عبد الرحمن الحرازي وسيرة الظل (9)

عن انقلاب 5 نوفمبر وأيام الحصار وتخريب بيوت الملكيين
محمد عبدالوهاب الشيباني
May 6, 2021

عبد الرحمن الحرازي وسيرة الظل (9)

عن انقلاب 5 نوفمبر وأيام الحصار وتخريب بيوت الملكيين
محمد عبدالوهاب الشيباني
May 6, 2021

أخلى الضباط المصريون المبنى الذي كانوا يتخذونه مقراً للاستخبارات في منزل فاطمة بنت الإمام يحيى (مقر السفارة المصرية اليوم)، والذي يقع بالقرب من بيت المطهر، وصار مقراً للمعهد الزراعي، وصرت طالباً ومقيماً فيه، كما أسلفت في أكثر من موضع.

 الأيام والليالي الجميلة التي كنا نقضيها برفقتهم في حديقة المسكن، وشِيَش (أراجيل) وشاي العم محمد غالب زهرة، بالقرب من الشذروان (النافورة)، انتهت تقريباً، وقد شعرت بحزنهم على النهايات المأساوية لبعض جنود الجيش المصري، وبعض المدنيين الذين قضوا غيلة وغدراً من قبل بعض المندسين على المظاهرات التي خرجت ضد "اللجنة الثلاثية" في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 1967، في صنعاء.

  صباح الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني، وأنا في طريقي لعملي في وزارة الزراعة، التي كانت تتّخذ من "بيت العباس" (مقر رئاسة الوزراء اليوم) مقراً لها، تلقّفني أحد المعاريف وقال لي: "يا حرازي، العسكر ينهبوا بيت السلال"! (يقع المنزل حتي اليوم على أطراف حي القاع الشمالية). غيرت اتجاه مساري إلى موقع المنزل، وحينما وصلت إلى المكان استندت واقفاً على سور ترابي بالقرب من البوابة، أشاهد جنوداً ومسلحين يُخرجون أسلحة وأدوات من الداخل. وأثناء وقوفي جاء شخصان أحدهما معمّماً بما يميزه كقاضٍ، والأخر معمّماً بمشدّة حلبية كتلك التي يرتديها شيوخ "اليمن الأسفل" (تعز وإب)، ووقفا بجواري يرقبان المشهد، وحينما تحققت منهما عرفت مباشرة القاضي عبدالرحمن الإرياني، والذي معه كان الشيخ محمد علي عثمان، كما أدركت لاحقاً.

عبدالرحمن الحرازي

 بعد قليل جاءت سيارة "جيب" عسكرية ووقفت أمامنا، ونزل منها ضابط برتبة متوسطة وأشار علينا أن نصعد إلى الكرسي الخلفي المغطى بـ"طربال" (غطاء عادة ما يكون من القماش الثقيل أو الخيش)؛ صعد القاضي عبدالرحمن والشيخ محمد علي عثمان وصعدت معهما، وجلس الضابط إلى جوار السائق. أما أنا لا أدري ما الذي جعلني أصعد معهم إلى السيارة!

   انطلقت السيارة من اتجاه منطقة الكهرباء، وصولاً إلى "الرّصْدة" الرئيسية (شارع الزبيري اليوم)، واتجهت شرقاً ناحية باب اليمن، ودخلت العرضي من البوابة الشرقية. على طول الطريق بقيا يرمقانني بنظرات استغراب، دون أن تصدر عنهما كلمة واحدة.

  وقفت السيارة أمام السلّم الحجري، الذي يتخذ شكل قوس ويفضي إلى شريط طويل من الغرف والمكاتب، فترجّل الضابط وفتح الباب الخلفي، وأشار للقاضي والشيخ بالصعود أولاً، ثم أشار لي باللحاق بهما. استقبل ثلاثتنا ضابط آخر برتبة نقيب في مكتب عريض به سلّم حجري يوصل إلى حُجرة في الأعلى. جلسنا قليلاً على كراسٍ عتيقة، قبل أن يصعد الضابط ويعود ويشير للقاضي ورفيقه بالصعود. وأثناء صعود القاضي الدّرَج، التفتَ إليَّ بنظرة غضب حينما رآني أتبعه وأسبق الشيخ محمد، فلم يكن أمامي سوى التراجع قليلاً إلى الخلف، مفسحاً الطريق لرفيقه، ثم غافلتهما وغادرت المكتب ومنطقة "العُرضي" بسرعة، وأنا أتساءل ما الذي قادني إلى القيام بهذا الفعل المجنون؟ وماذا لو شكّ بي الضابط الذي دعاني لصعود السيارة، ظاناً أني مرافق للقاضي والشيخ؟ وأسئلة أخرى كثيرة.

