إلى محمد الأشعري
"وأريدُ أنْ أسْتَروحَ اليَمَن اليَمان
أريدُ أنْ أجدَ الشّجَيْرَةَ حيثُ أرْخَى الجدّ خصلتَهُ
أريدُ الرّيشَةَ الأولى لأُشْعلَها
فلعلّ ذاك البَرقَ يَأتي بالسّحابة من بلادِ الجان."
سعدي يوسف.
استهلال
صَنعاء، يَرنّ الاسمُ في أذني. رجفةٌ في الفُؤاد. ابتهالٌ في القَلب. تَلعثمٌ في الخُطى. هُنا، حيثُ الكينونةُ تَرتَعشُ، وحيثُ الزمانُ يَرنّ. كأنّك في الطّريق إلى رعشَةٍ وُجوديّة غيرِ مُدرَكة. هُنا حيثُ أستَشعِرُ وَقْعَ أناملِ الزّمن وهو يربتُ على كَتِفي.
أُهَدهِدُ صَنعاء فيتَضَوّعُ الزّمَنُ منها. تَصطرعُ الأحقابُ وتَتَخافَق. يَتفَصّدُ جَبينُ صَنعاء تاريخًا وذكرى. هَزيمُ الزّمن فيها كما لو أنّهُ عَزيفُ ريح في فلاة. يُلمسُ ويُقبض، ثمّ يَنسرب، خفيفًا، من بَين فرجات الأصابع. هَزيمٌ كجَعْجَعَة رَحى. أسيرُ، في صَنعاء، مُتّكئًا على خَيطِ شَمس، واضعًا حافِري على حافرِ الزّمن.
يَأخُذُني القَدَرُ البَهيجُ من رسغ يَدي. أنْحَني لألثمَ يَدَ القدَر البَهيج. أجيءُ إلى صَنعاء، لأتَذَكّرَها. أُغْمضُ العَينَ، فيها، لأرَى. أُغْمضُ العَيْنَ لتَتّقدَ الحَوَاسّ.
الشّمّ والسّمْعُ، في صَنعاء، لا البَصَر. هُما الدليل، وهُما الطريق. قُل لحاسّة الشّمّ، وأنتَ في صَنعاء، أنْ تَتَهَيّأ وتَطُوف. قُل للسّمع أنْ يَشحَذَ همّتَهُ ويَطوف. الألوانُ فيها، سيّدَةٌ، ذاتُ صَولة وصَولجان. تُدرَكُ بالأنْف والأذن، لا بالعَين.
اسْتَعِنْ، وأنتَ في صَنعاء، بلُغَة سابقة على اللغة، لأنّك في زَمَن سابق على الزّمن. لغةٌ أخْفَقَتْ في أنْ تكونَ لغة، لأنّها هي اللغة الحَقّ: أحاسيسك الشّمّيّة واللمْسيّة والذوقيّة. أنْ تلمسَ وتتماسّ، كأنّك على عَتبة الوُجود. كأنّك في عُنق الرّحِم كما الجَنين. حتّى تَأتَزرَ الكلماتُ بالحَياة. حتّى تَأتَزرَ الحياةُ بالكلمات.
ها إنّني أتيامنُ، تيَمّنًا بسُهيل. سُهيل الذي، عند طُلوعه، تَنْضجُ الفَواكهُ ويَنقَضي القيظُ. عكس النّوق التي، ساعة طُلوع سُهيل، تَستديرُهُ، خشيَةَ مَوت.
كضَارب أكباد الإبل إلى بَلد بَعيد ليَبْلغَه، فما بَلغَ البلدَ البعيدَ، وما بَلغَ نَفْسَه. كأنّني أبحثُ لي عن مَحْتَد، عن عِرق، عن أوّل.
صَنعاء. كتابُ ما لارميه الذي نَسعَى يائسين، إليه. إنّها الماضي القادمُ من مُستقبَل سَحيق، لا يَني يُوغِلُ في التّأبّي.
