سطّر المدافعون عن صنعاء أروع البطولات وبقليل من الإمكانيات، وكان لإيمانهم بالجمهورية أو الموت دفاعاً عنها، الحافز السحري في صمود المدينة. حينما وصلت طلائع المقاتلين الملكيين إلى (قرية الدجاج) بالقرب من مصنع الغزل والنسيج في منطقة "شُعُوب"، سلَّم الجميع بسقوط المدينة، غير أن استبسال مجاميع الصاعقة بقيادة رئيس هيئة الأركان عبدالرقيب عبدالوهاب وإنزالهم أشر هزيمة بنخبة قاسم منصر، القائد الملكي في جبهة بني حشيش، أفسد هذا المخطط. عبود مهدي ورفاقه في منطقة عَصِر وهمدان لعبوا دوراً محموداً في تشتيت الملكيين في المنطقة الغربية والشمالية في جبهة همدان التي كان يقودها الأمير على بن إبراهيم حميد الدين.
أوصل جنود من اللواء العاشر مجموعة من جثث القوات الملكية على سيارة عسكرية مكشوفة إلى الميدان بعد معركة قاسية في رأس عَصِر، وكانت هذه العملية أشبه بجرعة تفاؤل كبيرة ضخها المدافعون عن صنعاء في نفوس السكان المحاصرين، والذين لعبت الدعايات الموجهة أثراً سلبياً عند الكثير منهم في الشهر الأول من الحصار.
أول تباشير النصر كانت حينما انتشرت الأخبار التي تقول إن قوات قبلية يقودها أحمد عبدربه العواضي والشيخ أحمد علي المطري والشيخ حمود الصبري، استطاعت فتح طريق الحديدة- صنعاء، ابتداء من مناخة والحميتين، وصولاً إلى منطقة "مَتْنَة"، وأن رئيس الاركان عبدالرقيب عبدالوهاب والمقدم عبود مهدي يقودان قوات نظامية تبلي بلاء عظيما في معارك أسفل جبل عيبان، ومناطق "حدة" و"النهدين"، حيث يتمركز الملكيون بقيادة الأمير محمد ابن الحسين وناجي بن علي الغادر- شيخ خولان.
أبلغوا لجان المقاومة التي كان يرأسها غالب الشرعي بأن تجتمع في ميدان التحرير صباح 8 فبراير 1968، وحينما تجمعنا، جاءت العديد من سيارات النقل العسكرية (فور جو) والقلاّبات (شاحنات نقل الأحجار ومواد البناء) لنقل منتسبي لجان المقاومة الشعبية، ومن يرغب من المواطنين، لاستقبال القوات التي فكت الحصار في منطقة "الصُبَاحة" برأس نقيل عصر. صعدت في إحدى السيارات المفتوحة ببندقي، وحينما وصلنا إلى النقطة التي تتجمع فيها القوات والأفراد الخارجين من صنعاء، وجدنا حسن العمري رئيس الوزراء القائد العام بلبسه الشعبي معتمراً كوفية خيزران ومعه سلاحه الشخصي، والقاضي عبدالسلام صبرة، عضو المجلس الجمهوري، وجميعهم بـ"المَحازِق" و"الطيّارات" والرصاص (أحزمة جلدية تربط على خصور وصدور وأكتاف المقاتلين معبأة بالرصاص) يتقدمون القوات وأمامهم دبابة وهي في طريقها إلى منطقة (مَنْد والمساجد) للإلتحام بالقوات الصاعدة من اتجاه الحديدة، وقبل تحركهم رأينا بعض مقاتلي القوات الملكيين ينسحبون من مواقع في الجبل، فقال العمري لقائد الدبابةومعاونوه: اضربوا طلقتين باتجاههم ففعلوا، فولوا هاربين باتجاه منطقة "متنة" غرب بني مطر.