  في صباح اليوم التالي، اُعلن بيان الانقلاب وتنحية الرئيس السلال، وتشكيل مجلس جمهوري من كلٍ من القاضي عبدالرحمن الإرياني، الأستاذ أحمد محمد نعمان، الشيخ محمد علي عثمان، القاضي عبدالسلام صبرة والفريق حسن العمري. ساعتها فقط، عرفت لماذا تواجدا أثناء نهب بيت السلال، ولماذا ذهبا إلى مقر قيادة الجيش في "العرضي" في ذلك التوقيت؟(*)

  بعد انقلاب الخامس من نوفمبر 1967، بدأت الأمور في صنعاء تأخذ منعرجات معتمة. القوات الملكية بدأت تزحف على المناطق المحيطة بالمدينة (بني مطر، بلاد الروس، بني حُشَيش، سنحان، بني بهلول)، ولم يصل شهر نوفمبر إلى نهايته إلاَّ وصنعاء محاصرة من جميع الاتجاهات، وكان أكثر ما يقلق الجمهوريين تلك الاحتكاكات التي بدأت تنشأ بين قوات المظلات والصاعقة، وبعض من مسلحي قبائل حاشد التابعين للمشايخ الذين انقلبوا على السلال، وهي الاحتكاكات التي وصلت في إحداها إلى انقسام العاصمة إلى قسمين؛ تمركز جنود الصاعقة والمظلات في شارع علي عبدالمغني وتمركز مسلحو القبائل في شارع جمال. غير أن اشتداد الحصار على المدينة دفع بالعقلاء من الطرفين إلى إرغام القوات على العودة إلى مواقعها الدفاعية في محيط العاصمة.

جاءت أوامر من حسن العمري (رئيس الوزراء والقائد العام للجيش) بتخريب بيوت القادة الملكيين في مدينة صنعاء القديمة، بعد تعرض المدينة للحصار والقصف الشديد، وكان أول مسكن تم تخريبه بيت عبدالوهاب سنان في حارة عمَّار

كانت هاونات وقذائف و"دانات" (مقذوفات صاروخية ومدفعية) الملكيين تصل المدينة من جهة (ريمة حُميد) في سنحان، ومن (جبل عيبان) في بني مطر، ومن (الجبل الطويل) في بني حُشيش. مطار "الرَّحَبة" كان تحت السيطرة النارية للقوات الملكية، فتعذر نزول الطائرات فيه، مثله مثل مطار السبعين الذي كانت تصله القذائف من عيبان. القيادات كلها غادرت إلى الحديدة وتعز، ولم يتبقّ غير حسن العمري وعبدالسلام صبرة وعبدالله بركات، وقيادات الجيش الشابة بقيادة عبدالرقيب عبدالوهاب، رئيس هيئة الأركان، ورفاقه في الصاعقة والمظلات من قادة الوحدات وأركانها. شيئان اثنان ميزا تلك الأيام، وهو انتخاب الجيش لقياداته العسكرية بشكل مباشر بعد هروب القادة الكبار، وتشكيل المقاومة الشعبية للذود عن صنعاء، من كافة أطياف وشرائح ومناطق اليمن الكبير. كنت أنا ضمن القادة الميدانيين للمقاومة الشعبية ومسئولاً عن أحياء "الفليحي" و"القزالى" و"الزُّمُر" و"الطواشي"، وكنا نتخذ من حمَّام الزُمر (حمام بخاري قديم) مقراً لنا، وكانت مهمتنا، إلى جانب حفظ الأمن، الإشراف على توزيع المواد التموينية من جاز ودقيق وسكر وحطب على المنازل، بعد أن شحّ تواجدها في السوق بسبب الحصار الخانق، وكانت تلك المواد تصل من الحديدة أو تعز على طائرات عسكرية يقودها فدائيون من القوات الجوية، وكانت الطائرات تهبط في مطار بدائي شقّه الجيش في غرب المدينة (شارع الدائري الغربي اليوم)، لكن بعد أن وصلته القذائف من ناحية جبل عيبان، لم يعد يُستخدم في فترة الحصار.