أتبَتّلُ. ربّ كُنْ لي عَوْنًا، احلُلْ عُقدةً من لساني، ربّ، لأقُلْ شيئًا ذا بال. إفراغًا لغصّة، تَنفيسًا عن ذكرى.
أنا الآن في صَنعاء، ضِمْنَ وَفد عَريض مَديد، ضَمّ أدَباءَ وفنّانين ومُفكّرين، لإحياء فِقَرَاتِ الأيّام الثقافيّة المغربيّة بالجمهوريّة اليَمَنيّة (من 18 إلى 23 يونيو 2004)، والمُناسبة، إعلان صَنعاء عاصمة للثقافة العربيّة، واحتفاء بالذكرى السبعمائة لميلاد ابن بطوطة. إنّها رحلَتي الأولى خارجَ المغرب، ومِنَ اللطائف أنّها إلى اليَمَن كانَت.
تَتهادَى الطائرةُ فَوق جبال "السروات"، ثمّ فوق الهضَبة اليَمَنيّة، حيثُ تنام، في دعَة، صَنعاء، قبْل أنْ تحطّ في "مطار صَنعاء الدوليّ".
في غُرفتي في "الشيراتون"، ليلًا، وقد هَدّني التّعَب، ولفّني شُرودٌ مُريب، مَلفوفًا في قَلق غامض، أسترجعُ مَسارَ الرّحلة من الرّباط، فالدار البيضاء، فدُبَي، فصَنعاء:
- الانتظار الطّويل في مطار دُبَي. الأجسادُ الآدميّة القادمة من الأماكن كلّها، والذاهبة إلى الأماكن كلّها. أجسادٌ مُتراميةّ، مُتهالكة، تَفترشُ أرضيّة المطار. خَليط أصْوات ورطانات. تَدافُع أرجُل وحَقائب.
- إقلاع طائرة عَسكريّة يَمَنيّة إلى "صعدة"، لحظة هُبوط الطائرة في مطار صنعاء الدوليّ، والدويّ القويّ الذي أحدَثهُ الإقلاع، والذي رَدّدَت الجبالُ المُحيطةُ صَداه، لنَعْلَمَ، مساء، أنّها أوْقَعَتْ سَبْعَة قتْلى في صُفُوف قُوّات الحوثي. فقد تَزامنَ وُصولُنا مع بَدء المَعارك بين الجيش اليَمَنيّ وقُوّات حركة "أنصار الله" الزيديّة، في صعدة، شمال اليَمن، قبْل أنْ تَنتقلَ المَعاركُ إلى "الجوف" و"حجة" و"عمران".
- لحسن أزولاي، سَفير المغرب في اليَمن، الذي شدّ على أيَادينا عند الوُصول كما عند المُغادَرة. بل إنّه زارَنا في الفُندق، ذات مساء، مُطمئِنًّا، ثمّ أوْلَمَ لنا، بَعد ذلك، فتناوَلنا العشاء إلى مائدَته. ولا تحسبَنّ الصّنيعَ ذاك، الذي خلّفَ في نُفوسنا الأثرَ البالغ، من صَميم مهامّه. إنّما هي جِبلّة يُجبلُ عليها الشّخصُ، فتَغدو خصلةً من خصاله، وطبْعًا من طباعِه. وقليلٌ مَن أوتيَ الفضل ذاك. في زَمن وَضيع، رَذيل، مَرذول.
أحارُ، أأنا في تذكّر أم في مَنام. مَنام في يَقظة. يَقظة في مَنام. إنّها السرنمة. في الهَزيع الأخير من الليل، أرَى إلى جبل " نُقم"، المُطلّ على الفُندق، فبَدا لي سَبّابَةً تُشيرُ إلى أعلى. يَكادُ ظفرُها يَخدشُ وَجْهَ السّماء الطفوليّ الصّقيل.