بعد فكّ حصار السبعين يوماً بدأت تعود القيادات العسكرية الكبيرة والوزراء الذين غادروا المدينة أثناء الحصار، وعادوا للمطالبة بمواقعهم وامتيازاتهم السابقة، وكانوا يجدون من يدعم مطالبهم من المشايخ وواجهات الدولة
كانت هناك قوات قبلية بقيادة الشيخ أحمد ناصر الذهب وأخيه عبد الولي ومجموعة من مشايخ قبيلة (قيفة) في رداع، كُلَّف أفرادها بتعقب فلول الملكيين المحتمين ببعض القرى في "الجَعادِب" و"بيت نعامة"، وكنت ببندقي معهم، وحينما وصلنا أسفل الجبل توقفنا حينما رأينا حرائق تشتعل في بيوت قرية نعامة، ورأينا موشي القرية من أبقار وجمال وغنم وخراف، تهبط من القرية مفزوعة، ومن المواشي الفزعة كانت هناك "بَهْمَة" (بقرة صغيرة) ممتلئة تجري بكل قوتها فرآها أحد المسلحين القبليين، كان مع مسلح آخر بجواري، فصوَّب على رجلها رصاصة واحدة فبَرَكت (سقطت) أرضاً، فانطلق المسلح الأخر إلى موقع سقوطها، وأخرج جنبيته (خنجر يماني معروف يتزين به أفراد القبائل)، وجزّ رقبتها مع أخرين بعد جهد، ثم قاموا ببقر بطنها السمين لإخراج أحشائها، بعدها قاموا بتقطيعها دون أن يسلخوا جلدها، وكان نصيبي من هذه الذبيحة أحد فخذيها، طويته بـ"سماطتي" (قطعة قماش ملونة تستخدم غطاء للرأس عند الرجال بعد ثنيها وطيها كعصابة)، وعدت به قبل المغرب إلى مطعم العباهي في شارع جمال جوار "جامع البهمة" الذي نقدني صاحبه ثمن الفخذ ريالين مع عشاء دسم، اطفأت به جوعاً طويلا يلازمني منذ الصباح، لم تسده الكُدَم اليابسات (خبز جاف) التي وزعت علينا ظهراً. في اليوم الثاني عرض بعض المقاتلين القبليين الذين كنت معهم نوافذ وأبواب ومفارش وطنافس في باب السبح للبيع، فقد استولوا عليها من بيوت في "حدة" و"سنع"، كان يتخذها القادة الملكيون مساكناً لهم في فترة حصار المدينة، فقد نزلوا من عيبان باتجاه قريتي "حدة" و"سنع"، في ذات الوقت الذي عدنا نحن إلى صنعاء من اتجاه عصر.
بعد الحصار بدأت تعود القيادات العسكرية الكبيرة والوزراء الذين غادروا المدينة أثناء الحصار، وعادوا للمطالبة بمواقعهم وامتيازاتهم السابقة، وكانوا يجدون من يدعم مطالبهم من المشايخ وواجهات الدولة، الذين بدأوا يستشعرون القلق من وجود قيادات شابة من الضباط العسكريين، الذين افرزتهم فترة الحصار، وكانوا يرون في عودة القادة الهاربين وسيلة من وسائل تحجيم طموح الشبان الذي لا سقف له. هذه التراكمات والحساسيات هي التي ستقود لاحقاً إلى أحداث أغسطس 1968، ثم تصفية القائد عبدالرقيب عبدالوهاب مطلع العام 1969، بُعيد عودته من منفى الجزائر.
بعد الحصار بأسابيع قليلة عدت إلى القرية لأتزوج بزوجتي الثانية بعد طلاقي من الأولى، وكانت هذه الزوجة من بيت الفضلي، وهم أسرة قضاة معروفين في المخلاف، وأتذكر أن القاضي أحمد الفضلي هو الذي أوصل العروس إلى بيتنا ببغلته. وبعد شهرين من العرس تقريباً، وفي احدى زياراتي إلى القرية (خرابة الحرازي) تفاجأت أثناء وصولي إلى البيت بمسلحين قبليين بزي "العُكْفة" يمنعونني من الدخول إلى الدار، وطلبوا مني التوقف حتى يستأذنوا الأمير بدخولي؛ فقلت لهم: هذا بيتي، ومن هو الأمير الذي ستستأذنوه حتى أدخل؟ فقالوا الأمير محمد ابن المحسن؟ فألتمع الاسم برأسي؛ هذا أحد أمراء بيت حميد الدين، وكان زميلاً لنا في المدرسة العلمية، وهو أحد الذين تفاوضوا مع طلاب المدرسة العلمية اثناء مظاهرات صيف 1962. لكن ما الذي جاء به إلى بيتنا؟ وما الذي أبقاه في المنطقة بعد أن انكسرت شوكتهم بعد السبعين يوماً؟ أسئلة كثيرة بقيت تجول برأسي تبحث عن أجوبة واضحة ومحددة.
وحينما صعدت إلى المنزل دخلت مباشرة حجرتي ولم أصعد إلى الديوان، وعرفت من أمي أن الأمير وجنوده صار لهم أكثر من عشرة أيام مقيمين في البيت، وأنها مع نساء الأسرة اُنهكن من أعمال الخدمة وتنفيذ طلباتهم التي لا تنتهي. أما قصة الأمير ووجوده في بيتنا كما رواها والدي لاحقاً لي أنه أثناء حصار صنعاء كان أحد القادة الميدانيين للقوات الملكية في بني مطر غرب صنعاء، وأنه تزوج من إحدى الأسر هناك، وبعد هزيمة القوات الملكية وهروب ابن عمه القائد الأول محمد ابن الحسين باتجاه همدان ومنها إلى حجة وصعدة، قام أنسابه (عائلة زوجته) بتهريبه إلى وادي آنس وأقام في كهوف في منطقة بني خالد، وحين علم والدي بوجوده هناك ذهب إليه وقام بعزومته مع حُراسه إلى بيتنا من منطلق "العيب"، وأنه- أي والدي- كان قد تعيَّن نائباً لوزير الزراعة في حكومة الملكيين الذين شكلوها في منطقة "خِدار" أثناء حصار صنعاء. وكان يظن أن الضيافة لن تتجاوز الأيام الثلاثة، غير أن طيب الاقامة وممارسته للسلطة على السكان، جعلته يطيل في المكوث في المنزل.
