الخلفية التاريخية لثورة سبتمبر

الأوهام التي عرَّت البطل الأسطوري
سيف أحمد حيدر
September 22, 2023

الخلفية التاريخية لثورة سبتمبر

الأوهام التي عرَّت البطل الأسطوري
سيف أحمد حيدر
September 22, 2023
.

لم تكن ثورة 26 سبتمبر مقطوعة الجذور عمّا سبقها من نضالات وطنية لجماهير شعبنا، بل هي امتداد طبيعي لحركة وطنية شاملة بدأت بمقاومة الغزو التركي، والاحتلال البريطاني. وإذا كانت بدايتها قد اتسمت بالعنف المسلح، وامتداد ساحتها لتشمل أجزاء شاسعة من الوطن، ولتلف جماهير واسعة من حولها؛ فإن ذلك يعود إلى السمة الوطنية الخالصة لتلك المعركة. وإذا كان نضال شعبنا من أجل الاستقلال قد بدأ في وقت مبكر جدًّا، وركبت موجته قيادة متخلفة؛ فقد أصبح مضمون هذا النضال لا يتعدى الاستقلال، وطرد المحتلين المدنسين لتراب الوطن. 

وكان من النتائج الطبيعية أن الحصول على بعض المكاسب الوطنية في ظل قيادة متراخية خانعة لا بد أن يؤدي إلى وقف المد الوطني، وبلبلة وحدة المقاتلين وإرادتهم، غير أنّ التنازلات الوطنية من قبل أي حاكم حتى ولو كان بمثابة الأسطورة كالإمام يحيى، لا بد أن تضعه موضع التساؤل في قليل أو كثير، وقد بدا مثل هذا التساؤل عقب صلح دعان، وانتهى بمصرع الإمام المؤلّه في حركة 1948.

وإذا كنا نسلط الأضواء على هذا الحدث؛ فلأنه يمثل خلاصة التحولات الهامة في اتجاه الحركة الوطنية ورايتها المشرعة ضد الغزاة، ومن أجل تحرير الأرض ووحدتها؛ فلقد كان هدف الحركة الوطنية يستوجب القضاء التام على الاحتلال الأجنبي، إلا أن المقاتلين ضد الأتراك قد أصيبوا بخيبة الأمل عندما وقع يحيى صلح دعان سنة 1911م الذي اكتفى منه الإمام –القائد المنتصر– بما يشبه الحكم الذاتي، وترك للأتراك السلطة المباشرة الإدارية والشرعية على أجزاء شاسعة من البلاد، والسلطة السياسية على عموم الوطن، واكتفى لنفسه، برضى تام، بمعاش شهري، وبعض السلطات الدينية على جزء آخر.

وكان من الطبيعي أن يبدأ التململ والتساؤل والشك بنوايا الإمام؛ غير أنه من طريق ترديد نفس الشعار الذي كان يجد عشرات المبررات لرفضه بالأمس؛ ألا وهو حقن دماء المسلمين ووحدتهم، استطاع عن طريق ذلك تجميد الموقف، والتغلب على بوادر الرفض، ومن زاوية أخرى، فقد كان يمكن أن يكون صلح دعان خطوة على طريق "خذ وطالب"؛ لو أن الإمام استمر في مجابهته للأتراك، وفي أسوأ الظروف يصل للمناطق التي يمارس عليها نفوذه الديني، وبالذات القضاء، وجباية الزكاة؛ لتنعم بالعدل، وتحظى ببعض الخدمات؛ حتى تكون مصدر الإلهام لبقية المناطق المحتلة.

لقد أغمض عينيه عن كل شيء، إلا مركزه ومزاياه الشخصية، في مواجهة الأتراك، وقد ساعدته الظروف بانفجار الحرب العالمية الأولى التي غدت تركيا طرفًا رئيسيًّا فيها في تجميد المشاعر والأوضاع، حيث ساعدت يحيى إلى حد كبير في التغلب على ردة الفعل، وتجميد المطالب الوطنية من جهة، والتغلب على خصومه وأي مقاومة من جهة أخرى، وذلك لسببين:

الأول: يتمثل في ذلك التعاطف العام مع الأتراك بصفتهم مسلمين في مواجهة الإنجليز الكفار أعداء الله، وانشغال الرأي العام بتطورات الحرب ومعاركها. 

الثاني: تدفق الذخائر والمعدات العسكرية التركية إلى اليمن قبل دخول تركيا الحرب مباشرة "تحسبًا للحصار البحري البريطاني المسيطر على البحر الأحمر؛ ولكي تتمكن القوات التركية من الزحف على عدن، والسيطرة على باب المندب، وقطع المواصلات بين الإنجليز ولؤلؤتهم الهند عوضًا عند السويس".

"ولما كانت العلاقة وطيدة وحسنة بين الوالي التركي والإمام الذي أصبح ملكًا فعليًّا أثناء الحرب؛ ونظرًا لفشل الأتراك في أداء مهمتهم، ووقوفهم خارج أسوار عدن بلا جدوى؛ فقد كان ذلك يعني أنه قد أصبح لدى الإمام كمية هائلة من العتاد والذخائر لمواجهة أي رد فعل معادٍ له".