"دار الحجر" القَصرُ المنيف الذي يَنامُ في دعَة، على مقرُبة من صَنعاء. في شمالها الغربيّ. القصر ذو الطوابق السّبعة (ولك أنْ تتأمّلَ الرّقم ودلالته)، الذي وَضَع تَصْميمَهُ واعتَنَى بتَشييده، أواخر القَرن الثامن عشر، العالمُ الشاعر علي بن صالح العماري
صَبيحة اليَوم المُوَالي، والطّير في وكناتها، أقتعدُ كرسيّاً وثيرًا، في بَهو الفُندق، على يَمين الاستقبال، مُتحَفّزًا لهُبوط الدّرج إلى المَطعم، يَلجُ وزيرُ الثقافة المغربيّ، محمد الأشعري، بابَ الفُندق، قادمًا من المَطار. أقومُ لتَحيّته، فيَسألني عن أحوال الوَفد وظُرُوف الرّحلة والإقامة. إنّها المَرّة الأولى التي أصافحُ فيها الأشعري، وأقابلهُ وَجْهًا لوَجْه، عدا ما جَمَعنا، أكثر من مرّة، في لقاءات أدبيّة، أو في مُؤتمرات اتّحاد الكتّاب.
من ريشها طوّقني مئزر
أستحضرُ سُليمان العيسى عند بوّابة "بيت الثقافة"، في شارع سيف بن ذي يزن، في قلب صَنعاء، وهو البَيتُ الذي احتضَنَ جُزءًا من نشاط الأسبوع المَغربيّ: معرض الكتاب - معرض المَشغولات اليَدَويّة - معرض اللوحات التشكيليّة. أستَحضرُهُ وهو يُواقفُ الأشعري وصلاح الوديع. يُحادثُهما تارَةً، وتارات يَرَى إلى رَقصات فرقة "الرّكبة "، مُستَمْتعًا بدقّات الطّبول وصَيْحات محمد القرطاوي المُثقلة بالعِبرة. القرطاوي مُدَوزنُ إيقاعِ الفِرقة، وضامنُ سلامَةِ زحافاتها والعِلل.
فِرقة "الرّكبة" القادمةُ من زاكورة. مِنْ ثَراءِ الصّحراء. مِنْ نضَارَة كُثبانها. من فتنَة أدْعاصها. الفِرقةُ التي لا أُخْفي عليك أنّني، مَهْما بَذلتُ، عاجزٌ لا مَحالة، عن الإحاطة بما يُحدثُهُ إيقاعُها في ذاتي. تَختصرُ رَقصاتُها وصَيحاتُها أيّامَ الإنسان السّبعة. ضيق المَسافة بين ولادَته والمَمات. حَيرة الآدميّ الذي، كلّما تقدّمَ الزمانُ به، اتّسَعَتْ رُؤياهُ وضَاقت عبارَتُهُ.
جاءَنا العيسى، صباحَ اليَوم المُوالي، فَرِحًا، بَاشًّا في وُجوهنا، بقصيدَة رائيّة مَصبُوبة أبياتها في بَحر السّريع: "من ريشها طَوّقَني مئزَر". صَدّرَها بإهداء حَنون: "إلى أبنائي شُعراء المَغرب الشباب الذين أهْدَوا إليّ بَعضَ قِطافهم". وقد أوردَ أسماءَ مَنْ أهْدَوْهُ دَواوينَهم، مع تَلميح ذَكيّ إلى العَناوين. أقولُ لهُ بابتسامة مُوَاربة: أستَأذنُك في إضَافتها إلى ديوانك "المغرب في شِعْري"، فتندّ منهُ ضحكَةٌ تكادُ تَصيرُ قَهْقَهَة. ستُعمَّمُ القصيدةُ، تلك، في المغرب، لاحقًا. ومن عجَب أنّ العيسى واظبَ على حُضُور أنشطة الأسبوع الثقافيّ، بكُلّ ما في شَيخوخَته اليَقظة من غَضارَة وانتباه. سيُغادرُ شاعرُنا اليَمَن، بَعد ذلك، تفعيلًا لوَصيّتِه، ليُسْلمَ الرّوحَ، في دمشق (2013).
