في صباح اليوم الثاني للثورة تجمهَرَ الناس لمشاهدة عملية دفن جماعية لبعض من رموز حكم بيت حميد الدين وبعض الموظفين الكبار الذين حوكموا محاكمات عسكرية سريعة، وتخوَّف الناس من تمدداتها؛ غير أن قراراتٍ عقلانية أوقفت مثل هذه الأعمال، والتي لو أنها خرجت عن السيطرة كانت ستقود إلى حفلة دم لا يمكن إيقافها، وستتيح للخصومات الشخصية والثأرات أن تصير هي المحور الرئيس في العلاقة بين خط الثورة بمكوناته المتعددة، وبين فئة في المجتمع حُمِّلت كل عبء نظام الأمامة واستبدادها. أظن أن وجود شخصيات مؤثرة داخل تنظيم الضباط الأحرار وقيادة الثورة ومحسوبين على أسر هاشمية، ساعد في تهدئة ذلك الجو المشحون.
هناك حادثة أخرى لم يتوقف عندها الكثيرون ممن كتبوا يوميات الثورة، وهي أن مجموعة من جنود فوج البدر و"العُكفة" المرابطين في قصر السلاح، أغلقوا الأبواب وتمترسوا في الأماكن الحساسة في نوبات الحراسة وفوق السور، ومنعوا الدخول والخروج من وإلى القصر، وكانوا يقنصون كل من يمر بالقرب من المبنى العتيق؛ وحينما وصلت سَرية من الجيش النظامي من "العُرْضي" (ثكنة الجيش خارج سور المدينة بالقرب من باب اليمن)، تبادلت معهم أطلاق النار، ولم تستطع إخماد التمرد إلا بعد انقضاء العصر، حينما تمترست هي الأخرى في صومعة (مئذنة) جامع البكيرية المجاورة للقصر، وبعض المباني المرتفعة في حارة الميدان. لم يكن المتمردون كثيرين، بل مجموعة قليلة جدًّا ينتمون في غالبيتهم إلى بلاد "الأَهنوم" الذين تم تجنيدهم كحِراسات خاصة ومقاتلين مع ولي العهد وقتها.
كانت الرؤية ما تزال ضبابية، وسكان المدينة غير متيقنين من نجاح الثورة، خصوصًا أن أحداث مارس 1948، كانت لا تزال حاضرة في أذهان أغلب سكان المدينة التي استباحتها القبائل بأمر من الإمام وإخوانه بعد فشل حركة فبراير الدستورية في العام ذاته. حتى إن الفوضى كانت جزءًا ناشطًا في الحالة العامة. فقد قام مجموعة من الجنود بملابس مدنية باقتحام ما كان يسمى ببيت المال بجوار مبنى "دار الشكر" و"قبة المتوكل"، وهو من ملحقات "دار السعادة" الذي اتخذه الإمام يحيى مقرًّا له، وكان هذا المكان معروفًا بـ"مكتب علي زبارة" مسؤول المال في صنعاء. ورأيت كيف كانوا ينبشون الأحجار في أقطاب السلالم الحجرية (المناطق الحلزونية في السلالم)، باحثين عن (خِيَش) ثخينة، يحفظ بها الريالات الفضية الثقيلة (ماري تريزا)، التي قيل إنه كان يحتفظ بها في خِزانات سرية في الجدران المحاذية للسلالم وتُغطى بأحجار الحَبش القوية، ورأيت أشخاصًا أعرفهم يحملون من تلك "الخِيَش"، وهم خارجون من المكان. المقتحمون في الغالب كانوا من عسكر القصور ويعرفون كل التفاصيل في المكان، أو أن هناك من استخدمهم لهذا الغرض. وقبلها تم اقتحام مقر البنك الأهلي السعودي، الذي كان يتخذ من أحد بيوت أسرة السيّاني الواقعة بمواجهة المدرسة العلمية في ميدان "شرارة"، مقرًّا له، وإن المقتحمين الكثيرين خرجوا بقليل من "خيش" النقود ذات الفئة الصغيرة، والتي كانت تسمى (البُقش)، وهي أخفّ وزنًا وأقل قيمة من الريالات الفضية. ومقر هذا البنك تحول لاحقًا إلى فرع لـ"بنك مصر" في صنعاء، وكان ينسق التعاملات المالية بين اليمن والجمهورية العربية المتحدة في الأشهر الأولى للثورة، قبل أن يتحول البنك اليمني للإنشاء والتعمير إلى بنك البنوك في اليمن برمتها.
