أيام في صنعاء (3)

قداسة العتبة
محمد الصالحي
August 27, 2022

أيام في صنعاء (3)

قداسة العتبة
محمد الصالحي
August 27, 2022
Photo by: Mohamed Al-Selwi - © Khuyut

 نَجتازُ عَتبةَ "باب اليمن" المُقدّسة، دَخَلنا، بَداءةً، مرقدًا أو قُلْ إنّهُ مَأوى، حيثُ يَتمَدّدُ أناسٌ، من أجيال شَتّى، على مَصاطب إسمنتيّة، عليها حَصائر، أو ما شَابَه. كأنّما هُم أبناءُ سبيل، أو قد حلّت بهم أوْصابٌ، فأفْرِدُوا إفرادَ البَعير المُعَبّد. لكنّني سأعلمُ، بَعدئذ، أنّ الأمرَ غير ذلك. بشّوا في وُجوهنا مُرحّبين. تبادَلنا معَهُم حديثًا سريعًا، وغادَرْنا المكان. ندخلُ، غير بَعيد من المرقد ذاك، معصَرَةَ بَيْت السّمسم. معصرة تقليديّة حيثُ يُستَخدَمُ الجَمَلُ لتَدوير قُطب المعصَرة الخشَبيّ لهرْس حبّات السّمسم. ويُسَمّي اليَمَنيّون السّمسم: الجلجل أو الجلجلان. 

  نَتوَغّلُ في أسواق صَنعاء القديمة، حيثُ لتداخُل الأصْوات وَقْعُ الحَنين إلى مَأمول يظلّ مَأمولًا. نَتوَغّلُ في دُروب ضَيّقة، يَقودُنا شغفٌ خَصيب، وتدفَعُنا من الخَلْف، لهفَةٌ شَغوف. ينشبُ فينا المكانُ أظفارَه، فما تنفعُ التّمائم. سَطوَةُ العَتاقة وجَبَروتُها: سوق البز - سوق الفضّة - سوق الحلقة - سوق المعطارة - سوق الحرير - سوق السمن والسليط - سوق القشر- سوق التنباك - سوق السلب - سوق الحَبّ (بالفتح) -سوق الزبيب - سوق الملح - سوق الذهب - سوق القات... وهلمّ سوقًا. أسواقٌ تضربُ بعروضها أطوالها. أشتَمّ وأشتَمّ. هَزَزْتُ إليّ بجذعِ الرائحَةِ فاسّاقط المَاضي عليّ رطبًا نَديًّا. لقد جُبلَ أنْفي على خُلُق ذَميم.

  نَقْتَني تذكارات: جَنْبِيَات وعقيقًا وحريرًا وبخورًا. كما نُووِلْنا، ليلة الإيّاب، بُنًّا وعسَلًا وكُتُبًا عن اليَمن السّعيد، حملها إلينا مُستشار وزير الثقافة اليَمَنيّ الشابّ، الهادئ، الخَدوم، جميل الصالحي، الذي ما نَاداني، طوال مُقامنا، إلّا بابن العَمّ.

  ثمّ إلى "سمسرة النحاس". ذلك النّزل العَتيق الذي صارَ مَحلّات صَغيرةً، يتوَسّطُها حِرَفيّون، ذَوُو خبْرة ومِراس شديدَيْن. يَبدُو لك الواحدُ منهُم مُنهَمكًا في السّبك والحَبْك بتَفانٍ وفَرَح. أيَادٍ ذكيّةٌ عاشقةٌ تُخرِجُ مَنتوجات ومَشغولات تُراثيّة من موادّ خام: عقيقًا و أحجارًا كريمَةً وفضّيّات...

  "سمسرة النحاس"، المُنتَصبَة وسطَ سُوق الملح، شَرق الجامع الكبير. البناية ذات الطوابق الأربَعة. في كُلّ طابق ما يُلهيك عن بَقيّة الطّوابق. صَعدْنا السّطح، فرأيْنا صَنعاء القديمةَ عن قُرب ومِنْ عَلٍ. رأيْنا صَوامعَها. إنّهُ المَشهدُ الأخّاذ الذي اختارَه فرانك ميرميه، وهو باحثٌ فرنسيّ مُتَخَصّصٌ في الشّؤون اليَمَنيّة، غلافًا لكتابه: "شيخ الليل - أسواق صَنعاء ومُجتمعها".