أقام اتّحادُ الكتّاب اليَمنيّين في اليَوم ذاتِه مأدبةَ غداء تَرحيبًا بالوَفد الأدَبيّ المغربيّ، قضيْنا وقتَ ما قُبَيل الغداء وَسَط صَنعاء: نتبَضّع، نلجُ مَكتبات، نُبدي ونُعيد في تفاصيل حياة اليَمَنيّين اليَوميّة: لباسهم، حديثهم، طريقتهم في تبادُل التحيّة. نَدنو من جُدران المَباني العتيقة الفَريدة: نَلمسُها، نُدَقّقُ النظرَ فيها. البنايات المُتلاصقة، المُستقيمة، المُتناسقة، المُتطاولة، المُدهشة.
نصعدُ درجات ضَيّقةً إلى مَطعَم فَسيح. يَرتجلُ إدريس الملياني كلمةَ شُكر باسْمنا، بَعد كلمة اتّحاد الكتّاب اليَمَنيّين الترحيبيّة. صُوَر الفنّان السعودي، ذي الأصُول اليَمنيّة، محمد عبده، على جُدران المَطعم، جَرّتْنا إلى الحَديث عن الغناء اليَمَنيّ، فافترَصتُها فُرصَة، لأُسْهبَ في الحَديث عن أبي بكر سالم، ذي الأصُول الحضرميّة. سالم، تلك العِمارة الفنّيّة الشامخة. نُصِحْنا باقتناء "طبّ النفوس" لجان لامبير، وكذلك كان.
أذكرُ من الأطباق المُقدّمَة: السّلتة والفحسة...، المَطعمُ الصنعانيّ، الذي تفضّلَ مُضيفُونا وقرّبُونا من بهَارَاته ومَلذّاته، مَطعمٌ مُتنَوّعٌ وغَنيّ وذو خُصوصيّة. راعَني، أكثر، طَريقة إعداد اليَمنيّين أطباق السّمَك.
نُغادرُ المَطعمَ إلى "المركز الثقافيّ"، الذي احتضَنَ فِقْرات الأسبوع الثقافيّ المَغربيّ. أُضاحكُ الشاعرَ محمد حسين هيثم، وأُفاكهُهُ. في ساحة المَركز الفَسيحة، على مَرمَى حَجَر من شَجَر كَثيف ظَليل هُناك. أثارَتْنا، في المغرب، عناوينُ هيثم. كانت هذه العَناوينُ اللافتة قد وَصَلَتْنا ولفَتَت الانتباهَ إلى صاحبها. أتْلُو عليه العَناوين تلك، فيتأمّلُني في ما يُشبهُ الدّهشة: "اكتمالات سين"، "مائدة للنّسيان"، "على بُعد ذئب"، "رجُل ذو قبّعة ووحيد"، "رجُل كثير"... أقولُ له: حدَثَ أنْ تَجاوَرْنا، يَومًا، في صفحة "القُدس العربيّ" الثقافيّة. فمَنْ منّا آنسَ مِنْ صاحبهِ مَوَدّةً ورَحمَةً فاختارَهُ جارًا. فيَضحَك.
محمد حسين هيثم. الهادئُ. المَلفوفُ في سَكينة. بشاربه الكثّ. بنظّارَتيْه السّميكتَيْن. بابتسامَته الطّفوليّة المُنطَوية على سرّ. سيترَجّل، بُعَيد ذلك. سَيُنهي ضغطُ الدّم أيّامَه، ويُطفئُ جَذوةَ ألَقه الأدَبيّ. وهو بَعدُ في ميعةِ العُمر وغيضَته. لن أُصافحَ محمد حسين هيثم بَعد اليَوم، حتّى لو زُرتُ اليَمَن ثانية.