عبدالرقيب عبدالوهاب

  قوات الصاعقة والمظلات أمسكت بجبل "بَراش" المحاذي لجبل "نُقُم" المواجه للجبل الطويل في شرق المدينة، وطلاب الكلية الحربية أمسكوا بـ"قَشْلة نُقُم" (الحصن)، وطلاب كلية الشرطة تمركزوا في مطار "الرحبة"، واللواء العاشر الذي درّبه المصريون قبل خروجهم، تحصنوا في منطقة "عَصِر".

 كنا نسمع "الدانات" في أنحاء المدينة، وكان يتكثف القصف على الإذاعة والقصر الجمهوري، وتحطّ العديد من القذائف في بستان "بيت العباس" الذي كان مقراً لوزارة الزراعة، بالقرب من الإذاعة. كان قاسم سُقل ممسكاً بالجبهة الجنوبية للقوات الملكية التي استولت على "ريمة حُميد"، وكان أغلب أفراد القوات الملكية في هذه الجبهة من بلاد آنِس وخولان وسنحان وبلاد الروس. الجبهة الشرقية كانت بقيادة قاسم منصّر، وأغلب أفراد قواته من بني حُشيش وبني الحارث، أما الجبهة الغربية فقد كانت بقيادة الأمير محمد ابن الحسين وناجي بن علي الغادر، وأفراد قواتها من بني مطر والحيمتين (الحيمة الداخلية والحيمة الخارجية)، وكانت هذه الجبهة أشبه بمركز قيادة للقوات الملكية التي تحاصر المدينة.

 اشتدت ضراوة المعارك، حتى أن القوات الملكية كانت قاب قوسين أو أدني من إسقاط المدينة، فقوات سُقَل وصلت إلى منطقة "الحفاء" أسفل جبل "نقم"، بعد استيلائها على "الجرداء"، غير أن صمود طلاب الكلية الحربية ومقتل سُقل، أبطلا هذا الهجوم، وأثر مقتل سُقَل كثيراً على تماسك القوات الملكية في هذه الجبهة لأنه كان من أصلب القادة وأشرسهم. وشرقاً تسلل الكثير من أفراد قوات قاسم منصر إلى منطقة "شُعُوب"، غير أن يقظة المقاومين قضت على المتسللين. بعض التشكيلات الملكية وصلت من غرب المدينة إلى مبني شركة المطهر أسفل عَصِر ( بالقرب من قاعة المؤتمرات وسبأ فون حالياً)، غير أن استبسال جنود اللواء العاشر الذين أوقعوهم في كمين محكم، قضى عليهم. أتذكر أن سكان المدينة، نساءً ورجالاً، كانوا يحملون الماء والأكل ويوصلوهما إلى المواقع القريبة دعماً للمقاومة، وعلى وجه الخصوص في أيام رمضان، وأن النساء في مصنع الغزل والنسيج في "شُعُوب" حملن السلاح للدفاع عن المصنع.

  جاءت أوامر من حسن العمري (رئيس الوزراء والقائد العام للجيش) بتخريب بيوت القادة الملكيين في مدينة صنعاء القديمة، بعد تعرض المدينة للحصار والقصف الشديد، وكان أول مسكن تم تخريبه بيت عبدالوهاب سنان في حارة عمَّار، بالقرب من باب "شعوب"، وقد تولى بعض الجنود نسفه بلغم أرضي، غير أن تضرر المساكن القريبة جعلهم يستبدلون عملية التفجير، وبالأمر، بالهدم اليدوي.

الشيء الثمين في غرفتيْ أحمد محمد الشامي وأخيه، كانت مجموعة من الكتب والمخطوطات القديمة، فأمرت بتجميع الموجودات الخفيفة إلى صندوق خشبي فيه ملابس حائلة، وكذلك فعلنا الشيء ذاته مع الحجرة الثانية

كنت بجوار القاضي عبدالكريم العرشي، رئيس هيئة الأملاك، حين جاءه الأمر بهدم بيت أحمد محمد الشامي وبيت السقاف يدوياَ، فصاح: "من أين ندّي الزّلَط حق الشقاة"؟ (من أين سنأتي بأجور العمال)، فقلت له: اترك الأمر عليَّ، قال: كيف؟ قلت: نطلب من المواطنين عمل ذلك، ويكون أجرهم هو خشب السقوف والأبواب والنوافذ، وما يجدونه في المنازل المستهدفة، فقد كان الحطب وقتها سلعة نادرة في ظل الحصار، ويستخدمه السكان لطهي الطعام والتدفئة في الشتاء القارس وفي رمضان. وافق على الفور، فسمحت لمجموعة من المواطنين المتواجدين بالقرب من المكان بمرافقتي، وحينما وصلنا إلى منزل الشامي في "الفليحي"، قال لنا سكان الحارة إن فيه امرأة عجوز تعيش لوحدها، وحينما طرقنا الباب خرجت لنا ولم تكن متفاجئة بالأمر، وكأن هناك من أعلمها بمجيئنا.