بقيت لأسابيع أعيش هذا الوضع ولا أدري ماذا أفعل؛ فأغلب زملائي في المدرسة غادروا إلى قراهم، أما من تبقى منهم فكانوا يعيشون الحالة نفسها التي أعيشها، نقضي النهار بالحركة من "شرارة" إلى "العرضي" إلى الميدان وحواري المدينة القديمة، حتى جاء يوم الفرج بقيام وزارة المعارف (التي كان وزيرها القاضي والشاعر محمد محمود الزبيري) بصرف عشرة ريالات لكل طالب تم اعتقاله في مظاهرة يونيو 1962؛ وتم صرف المبالغ بواسطة كاتب معاشات المدرسة حسين الكبسي، فقررت بعدها السفر إلى البلاد (خرابة الحرازي) لرؤية الوالد والوالدة، التي ضغطت علي كثيرًا لتزويجي وقتها، لكن الأمر لم يكن في حسباني بسبب الوضع الجديد الذي أعيشه في صنعاء.
بدأت في تلك الفترة تظهر في المدينة سيارات تاكسي من نوع فولجا الروسية، تنقل الركاب من القاع والتحرير وباب اليمن وباب شعوب، وتحوَّل مبنى الشامي بالقرب من وزارة التربية والتعليم، إلى فندق عصري تحت اسم "فندق صنعاء"
بعد عشرة أيام تقريبًا عدت إلى صنعاء عن طريق "معبر" (منطقة جنوب صنعاء) حيث لم أجد فيها وسيلة نقل، فقد قال لي صاحب المقهاية ونزلاؤها، إن سيارات النقل القليلة تمر في أوقات متباعدة، تحمل عشرات المتطوعين القادمين من إب وتعز ويريم وعدن وهم يهتفون بحياة الرئيس السلال، والثورة والجمهورية، حتى إنهم كانوا يقدمون أوصافًا غريبة للقادمين، مثل تفاوت ألوانهم بين الأسود والأسمر والأبيض، وبعضهم لا يلبس الكوافي، ولكناتهم مختلفة.
وحينما وصلت إلى صنعاء راجلًا من جهات "قاع الحقل" و"بلاد الروس" و"بني مطر"، بدأت أشعر أن ثمة تحوّلًا جديدًا بالفعل. صنعاء صارت مزدحمة؛ وجوه جديدة، وملابس مختلفة وألسنة متعددة لم يسبق لأهالي المدينة ومجاوراتها التخاطبُ بها أو سماعها بأكثر مما قالوه لي في مقهاية "معبر"، وظهرت مهن جديدة يزاولها شبان بهيئات مختلفة، ومنها أن خياطًا شابًّا، اسمه محمود، وأخاه قدِما من مدينة عدن بعد الثورة مباشرة، وافتتحا محلًّا لخياطة البنطلونات الحديثة لأول مرة في صنعاء، بالقرب من "جامع البهمة" في شارع جمال. وكان هذا الخياط مشهورًا جدًّا ويأتي إلى محله بعض القادمين من عدن وبلاد المهجر لخياطة ملابسهم العصرية. وقدِمَت مع الأخوين الخياطين أيضًا أخت لهما، وكانت تخرج إلى الشارع بدون غطاء للرأس، وهي المرة الأولى التي أشاهد امرأة بدون عصابة رأس أو "مَصَرّ"، في فعل مزلزل داخلي وداخل غيري من سكان المدينة. بدأَت في تلك الفترة أيضًا تظهر في المدينة سيارات تاكسي من نوع فولجا الروسية تنقل الركاب من القاع والتحرير وباب اليمن وباب شعوب، وتحوَّل مبنى الشامي بالقرب من وزارة التربية والتعليم، إلى فندق عصري تحت اسم "فندق صنعاء"، وكان يديره مجموعة من الأشخاص من بلاد "الأغابرة" و"الأعروق" و"حيفان" في بلاد الحُجَرية بتعز وقدِموا من عدن، وقيل إنهم كانوا يعملون طباخين عند الإنجليز.