سِرْنا، معًا، نَحو قاعة الزبيري، فتَكاتَفنا وتَصافَحنا، حاتم الصكر وأنا، عند مدخل القاعة. حاتم الصكر، الناقد العراقيّ البارز، الأستاذ في كلّيّة الآداب، جامعة صَنعاء. دارَ بينَنا حوارٌ سَريع. وقفة ضَئيلة حبّذا لو استَحالَتْ جلسة مُمْتَدّة، طَويلة. في جعبَتي عن كتابات حاتم حول قصيدة النثر، وهي الآصرَة التي تجمَعُني إليه، من الغيض والفيض، ما يَضمَنُ لجلسَتنا الثراءَ والقلَقَ النّجيب. سيُغادرُ الصكر جامعةَ صَنعاء، بُعَيد ذلك، إلى مَدينة ناشفيل في ولاية تينيسي الأمريكيّة، ليَعيشَ كاتبًا مُتَفَرّغًا.
غرفة سلطان
يَحلو لنا أحيانًا، بَعد العشاء، أنْ نَلتئمَ في غُرفة أحَدنا. الجلسة التي يَتَسَيّدُها، إدريس الملياني وعبد السلام بنعبد العالي. بنعبد العالي الذي يَملأ المَكانَ، مِنْ حَوله، انشراحًا وانبساطًا، وتَنكيتًا وتَبكيتًا. ما تأكّد لي، أكثر، خلال نُزهاتِنا وَسَط صَنعاء. الوَجْه الآخَر للمُفَكّر.
قاسَمَنا الجلسةَ، ذات ليلة، الشاعر الغنائيّ اليَمَنيّ البارز، سُلطان الصريمي، الذي فتحَ أمامَنا كتابَ حَياته. فكانَ أنْ قرأ علينا الملياني قصيدة "غرفة سُلطان"، والمُراد غُرفة ضَيفنا في الإقامة الجامعيّة في موسكو، حيث تقاسَمَ والملياني سنَوات الدّراسة. سُلطان الصريمي واضعُ كلمات الأغنيّة الشهيرة "نشوان"، أداء محمد مُرشد ناجي. الأغنيّة التي، إضافة إلى ألَقها الشعريّ، زادَها المَنعُ انتشارًا ورُسوخًا. وسيَطولُ بي المقام لو أوْغَلتُ في التّفاصيل.
يَحملُ إلينا أصدقاؤُنا اليَمنيّون، كلّ ليلة، ما به نُطفئ الغليلَ، ويُزَنّروننا بمَحبّة لا يُخطئُها الفؤاد. ولا عيبَ فيهم غير أنّهُم أثقلوا حقائبَنا بكتُب ومُؤلّفات مِنْ كلّ حَقل.
دار الحجر
ولمّا كان من الغَد، وحانَ وقت الانطلاق نحو "دار الحجر" غادرْنا الفُندق جَذلين، يُزَوبعُنا فرحٌ طفوليّ. "دار الحجر" القَصرُ المنيف الذي يَنامُ في دعَة، على مقرُبة من صَنعاء. في شمالها الغربيّ. القصر ذو الطوابق السّبعة (ولك أنْ تتأمّلَ الرّقم ودلالته)، الذي وَضَع تَصْميمَهُ واعتَنَى بتَشييده، أواخر القَرن الثامن عشر، العالمُ الشاعر علي بن صالح العماري، مأمورًا من الإمام المنصور علي بن العبّاس، والذي سيَتّخذُهُ الإمام يحيى حميد الدين، الملك المُتوَكّل بالله، الذي نُوديَ به إمامًا بَعد وفاة أبيه محمد بن يحيى حميد الدين عام 1904، والذي احتدّ النزاع مع العثمانيّين، في عَهده، دَعا إثره الإمام يحيى إلى الجهاد، سيَتّخذُهُ قصرًا له، قبْل أنْ تُرديَه طلقةٌ من بُندقيّة الشيخ القردعي صَريعًا (1948).
