المساهمة بصناعة ثقافية في هذه المدينة الصغيرة المتواضعة التي تعيش هذا الحلم اليوتوبي الثوري. وهذا ما صار.

كان من حظ سعدي يوسف في عدن 1982، أن كانت سياسيًّا في طريق الانفتاح في مختلف المجالات، والتفلت من القبضة الحديدية لحكم الحزب الحاكم.

بل إن من الإنصاف القول إنه كان في استقبال الرحال الثوري سعدي يوسف، شخصية صحفية وثقافية مقربة من الرئيس علي ناصر محمد، ولديه أحلام ثقافية كامنة ومتحررة من التزمت وصاحب مغامرات غير محسوبة بالنسبة للوضع السياسي والثقافي القائم في عاصمة الجنوب (عدن)، ونقصد بذلك الشهيد أحمد سالم محمد (الحنكي)، الذي خرج من منصب مدير تحرير صحيفة "14 أكتوبر" بعد مغامرة له في تجاوز التابو السياسي المتزمت، ونشر مواد صحفية خارجة عن الالتزام السياسي القائم.

لقاء إبداعي في مشروع ثقافي

هذا اللقاء بين الشاعر الثائر والمبدع القادم من موطن الثقافة والقراءة والشعر (بغداد)، ومن عاصمة الثقافة والصحافة العربية بيروت مع الحالم الجنوبي المغامر والطامح في أحداث تجربة ثقافية رائدة: أحمد سالم الحنكي، كان قصة يجب أن تروى.

تحت لواء هذين الرجلين، وُلِدت مؤسسة دار الهمداني للطباعة والتأليف والنشر والترجمة، (الهمْداني؛ بالدال وبتسكين الميم) نسبة إلى المؤرخ أبو محمد الهمداني، وليس الهمذاني (بالذال وبفتح الميم) نسبة إلى الشاعر العربي بديع الزمان الهمذاني.

كان لدى الحنكي رغبة في إحداث مشروع ثقافي مغامر بالقياس إلى الوضع السياسي القائم بتأسيس دار للنشر تكون أساسًا لنشر الثقافة والأدب والترجمة بمختلف اتجاهاتها وتنويعاتها السياسية والأيديولوجية، ودون قيود وتحت سماء حرية الكتابة والإبداع.

وكان سعدي يوسف رأس هذا الرهان، حيث عين مستشارًا ورئيسًا غير متوج لهذه الدار الرائدة التي يقف على رأسها الحنكي مديرًا عامًّا.

فصارت هذه الدار بعقلية سعدي يوسف الثقافية ومراسه وتجربته العميقة في عواصم الثقافة العربية، وبالإرادة الحديدية التي كان يتمتع بها الحنكي في نفض غبار المطابع التقليدية، وجعلها أداة لصناعة ثقافية وإبداعية مميزة، رغم اعتراض وتمنع وخوف بعض الفنيين المخضرمين من فشل المطابع عن أداء هذه المهمة.

صارت الدار مركزًا لصناعة الكتاب والصحافة، ونقطة لقاء إبداعي للأدباء والشعراء والصحفيين الحالمين بصناعة ثقافة وأدب غير مقيدين بالأيديولوجيا والسياسة الجامدة، وسعيا نحو نهوض ثقافي تحت فضاء حر وواسع المدى، يكسر حاجز الأيديولوجي والحزبي، وينتصر للثقافي من سطوة السياسي.

كان سعدي يوسف، هذا الشاعر الكبير والقامة السامقة يتشارك مع منتسبي الدار، كل في مجاله من صحفيين ومثقفين وعمال فنيين ومخرجين فنيين، ويسكب عصارة جهده ولب إبداعه ومخرجات تجاربه ليصوغ أجمل تجربة ثقافية عاشتها عدن في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي.

لقد كان من حظي الجميل أن أكون مجايلًا له المغامرة الثقافية ومعايشًا لحظاتها الممتعة والاستثنائية الخالدة في قاموس حياتي الشخصي والإبداعي.