من نوادر ما بعد "المصالحة" أن الكثير من المشايخ الملكيين كانوا يأتون إلى صنعاء مع مقاتليهم، ويعلنون ولاءهم للنظام الجمهوري، وكانت تسبقهم الطاسات والمرافع وينشدون الزوامل ويصلون إلى القصر الجمهوري، حيث تصرف لهم أموال كان يسميها أهل صنعاء (الزَلَج)
حينما علم والدي بوجودي في البيت جاء إلى حجرتي، وطلب مني الصعود إلى الديوان للسلام على الأمير وضيوفه فرفضت الصعود، وقلت له: كيف لجمهوري سبتمبري أن يذهب إلى إمامي وأمير من بيت حميد الدين؟ فغادر والدي الحجرة، لكنه سرعان ما عاد وهذه المرة غاضباً وقال إن لم أصعد للديوان فسينزل الأمير بنفسه إلى الحجرة، وأن الرجل ضيف علينا ومن العيب أن لا تصعد للسلام عليه.
وحتى لا اُغضب والدي صعدت إلى المجلس (الديوان) الذي كان مكتظاً بالضيوف، وأول ما دخلت نهض الأمير لمصافحتي، وأفسح لي مكاناً بجواره، وأعطاني من قاته الخاص، ثم بدأ بمجاملتي، مذكراً الحاضرين بأيام المدرسة العلمية في صنعاء وتزاملنا، وما إلى ذلك من الكلام، وأنا بيني وبين نفسى أعيش لحظات قاسية من هذا الموقف. وأثناء حديثه دخل أمين القرية وبدأ حديثه للأمير عن الذين دفعوا الزكاة، ومن الذي تخلّف عن دفعها للأمير، وجاء ذكر شخص امتنع عن الدفع بسبب فقره، فقال الأمير احبسوه، فقلت أنا: بل الذي يتوجب حبسه هو الأمين لأنه لم يراع ظروف الناس، وبعدين أيش من زكاة هذه التي تؤخذ على الناس في غير موعدها، ومن أنتم حتى تأخذون الزكاة؟ تكهرب المجلس وصمت الأمير. جلست قليلاً معهم، وعدت إلى حجرتي يملؤني الغضب. أحسست أن هذا الكلام كان يريح والدي الذي بدأ يضيق من طول فترة اقامته مع حراسه في البيت، رغم تعنيفه لي أما الحاضرين. كنت أتقوى بصوتي الجمهوري القوي والمنتصر بداخلي.
لم أصعد إلى الديوان في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث شاهدته من النافذة وهو يغادر مع حرّاسه إلى جرف في (جبل العُقْلة) خارج القرية، وتولى سكان القرية تزويدهم بالطعام والماء لفترة محدودة، وبعد فترة انقطعت أخباره، وقيل أن هناك من قام بتهريبه إلى منطقة الجوف، بعد أن قام بتسريح جنوده الباقيين، حين لم يستطع دفع أجورهم.
مرت الأيام حتى سمعنا بتوقيع المصالحة بين الجمهوريين والملكيين برعاية السعودية في جدة في مارس من العام 1970؛ مصالحة أفضت إلى تقسيم السلطة بين الطرفين، وكان من ضمنها استيعاب القادة العسكريين للملكيين ومقاتليهم في صفوف القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، فجاء العشرات الذين يحملون رتباً عسكرية كبيرة، أعطيت لهم بدون مؤهلات أو دراسة، فكان يطلب منهم النزول إلى الميدان والتدريب، فلا يستطيعون ويفضلون الانسحاب متوعدين ومهددين.
ومن نوادر ما بعد المصالحة أن الكثير من المشايخ الملكيين كانوا يجيئون إلى صنعاء مع مقاتليهم، ويعلنون ولائهم للنظام الجمهوري، وكانت تسبقهم الطاسات والمرافع وينشدون الزوامل (كلمات شعر شعبي غارقة بالعامية أشبه بالزجَل يؤديها مجموعة من المنشدين بإيقاعات لحنية محددة)، ويصلون إلى القصر الجمهوري، حيث تتم مراسيم استقبالهم، وتصرف لهم أموال كان يسميها أهل صنعاء (الزَلَج) ويغادرون بعدها مع مجاميعهم، فكان السكان حينما يسمعون الطاسات والمرافع والزوامل تتقدم المجاميع القبلية، يقولون (وصلوا أصحاب الزَلَج).
كان هناك عقد أمام موضع فندق سبأ اليوم يمر تحته الداخلون والخارجون من شارع علي عبدالمغني والتحرير، وكان يصعد عليه مجنون ظريف اسمه (علي البُهمي) ويمسك بالعلم الجمهوري ويلوح به للمارة، وكان حينما يرى "أصحاب الزلج" قادمين بصخبهم، يقوم بالترحيب بهم بصوت قوي ومتكرِّر: "ارحبوا يا سرق الملكية فوق سرق الجمهورية".