في طَريق العَودة، عَصْرًا، إلى صَنعاء، رأيْنا، الفقيه أحمد الخمليشي وأنا، رجالًا ذَوي جُلود مُتَغَضّنة، يَتَصَبّبُ العَرقُ مِنْ على جباههم وأعناقهم، كأنّهُم في عَذاب واصب، يُدَحرجُون صَخرًا عتيدًا من كهْف هُناك، عند مُنحدَر، يَبدو أنّه محجرة. ثمّ حَدّثَني، باستفاضة عمّا سمّاهُ المُؤرّخون وأهلُ الأنتروبولوجيا: الحَضارات الحَجَرية.
دَعْني أسرُدُ لك ما رَأتْهُ العَينُ وتَنَشّقَهُ الفُؤاد، من غَير إيغال، وبتَرتيب يَعتَورُهُ النّقص، فللمَسافة الزّمَنيّة، ووَفْرَة التفاصيل والشّروح فِعلهما. ولك، وهذا هو المُراد، أن تَسْتَبينَ فطنةَ اليَمَنيّ وذكاءَه. ألمَعتّيه وفطنَته. الإنسان اليَمَنيّ الذي صارعَ الطبيعة وطَوّعها، فلانَتْ وأذْعَنَت: عند مدخل القَصر، جناح استقبال خارجيّ معروف بـ "الشذروان"، وهو مَجلسٌ صيفيّ للمَقيل - شرفة جَنوبيّة خاصّة بالنساء - كوّة في أعلى السّطح للحَمام الزاجل - طريق سرّيّة للنّجدة - المصبانة، أي قاعة غَسل الملابس - باب سرّيّ - الدويدار، وهي مُفردة تُركيّة تُطلَقُ على مُستخدم دون البُلوغ، له وحده يُسمَحُ بمُخالطة نساء القصر - ومن عجَب أنّهم ابتَدَعوا شيفرة (Code) لفتْح الأبواب - غُرفة الإمام - جَنب غُرفة الإمام، الكمة، وهي غُرفة خلوة الإمام - وأذكرُ أنّني رأيتُ هُناك بورتريهًا مُتخيّلًا للإمام يحيى بريشة فنّان إيطالي- الشرفة الشرقيّة - الجُزء الجَنوبيّ من القصر، وهو أبْهَى مكان فيه - غُرفة المَطاحن وخَزْن الحُبوب - غُرفة النّوم - ديوان النساء الشتويّ - حمّام النساء - ممَرّ من المَطبخ العلويّ للبئر المخروطيّة - عند تخطّي عتبة باب ضيّق قصير، يأمرُنا الدليلُ بالانحناء قليلًا، اتّقاء لاصطدام رُؤوسنا بأعلى الباب: يَستديرُ محمد الأشعري نَحوي مُحَذّرًا إيّاي، أُدركُ قَصْدَهُ، فنَبتَسمُ معًا - كهف به مَقبرة قيلَ إنّ قومًا من سَبإ يَرقدون فيها- شبابيك تَبريد - خزانة الذّهَب والفضّة، وهي درج خشبيّ مَحفورٌ في جدار - مغفرة، وهي خزانة خشبيّة صغيرَة للكتُب الدينيّة - وللإمام أربَع زوجات، تُقيمُ الزّوجَتان الجَديدَتان في الطابق العلويّ من القصر، والقديمَتان في الطابق السفليّ. قال عبد العزيز الثعالبي في "الرحلة اليَمَنيّة": "للإمام ولعٌ زائدٌ بالنّساء، مثل غَيره من أُمَراء الشّرق، ففي عِصْمَته على الدّوام، أربع نساء".