مع سعدي يوسف في صناعة الحلم الثقافي

توظفت في دار الهمداني مشرفًا في دائرة التأليف والنشر والترجمة، في أكتوبر 1983 قادمًا بعد التخرج من كلية التكنولوجيا (الهندسة) باستشارة من توْءَم شعري ورفيق الطفولة والدراسة الشاعر الراحل محمد حسين هيثم، الذي أغراني بالانخراط في يوتوبيا ثقافية حالمة تحت قيادة صديقه وأستاذه أحمد سالم الحنكي، وبمعية مايسترو عظيم هو الشاعر سعدي يوسف، لأودّع وإلى الأبد الهندسة إلى الثقافة. فكانت موافقتي دون تردد، وقلت في نفسي: من يفوت فرصة القرب من شاعر كبير مثل سعدي يوسف!!

كانت دائرة التأليف متواضعة التكوين، مكونة من القاص عادل ناصر مديرًا، ومني مشرفًا، ومن الشاعر الراحل عوض الشقاع وزميله في التصحيح والتدقيق.

كانت علاقتنا وطبيعة عملنا تستدعي التواصل المباشر بالشاعر سعدي، ومهمتنا تحددت في اختيار وإجازة ومراجعة الكتب المرشحة للنشر تحت إشرافه، وبناء على ملاحظاته في النشر هنا وهناك.

إلا أن سعدي كان منشغلًا في إصدار مجلة سياسية متنوعة على غرار المجلات العربية، فكانت مجلة "المسار" التي اشتغل فيها خيرة الصحفيين؛ نعمان قائد سيف، وإبراهيم الكاف، ومحمد عبدالله مخشف، وعبدالرقيب مقبل، وإقبال الخضر، والقاصّة شفاء منصر وإقبال الخضر، وكان لي شرف المشاركة معهم تحمل مسؤولية الشأن الثقافي والأدبي في المجلة كمساهم فيها، وذلك بدعوة من سعدي يوسف.

وهكذا كانت وتيرة العمل تدور، وترى سعدي منشغلًا في هموم الإصدار، يشرف على تبويب المواد المرشحة للنشر. ومشاركًا في الإخراج الصحفي. خطاطًا ورسامًا ومصححًا لغويًّا ومساهمًا في تحرير وإنجاز كل مهارات العمل الصحفي.

ولعل هذا درس مهم تعلمته منه؛ أن تكون رئيسًا للتحرير أو مشرفًا لإصدار صحيفة أو مجلة، فلا يغرك المنصب بالجلوس في غرفة مكيفة ومغلقة، ولا يعفيك من أن تكون مع المحررين محرّرًا، ومع المخرجين مخرجًا والطباعين طبّاعًا، مساهمًا بالفكرة والرؤية والتنفيذ، وألا تكون متعاليًا في صناعة الكتاب أو الصحيفة أو المجلة وسجن طاقتك في غرفة المسؤولية والإدارة.

كان سعدي يوسف يتنقل من غرفة المحررين إلى غرفة الإخراج والمونتاج حتى غرفة المطبعة، ولا يهدأ حتى يستلم النسخة الأولى من المجلة أو الكتاب.

وفي مرحلة لاحقة، وضمن نشاطات الدار أوكلت لي مهمة مدير تحرير المجلة الجديدة للأطفال (نشوان)، إلى جانب مهام في إدارة التأليف، وما هي في مجلة "المسار" مجلة "نشوان" لأدب الأطفال في بداياتها ضمن اهتمامات الشاعر سعدي، ومعه رأيته كيف يختار موضوع السيناريو ويساهم في رسمه، ويساعد في اختيار تبويب صفحات هذه المجلة التخصصية، وكنت أشتغل فيها بمعية الزميلتين؛ الكاتبة نهلة عبدالله عبده، والقاصة وشفاء منصر.

قال لي: أقرأ أشعاركم وأتأملها بعمق حتى أتعرف على ماهية كتابتها، وأواظب على متابعتي لكم ولغيركم من الشعراء الشبان، حتى لا أفقد إيقاع الزمن الذي تعيشونه، فأفقد إيقاعي ويتجمد عن مجاراة التجديد في زمنكم!

ومن عبقرية سعدي يوسف الإبداعية في الاشتغال الثقافي والصحفي وتحت إدارة متميزة ونوعية، (أسميها الإدارة الرومانسية) لأحمد الحنكي، ولقاءهما مع إبداعات ثلة من خيرة الصحفيين والأدباء والشعراء والقاصين والمخرجين والفنيين والطباعين، تم تحقيق حلم إبداعي كان في زمانه اختراقًا ثقافيًّا تجاوز الجمود الحزبي والسياسي والتابو الأيديولوجي، كان نتيجته إصدار أكثر من 300 كتاب بواقع 5 كتب شهريًّا. وإصدار مجلة "المسار" الأسبوعية، تقارب في مضمونها، في ذاك الزمان، أي مجلة عربية في مضمونها وإخراجها. ومجلة متخصصة للأطفال "نشوان".

