"البزَّاغ" مهنة من تقطعت بهم السبل

مزارع القات بؤر متكاثرة لاغتيال الطفولة
إبراهيم السليطي
November 29, 2024

"البزَّاغ" مهنة من تقطعت بهم السبل

مزارع القات بؤر متكاثرة لاغتيال الطفولة
إبراهيم السليطي
November 29, 2024
.

يوميًّا، في ساعات الصباح الأولى، وعلى اختلاف تقلبات الطقس، يكتظ حراج العمّال بعشرات الأطفال الذين يعملون في مهنة قطف أوراق القات (البزّاغ)، حيث يأتي المزارعون وبائعو القات لأخذهم إلى أماكن زراعته في ضواحي العاصمة والأرياف، ولا يعودون إلا في المساء، بأجسام منهكَة وأجرٍ ضئيل لا يتجاوز في أحسن الأحوال مبلغ (1500) ريال؛ أي ما يقارب ستة دولارات فقط، وهو مقابل بخس أمام ما يبذلونه من جهد بدني طوال يوم كامل، علاوة على المخاطر الجمة التي قد يتعرضون لها، تصل في بعض الأحيان إلى تهديد حياتهم.

عاصم جمال (12 عامًا)، واحد من هؤلاء الأطفال الذين فقدوا حقّهم في الطفولة، وحملوا على كاهلهم عبء الحياة في سن مبكرة، حيث ترك الدراسة في الصف الثالث الابتدائي، للعمل في مزارع القات بمنطقة همدان (غربي محافظة صنعاء)؛ مساهمةً منه في تأمين متطلبات المعيشة لأسرته المكونة من ستة أفراد. 

بملامح يكسوها التعب والإرهاق وبلغة تفوق عمره، يقول عاصم: "انقطع راتب أبي، فتركت المدرسة، وكوني أكبر إخوتي، ارتأيتُ أنّ من واجبي مساعدته في توفير احتياجات أسرتنا".

يجد الأطفال أنفسهم مجبرين على العمل في بيئة عمل غير مناسبة وتحت ظروف قاسية، تفوق طاقتهم وقدرتهم البدنية، وتشكّل خطرًا مؤكدًا على صحتهم؛ وذلك باعتباره العمل الوحيد المتاح أمامهم بعد أن تقطعت سبل الحياة أمام الكبار والصغار.

بيئة عمل قاسية

بجسد نحيل، اضطر مراد أحمد (13 عامًا)، إلى ترك الدراسة في الصف الرابع، وعوضًا عن حمل حقيبته المدرسية، يحمل على كتفيه سلّمًا حديديًّا يتجاوز ارتفاعه ثلاثة أمتار، ينقله من مكان إلى آخر في مزارع القات؛ لكي يتمكن من الوصول إلى أعلى شجر القات وقطف أوراقها. وبالمثل، يعمل عاصم وأقرانهما من الأطفال تحت حرارة الشمس، وفي صقيع الشتاء منذ الصباح الباكر وحتى الغروب، ولا يعودون إلى منازلهم إلا عند السابعة مساء.

يجد الأطفال أنفسهم مجبرين على العمل في بيئة عمل غير مناسبة وتحت ظروف قاسية، تفوق طاقتهم وقدرتهم البدنية، وتشكّل خطرًا مؤكّدًا على صحتهم؛ وذلك باعتباره العمل الوحيد المتاح أمامهم بعد أن تقطّعت سبل الحياة أمام الكبار والصغار، يقول عاصم لـ"خيوط": "إذا لم أحمل السلّم على أكتافي سيطردني المقوت (بائع القات)، ولن يسمح لي بالعمل أسفل الشجرة، ومن ثم لن أحصل على المال". ويضيف بنبرة حزينة، مستسلمًا لواقعه: "لقد بحثت عن عمل آخر فلم أجد غير هذا العمل التعيس، والحمد لله على الحاصل".