طافَ بنا، هاتيك الدّهاليزَ والتّعاريج، دليلٌ شابّ، كثيرُ الحَرَكة، دَقيقٌ، نَبيهٌ، نزّاعٌ إلى الخفّة والتفَكّه والبَسْط، سَريعُ الكلام، حتى إنّنا لقينا عنتًا شديدًا في مُسايَرَة شُرُوحاته: (يهمسُ خالد الرويشان، وزير الثقافة اليَمني في أذني: هو ذا دليلٌ آخَر على أن أصلكم من اليمن، سرعة الكلام).
يَنتَصبُ "دار الحجر" على صَخرَة كرانيتيّة عَظيمَة، تَرتفعُ بمائتي متر على أسْفل "وادي ظهر"، وفي يَمين مدخَله شَجَرَةٌ مُحيط جذعها ثلاثة أمتار، قيل إنّ عُمرَها سَبعمائة سنة. ومِنَ الذين زَارُوا القصر من مَشاهير الكُتّاب، "أمين الريحاني" المعروف بـ "فيلسوف الفريكة"، وأفرَدَ له حَيّزًا في كتابه "مُلوك العرب" (1924).
وَلَجْنا، بَعد مُغادَرَتنا القصر، بنايةً مُقابلة لتناوُل الغداء. دارَ نقاشٌ مُحتدمٌ حول اسْم الوادي، أبالظاء أم بالضاد، حيث تَستدلّ المَصادرُ التاريخيّة والنّقوشُ اليَمَنيّة القَديمة التي تَقولُ بالضّاد، بوُجود مَدينة ذات شَأن وبال، بالمكان، ذات زَمن. مدينةٌ قال الأخباريّون، وعلى رَأسِهم الهمداني، صاحب "الإكليل" إنّ بَانيها هو "ضهر بن سعد"، قال شاعر: (بسيط)
يا حَبّذا أنت يا صَنعاء من بَلد وحبّذا واديها الضّهر والضّلع
أخذَنا الحديثُ إلى استثنائيّة حَرف الضّاد، وخُصوصيّته، في العَربيّة، واستنجَدْنا بكُتُب ضرَبَت بسَهْمها، في المَسألة، فأصابَت، على رأسها "الاعتماد في نظائر الظاء والضاد" لمحمد بن مالك. عُمومًا، إنّ الخَلط في النّطق، بل حتّى في الكتابة، بَين الحَرفَيْن، أمرٌ مَعروفٌ عند عُلماء اللغة، كما يَحدُثُ في الكشكشة بإبدال الشين من كاف الخطاب. تَرَكْنا خَلْفَنا بابَ الظاء والضاد مواربًا، ودَلفْنا إلى رحاب التاريخ: عام الفيل - دُخول الإسلام - نُشوء المَذهب الزيديّ، وانقسام اليَمَنيّين إلى شوافع وزيديّين- استيلاء العُثمانيين على اليَمن - مُنازَعات الحُدود مع الحجاز- الثورة على الإمام يحيى - انتصاب تعز عاصمة لليَمن أيّام أحمد بن يحيى- اتّفاقيّة الوَحدة مع الجمهوريّة العربيّة المُتّحدة- وُصُولًا إلى الإعلان عن سُقوط حُكم الأئمّة، وما تَلا ذلك من وَقائع وأحداث، كانقسام اليَمن إلى شَمالي وجَنوبي، والوَحدة اليَمَنيّة (1990)، ثمّ حَرب 1994... قلتُ في نَفْسي: أهُوَ عَطبٌ، في اليَمَن، قديمٌ، وداءٌ مُقيم؟
في طَريق العَودة، عَصْرًا، إلى صَنعاء، رأيْنا، الفقيه أحمد الخمليشي وأنا، رجالًا ذَوي جُلود مُتَغَضّنة، يَتَصَبّبُ العَرقُ مِنْ على جباههم وأعناقهم، كأنّهُم في عَذاب واصب، يُدَحرجُون صَخرًا عتيدًا من كهْف هُناك، عند مُنحدَر، يَبدو أنّه محجرة. ثمّ حَدّثَني، باستفاضة عمّا سمّاهُ المُؤرّخون وأهلُ الأنتروبولوجيا: الحَضارات الحَجَرية. (أحمد الخمليشي، الفَقيه الدستوري، وأستاذ القانون بكلّيّة الحُقوق بالرباط، ومُدير دار الحديث الحسنيّة، سابقًا).