عاد في تلك الفترة العديد من المهاجرين اليمنيين في السودان والصومال والحبشة من أهل بلاد "عَنْس" في ذمار ورداع والبيضاء والحجرية، وصعد رجال أعمال من عدن إلى صنعاء، وبدؤوا بإنشاء مبانٍ حديثة في شارع علي عبدالمغني وشارع جمال، وفتحوا محلات كانت تعرض سلعًا حديثة من الملابس والكماليات والأغذية لم تعهدها صنعاء من قبل بسبب انغلاقها الطويل.
صادفَت عودتي من القرية في شهر نوفمبر، وجود وفد مصري رفيع برئاسة أنور السادات، الذي وقّع اتفاقية دفاع مشتركة باسم الجمهورية العربية المتحدة مع الجمهورية العربية اليمنية التي مثلها الرئيس السلال، والتي تقضي بأن الاعتداء على أي دولة منهما أو على قواتها المسلحة هو اعتداء على الدولة الأخرى، وقد وضع هذا الاتفاق موضع التنفيذ مباشرة. وما ترتب على هذه الاتفاقية هو وصول وحدات مدرَّبة من الجيش المصري للدفاع عن الجمهورية، ووصول مجموعة كبيرة من الخبراء، الذين كانوا يسمون "الخبراء العرب"، الذين باشروا بتحديث المؤسسات، ومنها وزارة التربية والتعليم، حيث أعادوا تنظيم المناهج الدراسية وتنظيم مراحلها ودمج التعليم بالعصر، بعد أن كان تقليديًّا ومتخلّفًا. وقد كان للمدرسة العلمية -التي صار اسمها "مدرسة الوحدة" بعد ثورة سبتمبر- النصيبَ الأكبر في هذا التحديث، حيث صارت مدرسة ابتدائية وإعدادية، وإن طلاب المدرسة عادوا للانتظام بها ودراسة المناهج الحديثة، وتقدموا لاختبارات الشهادات فيها، ومعظمهم تخرجوا منها حاملين الشهادة الابتدائية، التي مكنتهم من الالتحاق بالكليات العسكرية التي بدأت باستقبال الشباب، وأغلب زملائي صاروا ضباطًا متخرجين من كلية البوليس (الشرطة) والكلية الحربية، حتى أخي محمد بن غالب، الذي قام والدي بإخراجه من كلية الطيران قبل الثورة بحجة أن الطيران هو من فعل النصارى ويتعارض مع الفطرة الإنسانية (يعني حرام)، التحق بالجيش ومُنح رتبة عسكرية مع زميله إبراهيم الحمدي؛ لكونهما كانا طالبين في كلية الطيران، أما إخواني أحمد وعبدالله وبعض أصدقائي، مثل يحيى الظرافي وعلي صلاح وجار الله عمر ومحمد الفضلي... وغيرهم، فقد التحقوا بالكليات العسكرية، مثل الحربية والشرطة، وآخرون ذهبوا إلى القاهرة لأخذ دورات عسكرية.