وكان سعدي يوسف مركز اللقاء ومنبع التفكير والإبداع وصانع الحلم الثقافي في دار الهمداني.

لكن الحلم انهار باقتراف الإخوة الأعداء، واستشهاد دينامو المشروع الشهيد الحنكي، ومغادرة الشاعر الكبير آسفًا ومتحسرًا على مدينة عربية منكسرة انكسارًا لا جبر فيه، في أحداث 1986.

استعادة لحوارات مع سعدي يوسف

تحت سقف دار الهمداني وأروقتها وممراتها الترابية، وفي مكتبه أو مكتب الأستاذ الحنكي أو غيرهما، كانت تدور حوارات بعضها سريعة التداول، وبعضها الآخر يطول الحديث فيها.

ومما أتذكره من هذه الحوارات أوجز ما تسعفني الذاكرة منها، وكلها علامات مضيئة في الطريق الإبداعي والثقافي لنا:

شدني ما رأيت في سعدي يوسف هذا الشاعر الكبير وهو يتتبع كتاباتنا الشعرية نحن الشعراء الشبان دون كلل أو تعالٍ، يومًا بسؤال متواضع: لماذا؟

قال لي: أقرأ أشعاركم وأتأملها بعمق حتى أتعرف على ماهية كتابتها، وأواظب على متابعتي لكم ولغيركم من الشعراء الشبان، حتى لا أفقد إيقاع الزمن الذي تعيشونه، فأفقد إيقاعي ويتجمد عن مجاراة التجديد في زمنكم!

وفي مرة قال لي: مذ أن رأيت كتابًا لأحد الكتاب الكبار مهدى لأحد القراء وبتوقيعه في حوض حمام، امتنعت عن إهداء كتبي أو التوقيع عليها حتى لا يقع لي ما حصل لهذا الكتاب الكبير!

(اعتداد بقيمة الإبداع)

وفي لحظة تأملية حالمة، كتب في إحدى مقالاته:

أمنيتي أن يحتفظ الزمان بعد موتي بعد آلاف السنين، بقصاصة من كلماتي يتداولها الناس دون معرفة قائلها، فقط أن يحفظها الزمان لقيمتها من التلف والنسيان؛ فالزمن لا يرحم!

وفي تقييم له على بعض شعراء تلك المرحلة من أصدقائي الشعراء، ونحن متجمعون حوله:

الشاعر الجنيد أجودكم في استخدام عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي.

وكان معجبًا بقصائد الومضة للشاعر الراحل عبدالرحمن السقاف ويشبهها بقصيدة الهايكو اليابانية، حتى إنه كان يلح في طلب رؤية شاعر الومضة هذا.

أما عني وعن الشاعر الراحل محمد حسين هيثم، فيصفنا بأننا من شعراء التفاصيل والتجريب.

وعن الشاعر شوقي شفيق قال، إن إدهاشاته التخييلية نابعة من استلهام معرفي، وليس من حالة معاشة في ثنايا شعره، وهو لون في الشعر العربي المعاصر برع فيه الشاعر الكبير أدونيس.

وكان يلح علينا نحن الشعراء الشبان أن نبتعد عن الكلمات المصدرية وأسماء المصادر، تلك الكلمات المنجزة المعنى في مبناها ومعناها؛ مثل كلمات: (العشق، الوجد، الغرام... وغيرها)، وكان يقول: يجب أن تصنع هذه المعاني بدون تصريح بها وجعلها حالة تعاش وتحس.

كما كان يدعو إلى التقليل من استخدام أدوات التشبيه، وكل أدوات التنميق اللغوي اللفظية والمعنوية المتعارف عليها في البلاغة العربية التقليدية.

هكذا كان معنا نحن الشعراء الشبان؛ معلمًا في فن صياغة القصيدة وإنتاج المخيال والتخييل الحر والمتحرر من قيود أدوات اللغة العربية التقليدية.

وله الكثير من القراءات التي لا تخلو من النقد الحميم للشعر والشعراء.