وبالفعل فقد سلمت القوات التركية كل عتادها للإمام، وطلب القائد التركي منه إرسال قواته لاستلام المناطق الجنوبية التي حررها من الإنجليز عقب هزيمة ألمانيا وتركيا، إلا أن الإمام تجاهل ذلك؛ مما ولّد خيبة أمل أخرى، وبالرغم من أنه كان قد استحوذ على المزيد من الأراضي، فإنه قد أبقى على عاملين مهمين يستحوذان على اهتمام كل اليمنيين، هما: وجود الإنجليز في عدن والمناطق الشرقية والغربية من جنوب الوطن، ووجود الأدارسة- عملاء الإيطاليين أولًا والإنجليز فيما بعد في عسير وتهامة. 

وهكذا انتزع الاستقلال، والإنجليز في جنوب الوطن، وإمارة عميلة لهم في عسير وتهامة، وزاد الطين بلة استيلاء الإنجليز على ميناء الحديدة، وتسليمه للإدريسي، وكان ذلك يكفي لجعل الجيش الوطني يواصل مشواره في اتجاه تحرير التراب اليمني، وتوحيده، وغض النظر عن مساوئ الأوضاع الداخلية، ولم يكن بوسع الإمام إلا أن يرفض رفضًا جازمًا سياسة الأمر الواقع في مواجهة الإنجليز والأدارسة، وتمكن من الانقضاض على الأدارسة وتحرير ثغر ومعظم تهامة حتى وصل إلى ميدي، في حين لجأ الإدريسي إلى الملك عبدالعزيز، ووضع ما تبقى من إمارته تحت حمياته بموجب اتفاقية الطائف سنة 1926م [بين الإدريسي والملك عبدالعزيز]. هذه الاتفاقية التي كانت سبب الحرب بين البلدين، وانتهت باتفاقية الطائف سنة 1934م [بين الإمام يحيى والملك عبدالعزيز].

حركة المعارضة أخذت معالمها وهويتها في ظل ظروف غاية في التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ معتمدة على قوى اجتماعية لا تشكل أي جديد؛ لأنها لم ترغب في ذلك، بل لأن هذا الجديد لم يوجد بعد؛ فالفئات البرجوازية التي أخذت تتصدر النضال الوطني والاجتماعي في بقية أقطار العالم العربي لم تكن قد ولدت بعد في اليمن.

وربما كانت الحروب الوطنية من أقوى الأسباب والعوامل التي تدفع الشعوب إلى معرفة نواقصها وحاجاتها وتفضح حكامها؛ فضرب الطائرات البريطانية لعدة مدن وقرى يمنية، وإجبار الإمام على الانسحاب من مناطق متعددة في جنوب الوطن، ووقوف الحاكم والشعب مشلولي الحركة لا حول لهما ولا قوة لمواجهة الطائرات، ونشوب الحرب السعودية-اليمنية، قد كشفت مساوئ وحكم ومغزى الاستقلال الذي حصلنا عليه؛ ولذلك فليس من الغريب أن نرى عبدالله الوزير- بطل النصر في الحديدة، وبطل اتفاقية الطائف، هو بطل حركة 1948م ضد الإمام يحيى. إن عدة عوامل في الثلاثينيات قد ساهمت في سوق المناضلين الوطنيين إلى منحى آخر، وطريق جديدة، فجبروت الاستعمار البريطاني، واستخدام الطائرات لضرب المدن والقرى، وعجز الحكومة المستقلة من عشر سنوات عن أي دفاع، فضلًا عن الرد والردع، واستسلام الإمام، وانسحابه من كافة المناطق التي طالبه الإنجليز بالانسحاب منها، والحرب السعودية اليمنية ونتائجها؛ كل ذلك قد عرى البطل الأسطوري، وسلط الضوء على سلبياته. 

وهنا يمكن القول إن حركة المعارضة أخذت معالمها وهويتها في ظل ظروف غاية في التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ معتمدة على قوى اجتماعية لا تشكل أي جديد، لا لأنها لم ترغب في ذلك؛ بل لأن هذا الجديد لم يوجد بعد؛ فالفئات البرجوازية التي أخذت تتصدر النضال الوطني والاجتماعي في بقية أقطار العالم العربي لم تكن قد ولدت بعد في اليمن، ولأن حركة التاريخ لا يمكن أن تتجمد؛ فقد ظهرت المعارضة وولدت من قلب الطبقة السائدة، وكان من الطبيعي أن تلجأ إلى نفس السلاح الأيديولوجي، وتعطيه مضامين تقدمية ومتطورة، وتلجأ إلى أساليب المناورة المختلفة، واستقطاب العناصر الغاضبة، واستغلال مختلف التناقضات في نفس الطبقة. 

وهكذا قامت حركة 1948 كنتيجة طبيعية لهذا الوضع الذي حدد مستوى التطور، إلا أنّ الحركة قد كانت إرهاصًا لتحولات جديدة، وضرب النفير لكي تتصدر النضال قوى أكثر جذرية من حيث الانتماء الاجتماعي والتفكير السياسي؛ الأمر الذي أتى في النهاية بثورة سبتمبر 26.

المصدر:

  • نشرت هذه المقالة في كتاب ثورة 26 سبتمبر – دراسات وشهادات للتاريخ، دار العودة- بيروت، الطبعة الثانية 1/ 10/ 1986، ص 93-99. وأعيد نشرها في كتاب سيف أحمد حيدر: الإنسان والموقف (1943-2000).

•••
سيف أحمد حيدر

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English