  يُحدّثُنا محمد عبد الوهاب الشيباني عن طابَع "السمسرة" المعماريّ، عن الحَجَر الحبش، وهو حَجَرٌ شديدُ الصّلابة، عليه وبه تقومُ العُقود المُعَلّقة على شَكْل أقواس. ويُحَدّثُنا عن حَجَر ذي اسْم غَريب: العباصيري، الذي يُقاومُ تَسَرّبَ المياه. ثمّ أفاضَ واستفاضَ في تبيان كيفَ يُراعى التّدرّج في الألوان والحَجَر، في العمارة اليَمَنيّة.

  نُغادرُ "السمسرة"، تَدفَعُنا اللهفةُ الشّغوف ذاتُها إلى "حيّ الأبهر"، من حيثُ سنختمُ التطواف. إلى مَقهى عَتيق شَهير هُناك. شُهْرَتُهُ من شُهْرَة صاحبه: يحيى النبوص، صاحب الصّوت الخافت الشجيّ. العَجوزُ الذي يقطرُ تاريخًا وذكرى. هُناك في الرّكن الجَنوبيّ من حارة الأبهر، في قلْب صَنعاء القديمة. مَررْنا من أمام حمّام هُناك، ثمّ ها نَحنُ في المَقهى. حكى لنا يحيى النبوص عن ماضي المكان، عن رُواده الرّاحلين، أجانب وغيْر أجانب. ثمّ حَكى لنا كيفَ كان جان لامبير يدقّ على "القنبوس"، وهو الاسمُ الصّنعانيّ للعُود القديم.

  نَؤوبُ إلى "باب اليمن"، إلى العَتبَة المُقدّسَة. نَلجُ مَحلّ صرافة، فراعَنا كيف أنّ الصرّاف يَتَوَسّطُ أكوامًا من الأوراق النقديّة، يكادُ المَحلّ الضيّق، أصْلًا، أنْ يَفيضَ بها. أوراقٌ تُبهرُك ألوانُها وتَسْتَثيرُك من بَعيد. ثمّ راعَنا أنّ الكتابة على الأوراق النقديّة، عند اليَمَنيّين، عادَةٌ. واليَمَنيّون، عُمومًا، ذَوو خُطوط مُنمنمة. 

  عُدْنا إلى الفُندق في وسائل نَقْل شَعْبيّة. قَضينا الليلةَ، مُستوفزين، مُستعجلين الصّباح، مُستعطفين الليل أنْ تقلّ نُجومُه، ثمّ يَنجَلي. نَحنُ على مَوْعد مع "كوكبان".

كوكبان 

  خَطرَ ببَالي، ونَحنُ في مُحافظة "المحويت"، بَعد أنْ تناوَلْنا الغداء في "كوكبان"، وقضَيْنا بها وقتًا، ونَحنُ نُطلّ من أعلى جَبَل مَهيب إلى أسْفل سَحيق، ما قرأتُهُ في "اليمن، رحلة إلى صنعاء 1877-1878"، لـرينزو مانزوني، كيف أنّ الفَرنسيّ جوزيف هاليفي أرْغَمَهُ الفزعُ على العَودَة إلى عدن، وكان يَروم صَنعاء، بَعْد أنْ رَأى ما رَأى. كما انتابَني ما انتابَ الراحل أمجد ناصر، وهو يَرنُو إلى أسْفل، من قمّة تَستطيعُ أنْ تَعْتَليَ منها صَهْوَةَ السّحاب، قادمًا، برًّا، من عدن إلى صَنعاء، في طريق قعطبة المارّ بقاعدة العند، مُحافظة الضالع. لقد كفَاني أمجد عناءَ التّوصيف. لقد أبْدَى وأعادَ في "أكثر من سماء": الإحساسَ ذاتَه، الرّهْبة ذاتها، الرّجفان ذاته، القُشَعريرة ذاتها. الفارقُ الوَحيد أنّ أمجد كان يقفُ مُرتجفًا وَجِلًا من الوُقوع في المياه التي تَتَلَألأ من أسْفل، في حين كنتُ أرتجفُ وَجِلًا من أنْ أصيرَ لُقْمَةً سائغةً، لو زَلّت قدَمي، للأغْربة المُحَوِّمة حَوْلَ بَقرَة نَفقت للتّوّ، كما أخْبَرَنا الأهالي. أغْربة كانَت من الكثرَة حتّى إنّها حجَبَت عن ناظرينا القُرَى المُتناثرة في الجبال، كأنّها عصائب طَير، تعودُ مساء، خابطةً أجْنحَتَها مُتَلَمّسةً مَوطئًا في أغصان الشّجَر. تَمْتَمْتُ في أذن خالد بلقاسم:  (بحر الكامل)