أبو حيدر من منظور إنساني

كان "أبو حيدر" -هكذا كان يطلق عليه زملاؤه العراقيون، فأخذناها عنهم- يبدو لنا رجلًا اعتياديًّا في علاقته الأسرية؛ حيث كان منتظمًا في المجيء إلى العمل صباحًا أو الخروج منه ظهرًا، ليأخذ زوجته حينها سهام علي ناصر التي كانت تعمل في صحيفة الثوري.

كان ولده حيدر وابنتاه مريم وشيراز يدرسون في مدارس عدن.

لكنني وعند قراءتي لأحد مقالاته الصحفية يقول إن علاقته بأولاده لم تكن علاقة رعاية، وهذا مناقض لالتزامه الأسري، كما رأيناه.

كان سكنه في أحد شقق عمارات مدرسة باذيب للعلوم الاشتراكية، وهي شقق مخصصة لكوادر الحزب.

كان مهندمًا في ملبسه كعادته، في حين بدا لي بعض العراقيين النازحين الذين أتوا فرادى دون أسرهم، كانت قمصانهم تبدو مدعكة، دلالة على فقدان الجو الأسري والبوهيمية الحياتية.

وكان يعجبه اللباس القريب من البياض، ولا تفارقه السيجارة من فمه.

وكأي مبدع دينه الهروب من قيود المؤسسة الزوجية، كان يأخذ حقه في التمرد والخروج من إسارها وقيودها في جلسات مطولة مع جلساء سياسيين أو مثقفين تطول بتشعب الحوارات والنقاشات أو حضور فعاليات أدبية وثقافية وما يتبعها من جلسات.

ظاهريًّا يبدو عليه التجهم في شخصيته، وفيه شبه في مقدم الوجه بالشاعر العربي الكبير السياب ابن مدينته البصرة في بروز فكه وأسنانه عند الضحكة، يبدو خجولًا، وصوته منخفض النبرة، وهو قليل الكلام، وكثيرًا ما يكتفي بالإشارة في المواقف واللحظات المعينة.

هو جاد في العمل ونشط في التفاني به، ويشعرك بأنك أمام أب وقور ومعلم وفيلسوف جليل، إلا أن علامات التجهم هذه لا تخفي براءة الطفل الصغير الذي يكمن في داخله، وبالخصوص في لحظات الانتشاء.

كان واضح العداء للحزبية المقيتة التي كان يعاني منها الحزب الشيوعي العراقي، وكان متمردًا على كل الخلافات الطارئة بين الجماعات والأفراد فيه، لكن من الجلي أن الجميع كان يحترم تمرده الراقي، ويجعلونه مرجعًا يحتكمون إليه ويفتخرون بوجوده معهم.

يحزنني أن ولده الوحيد مات أو قتل في إحدى المدن الآسيوية الشرقية في الفلبين، وقد رثاه في قصيدة تمنى من خلالها استعادته واستعادة أشيائه الصغرى.

مآلات الأسرة التي رأيناها في عدن يبدو أنها تفككت بسماع أخبار طلاقه واختياره حياة أسرية جديدة.

سعدي يوسف، رجل مهاب المظهر، يبدو شابًّا وأنيقًا رغم علامات المشيب على رأس شعره المتنقل بين درجتي البياض والرمادي.

ليس جهوريًّا في إلقاء الشعر، وتنعدم عنده خاصية الموسقة في الإلقاء. هو ليس كما الشاعر محمود درويش ملك الإلقاء المرتل، ولا الشاعر أدونيس المتنوع في التعبيرات الصوتية والإشارات المسرحية.

تصعد كلماته كأنما تخرج من جوف بطنه، ويتخلل نطق كلماته بقع من بياض صمت فيعالجها بالإشارة.

سعدي يوسف، بكلمات قليلة الصدى وخفيفة المعنى

واحد من ثوار الشعر الإبداعيين، وقدره أن يكون معلمًا في صناعة القصيدة واحتراف الكتابة والترجمة.

أما في صدمات الحياة وانكساراتها، فهو أحد رواد المنافي في زمن عربي متهاوٍ وجوديًّا وحضاريًّا، وصاحب رقم قياسي في اجتراح مآلات المنافي وحزم الحقائب بين المطارات العربية والأجنبية.

(يتبع)


•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English