أشرف أحد الخبراء، واسمه محمد الجندي، على إنشاء معهد زراعي وكان مقره في بيت المطهر، نجل الإمام يحيى، وإلى جواره كان بيت شقيقته فاطمة بنت يحيى، الذي اتخذه ضباط المخابرات المصرية مقرًّا لهم
حاولت أن أحذوا حذوهم، لكني لم أبقَ في الكلية الحربية غير أيام وغادرتها، رغم أنها كانت تمنح الرتب العسكرية بعد ستة أشهر في ظروف استثنائية؛ لأن ميولي لم تكن عسكرية بالمطلق، وقد عدت إلى المدرسة ضمن فريق الإشراف عليها، وكنا نتناوب على رئاستها، فقد كان مسمى رئيس المدرسة يُطلق على المشرف على أنشطتها وتنسيق أمورها. فقد كنت أشرف على فريق كرة القدم -وكنت أحد لاعبيه، ولي مع هذه التجربة قصة طويلة وطريفة سأرويها في سياق خاص بذلك- ومشرف على أنشطة ثقافية جديدة، كانت تستمد من الثورة وأهدافها خطابها العام، ولهذا الغرض كنا نقوم بتنظيم مسابقات وأنشطة مختلفة، ونمنح جوائز رمزية للفائزين. وكنا نقوم بتوفير مبالغ صغيرة من مخصصات الطلاب وإعاشتهم لصندوق تضامني خاص بالمدرسة، ومن هذا الصندوق نصرف قيمة الجوائز ومستلزمات الاحتفالات البسيطة (بسكويت وعصائر).
في تلك الفترة أيضًا، كنا نعمل كمرشدين (توجيه معنوي)؛ ننزل مع الحملات العسكرية إلى المناطق المجاورة في خولان، وبني بهلول، وبني مطر، لتوعية المواطنين في تلك القرى بأهمية الثورة، ودورها في أعمال التنمية في المناطق المحرومة.
مطلع العام 1964، التحقت بالمعهد الزراعي، الذي افتتحَته، في أواخر العام 1963، منظمة الأغذية العالمية، التي صار لها في صنعاء مكتب، وكان مدير هذا المكتب أحد الخبراء المرموقين واسمه محمد الجندي، الذي بدوره أشرف على تكوين المعهد الزراعي، وكان مقره في بيت سيف الإسلام المطهر نجل الإمام يحيى، في المنطقة الواقعة بين حي "البونية" وشارع جمال عبدالناصر، مقابل بوابة القصر الجمهوري الشمالية، وكان لهذا المسكن بستان كبير ومتنوع الأشجار المثمرة، مثل كل بساتين الأمراء في منطقة "بئر العزَب"، وكان يقوم بحراسته وتشغيل بئره العم محمد غالب زُهرة، الذي أنشأ مقهى صغيرًا بالقرب من نافورة البيت (الشذروان) وكان يُقدِّم فيه الشاهي والشيش (الأراجيل)، وكان يأتي إلى هذا المكان ضباط من المخابرات المصرية من المبنى المجاور والملاصق لبيت المطهر، والذي كان بدوره مملوكًا لشقيقته الأميرة فاطمة بنت يحيى، واتخذته الاستخبارات المصرية مقرًّا لها، قبل أن يتحول إلى مبنى للسفارة المصرية حتى اليوم. وكان بالقرب من المبنيين مبنى ثالث، كان مملوكًا للقاضي الحجري والذي قام مكانه الآن سوق الآنسي، وكان يقطن هذا البيت (محمد حسني مبارك) قائد القوات الجوية المصرية في اليمن (الرئيس المصري لاحقًا).
علاقتي بمجموعة من الضباط وطباخ حسني مبارك وطاقمه الخاص، تطورت إلى درجة الصداقة المتينة؛ لهذا حينما جاء الرئيس جمال عبدالناصر إلى صنعاء في أبريل 1964، كنت ضمن الطاقم الذي عمل على تهيئة منصة الحفل الخطابي الكبير في ميدان التحرير، وحضره عبدالناصر والسلال والمشير عامر والسادات وخالد محيي الدين، وبقي ذلك الحفل واحدًا من أهم الأحداث التاريخية التي مرت في حياتي، فقد رأيت حُبّ اليمنيين لعبدالناصر وحبه أيضًا لليمن واليمنيين. اكتظ الميدان بألوف البشر الذين جاؤوا من كل المناطق المجاورة لرؤية زعيم الأمة.
"يتبع"