زَعَمَ البَوارح أنّ رحْلَتَنا غدًا   وبذاك خَبّرنا الغُراب الأسود

فأخَذْنا أشْهَر إقواء في الشعر العربيّ، إقواء النابغة، وما جاوَرَ الإقواءَ من عُيُوب القافية، بلُطْف، من مِعْصَمَينا، ونأى بنا، بَعيدًا عن الفَزَع والرّعْب والدّوار.

عبد السلام بن عبد العالي وحسن نجمي وخالد بلقاسم

حيّى الله من جاء

  كدَأْب مَنْ نَمَا في نعمة، ونَشَأ على مكرمة، جاءَنا محمد عبد الوهاب الشيباني، صباحًا إلى الفُندق، قال آخذُكُم إلى "سنع". أُزيرُكم جنّة على بُعْد فراسخ من صَنعاء. كُنّا أربعة. وما هي إلّا فُسحَة من الزّمن يَسيرَة، حتى ألفَيْنا أنفُسَنا في بلدة ذات ثِمار ومَجار وظِلال، عند سَفْحِ جبل "عيبان"، وهو الجَبَلُ الذي يَحرُسُ صَنعاء غَربًا، كما يَحْرُسُها نُقم، شَرقًا.

  الشاعر محمد عبد الوهاب الشيباني، ابنُ تعز، وأحدُ الشّباب اليَمَنيّين النّشيطين. يقطرُ دماثةً وكاريزما. نشأتْ بيني وبينَهُ صداقة. سَرّني أنّني حَظيتُ ونعمتُ بالجُلوس إليه، ثانية، في القاهرة، بعد مُدّة من أيّامنا الصّنعانيّة. كان الشيباني، زادَ الله في الأماثل من أمثاله، قرأ لي بَعضًا ممّا كتبتُ عن إيقاع قصيدَة النثر، فكان ذلك موضوع حديث طويل مُتفَرّق بَينَنا، طوال إقامَتي. وكان الشيباني أهْداني ديوانه: "أوسع من شارع... أضيق من جينز" (2003).

  تَمرّ جوارَ مسجد "سنع" العَتيق عينُ ماء تحفّها أشجارُ المشمش واللوز والبرقوق والجوز والكمثرى والتين، والأعناب خاصّة. وأذكرُ كان هُناك ماعز. ولا عجَب، فسنع، سناعة، وسنوعًا، في اللغة، طالَ وَارتفعَ وجَملَ وحَسُنَ. وقد جمَعَت "سنع" المَجد من تَلابيبه: الحُسن والعُلُوّ.

  قلتُ: "أظنّ اسْمَ هذا المَسجد "مسجد عرابة"، إذ لمْ تُخْبرْنا الكتُبُ التاريخيّة عن مَسجد شيعيّ غَيره في "سنع". وهو من مَساجد مذهب المطرفية، وهي فِرقةٌ زيديّةٌ أخَذَت اسْمَها من اسْم مُؤسّسها مطرف بن شهاب، من أعلام أواخر المِئة الرابعة وأوائل المِئة الخامسة للهجرة، وهو مِنْ شيعَة الإمام الهادي يحيى بن الحسين. وقد يكونُ المَسجدُ هذا هو ذاتُهُ الذي فرّ إليه واختَبَأ، القاسم الأكبر، مُؤسّس فرع الأئمة الزيديّين الذين حكموا من صَنعاء (وُلد في 1570م). لكنّ الأتراكَ تَمَكّنُوا من وَضْع يَدهم عليه، بَعد وشاية. والقاسمُ هذا من أحفاد علي بن أبي طالب. جادَلني الشيباني في الأمْر، مُشكّكًا، فصارَ يُطارحُني الحُجّةَ بالحُجّة. وما زلنا بين أخْذ ورَدّ، وبين شدّ وجذْب، نَروح في التاريخ ونَغتدي، إلى أنْ أفْحَمَني، فحططتُ عصا التسيار. 