شرقْتُ بالدمع
تَفَضّلَ فزارَني في الفُندق، الشاعر الشابّ محمد محمد اللوزي، الضابطُ في قُوّات الحَرَس الجمهوريّ، وواحدٌ من أذكى شُعراء جيل تسعينيّات القرن الماضي. كان اللوزي بَعثَ إليّ ديوانَه الفذّ: "الشّباك تهتزّ... العنكبوت يَبتهج"، عبْر البَريد، بَعد أنْ علِمَ من صَديقنا المُشترك، عبد السلام الكبسي، الطالب يَومَها في سلك الدكتوراه بكُلّيّة الآداب بالرّباط، إعجابي بقَصيدَته "أعميان" التي اعتبَرتُها، وقاسَمَني الرّأيَ كثيرون، واحدةً من القصائد المُبَشّرَة بما يَنتظرُ الشعرَ العربيّ الجديد من ألَق وعنفوان. وقد حزّ في نَفسي وآلمَني، ما طالَهُ، من قِبَل الحوثيّين من مُضايقات، بل مِنْ تَنكيل، في الأحداث اليَمَنيّة الأخيرة.
ثمّ كانَ أن طَوى الجَزيرة حتّى جاءَني خَبر. جاءَني ما أرْعَدَ الفرائصَ منّي وأرجَفَ الفُؤاد. جاءَني خبرٌ وأنا أهمّ باعتلاء منصّة الإنشاد، مساء اليَوم ذاته، فاستهللتُ، الإنشاد، والمُناسبة شَرْط، بما يَلي: "حدَثَ أنْ حَضرَت هُدى أبلان، وهي شاعرة، إلى الرّباط، ضمْن وَفد أدَبيّ لتَمثيل اليَمَن في فعّاليّات الرّباط عاصمة الثقافة العربيّة (2003). وحدَثَ أن بلغَها، ذات مساء، ونحنُ جُلوس في بَهو فُندق وَسط الرباط، نَعْيُ والدتَها من صنعاء، عبْر الهاتف. صِرْنا نُوَاسيها ونشدّ من أزْرها. قلتُ لها، ضِمْن ما قُلت: هَوّني عليك، هُدى، فلا تَدري نفسٌ بأيّ أرض يَبلغُها نعيُ أحبّائها! فلعَلَيّ أحضُرُ إلى اليَمن، يَومًا، فيَبلغني نَعْي مَنْ أُحبّ. كذلك كان، فقد نزلَ عليّ صاعقًا، وأنا في صَنعاء، نَعْي قُرّة العَين وفلذة الكَبد، الصّديق الصادق الصّدوق الأصدق، المَأسوف على عِلمِه وشَبَابه، سعيد الفاضلي". (هُدى أبلان، ابنةُ مدينة إب ( يرى الثعالبي أنّ الصّحيح: آب، ومَعناه المياه)، التي لم تَقع عَيْنايَ، يَومًا على خطّ أجْمَل من خَطّها).
***
"أيام في صنعاء": مقاطع مُجتزأة من نّص طويل، يُنشر بالعنوان ذاته، قريبًا، ضمن كتاب رحليّ جامع: "غصّة في القلب، والجيوب ملأى بالحنين: رحلات إلى زاكورة – صنعاء – الجزائر – الاسكندرية – الصويرة – القاهرة – تارودانت – قسنطينة".