  قادتنا عبر الدرج إلى حجرتين منعزلتين في سطح المبنى (تسمى عند أهل صنعاء مناظر)، وأشارت إلى الحجرة الأولى وقالت: هذه الخاصة بأحمد والثانية بأخيه، ثم أخرجت مفتاحاً معلقاً بخيط قوي مربوط برقبتها، وفتحت الباب الخشبي، وقالت: منذ غادر صنعاء لم يدخل هذه الغرفة أحد. تحققنا من صحة كلامها حينما وجدنا الغبار يغطي المكان. لم نشاهد في الغرفة غير سرير قديم مغطى بمفرش قطني ولحاف تغير لونه من الأسود إلى اللون الترابي الباهت، بفعل طبقة الغبار الكثيفة التي غطته. في الجدار كانت تتعلق "تَوزَة" حديدية (جنبية يلبسها الهاشميون) يلفها حزام عتيق من ذلك الذي يُباع في سوق "الفَتْلَة" بسوق الملح، وإلى جوارها سراج قديم مغطى بالغبار. الشيء الثمين في الغرفة كانت مجموعة من الكتب والمخطوطات القديمة. أمرت بتجميع الموجودات الخفيفة إلى صندوق خشبي فيه ملابس حائلة كان موضوعاً في إحدى زوايا الغرفة، وكذلك فعلنا الشيء ذاته مع الحجرة الثانية. وبعد أن أخرجنا الأسرَّة والفرشان والموجودات إلى السطح، وبعد أن بدأ الرجال بنبش السقف المشترك للحجرتين لإخراج عيدان الحطب التي تسقف السطح، وكذا خلع النوافذ والأبواب، انتقلتُ مع مجموعة أخرى إلى بيت السقاف في حارة الطواشي، وقبل أن نكمل هدّ أحجار الأدوار العلوية، جاءت الأوامر من القاضي العرشي بإيقاف عملية التخريب في البيتين. العجيب في الأمر أن عجوز بيت الشامي لم تغادر المنزل وبقيت فيه، وكأنها كانت تعرف أن التخريب لن يصل إلى الدور الأسفل حيث تقيم. 

(*) يرد في مذكرات القاضي عبدالرحمن الإرياني– الجزء الثاني ص 621، هذا النص:

"وبقي الحرس الجمهوري وكان عدده كبيراً وتجهيزه جيداً. وقد أبدوا في البداية رفضاً، ولكنهم حينما عرفوا إجماع الجيش من ناحية وأن الشيخ (أحمد عبدربه) العواضي، الذي أمرهم السلال بالتعاون معه قد وافق، وافقوا. ولعمل روتيني تحركت بعض الدبابات إلى الإذاعة وإلى بيت السلال، وسلَّم الحرس ونُقلوا إلى معسكر خارج المدينة، ودخل جنود المظلات والصاعقة وآخرون من الجيش، إلى منزل السلال وأخذوا كلما بقي فيه، وقد احتجّينا على القوات المسلحة تصرفها وقد كنا نريدها عملية سلمية".

  وهذا النصّ يعزز رواية عبدالرحمن الحرازي لعملية نهب بيت الرئيس السلال في الرابع من نوفمبر، وربما كان ذهاب القاضي الإرياني مع الشيخ محمد علي عثمان إلى العرضي للاحتجاج على عملية النهب للمنزل، كما جاء في النص. أما تحديد اليوم الذي تم فيه نهب المنزل بالرابع من نوفمبر، فكان اعتماداً على المذكرات نفسها، والتي يقول فيها الإرياني وفي ذات الصفحة:

"كنا في تلك الليلة مع الشيخ محمد علي عثمان في بيته، وفي أثناء الليل انتقلنا إلى بيت الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، واتفقنا على صيغة البيان الذي أذيع صبح يوم الخامس من نوفمبر، بتشكيل المجلس الجمهوري مع بيان تشكيل الحكومة وتنحية السلال".


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English