  كان بالبَلدة -يُخبرُنا الشيباني- قصرٌ فَخْمٌ من قُصُور الإمام يحيى هو "قصر الرّوضة". كانَ مَزارًا للسياح، قبْل أنْ تَمتدّ يدٌ آثمةٌ فحَوّلَتْهُ إلى فُندق. أقولُ له، مازحًا، أو كلّما رُمْنا التّبَرّك بزيارَة أثر أو مَعلم، امتَدّتِ اليَدُ الآثمةُ تلك، فصَيّرَتْهُ فُندقًا! إشارةً منّي وتلميحًا إلى مَنزل رامبو في عدن.

  اللافتُ في "سنع" الشّبَه الكبيرُ بين سحنات أبنائها وسحنات أبناء السّوس الأقصى، والشّبَه في طَريقة بناء الصهاريج وتَدبير المَغرُوسات والمياه. وقديمًا تفطّنَ ابنُ بطوطة إلى الشّبَه هذا، بين المَغرب واليَمَن. قال في "تحفة النظار": "ومِنَ الغَريب أنّ هذه المدينة (يقصدُ ظفار، عاصمة حِمْيَر)، أشبه الناس بأهل المغرب في شُؤونهم".

  ولجْنا المَسجدَ المَهيب، وانتحَيْنا زاويةً منه. أورادٌ مُعلّقة- أجواء شيعيّة- صُوَر- رُسومات- أيقونات... وقد أكونُ رأيتُ هُناك نذورًا. وقد برعَ صاحبُ "المنشورات الجلية" في وَصْف مَساجدِ صَنعاء، وذكرَ أساليبَ تَدبيرها، فلم يَدَع زيادَةً لمُستَزيد.

  غادَرْنا المَسجدَ، فقادَنا الشّغفُ بالمَكان إلى جنان. يقولُ لي شيخٌ وقورٌ صادفْناه هُناك، بعد أنْ علَتْ وَجْهي أماراتُ الرّضا، وانحنَيْتُ، قليلًا، لألمسَ المياهَ الجاريةَ بأطراف الأصَابع: "بلدةٌ طيّبةٌ وربٌّ غَفور"، أقولُ له: إنّ المُرادَ بالبَلدة الطيّبة، في الآية، سَبَأ. فيقولُ لي بزَهوٍ بادٍ: كُلّ اليَمَن، سَبأ!

  تَحلّقَ حولنا سِرْبُ أطفال ترشَحُ وُجوهُهم بَراءةً وجَمالًا وفطنَة. بجنابيهم ذات الألوان الزاهية، إذ لا تفرّق الجنبية، في اليَمن، بين الصّغير والكبير. حاولتُ تبيّن ما يصدُر منهُم من هَمهَمات، فما أفْلَحْت. أخْبَرَني الشيباني أنّهُم يُردّدون "حيَّى الله من جاء"، وهي طريقةُ ترحيب اليَمَنيّين بضُيوفهم، من زَمن بعيد، وذلك فيهم، سُنّة وطبعٌ أصيل. وسأقرأ لاحقًا، في "الرحلة اليَمَنيّة" للثعالبي، أنّ الإمام يحيى حيّاه بها يومَ قَدمَ صَنعاء من عَدن، مارًّا بإب وذمار. "حيَّى الله من جاء" أوه! كمْ يَبدُو التّرحيبُ ذاك، من أفواه الأطفال أولئك، عَذبًا، ذا وَقْعٍ في النّفْس، فَريد.

  التفتُّ إلى "عيبان"، ونحنُ قافلون، لأرَى "عيبان". قلتُ في نَفْسي لعلّها المَرّةُ الأولى والأخيرةُ التي أرَى فيها "عيبان".

•••
محمد الصالحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English