يحظر قانون العمل اليمني رقم (45) لسنة 2002، تشغيلَ الأطفال في الأعمال الشاقة، وحدّد فترة عمل الأحداث (كل ذكر أو أنثى لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره)، في سبع ساعات على أن تتخللها فترات راحة، بحيث لا يعمل الحدث أربع ساعات متواصلة. لكن القانون لا يعرف طريقًا إلى مَزارع القات؛ لكونها تقع في المناطق النائية خارج المدينة، فضلًا عن غياب الرقابة على بيئات العمل داخل المدينة، التي تنتهك هي الأخرى حقوق الأطفال، في ظل انهيار الدولة وغياب المؤسسات القانونية والرقابية؛ بفعل الحرب.

استغلال وغياب الحماية 

على الرغم من أنّ الاتفاقيات الدولية وتشريعات العمل الحديثة، بما فيها قانون العمل اليمني، تجرم الاستغلال الاقتصادي للأطفال وتشغيلهم في أعمال شاقة تفوق قدراتهم الجسدية والنفسية، فإن "خيوط" وجدت في رصد ميداني أن معظم العاملين في مزارع القات هم من شريحة الأطفال، حيث يتم استغلالهم من قبل مزارعي وبائعي القات؛ نظرًا لجهلهم بحقوقهم واستعدادهم للعمل تحت أيّ ظرف دون اشتراط مقابلٍ ما، على عكس العاملين من فئة البالغين.

إضافة إلى المقابل الزهيد، لا يتمتع الأطفال العاملون في مزارع القات بتغذية جيدة، على الأقل بما يعزز قدرتهم على تحمل مشاق العمل بالنظر إلى ساعاته الطويلة والمتعِبة، فكلُّ ما يحصلون عليه هو علبة زبادي والكُدَم (نوع خبز جاف) لا غير، هذه هي وجبة الغداء التي يتقاسمونها مع البالغين، بحسب مراد.

مخاطر غير محسوبة

يواجه الأطفال خطر السقوط من أعلى السلالم، علاوة على تعرضهم للتعنيف اللفظي والاعتداء الجسدي، وتُوجَّه إليهم كلمات نابية من قبل البالغين تحت مبرر تعليمهم أساليب المهنة ومنحهم الخِبرة. يصف ذلك مراد بقوله: "يهينني الكبار، فأصبر على الإهانة، من أجل أن أصرف على أسرتي". 

لا يتوقف الخطر عند السقوط من السلالم، واحتمال الإصابة بكسور أو إعاقة، فثمة تهديد أكبر قد يكلفهم حياتهم، حيث يتم نقلهم بصورة غير آمنة على ظهر المركبات المكشوفة وأسطح الباصات، ما يجعلهم عرضة للسقوط في أي لحظة، كما أن وقوع حادثٍ ما قد يؤدّي إلى كارثة مأساوية ليس بحق الأطفال فحسب، بل وكل من على متن المركبة، صغارًا وكبارًا.

تشير دراسة محلية، نشرت في 2019، إلى أنّ العوامل الاقتصادية تقف في الصدارة، بصفتها أحد أهم وأبرز الأسباب المؤدية لانخراط الأطفال بالعمل؛ نظرًا لوجود علاقة وثيقة بين الفقر وتدني دخل الأسرة والبطالة، واعتبرت البطالة من أخطر المشكلات التي تزيد من عمالة الأطفال. 

وبحسب الدراسات المحلية، فإنّ ظاهرة عمالة الأطفال في اليمن ليست وليدة اللحظة، حيث أخذت تتفاقم منذ التسعينيات؛ بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وقد ضاعفت الحرب القائمة منذ عشر سنوات من حجم الأزمة، حتى صارت الظاهرة تتسع كل يوم أكثر فأكثر في ظل استمرار الصراع في البلاد، وانعدام أفق الحل.

وكشفت نتائج المسح الوطني حول عمالة الأطفال للعام 2010، الذي نفّذه الجهاز المركزي للرقابة والإحصاء بالتعاون مع البرنامج الدولي للقضاء على عمالة الأطفال، أن هذه الظاهرة تمس حياة (1.6) مليون طفل ينتمون إلى الفئة العمرية ما بين (5-17) عامًا، نسبة الذكور بينهم (54.6%)، والإناث (45.4%)، وتشكّل هذه الفئة (21.2%) من إجمالي القوى العاملة في اليمن، وينخرط الغالبية الساحقة (95.6٪) في مهن خطرة وشاقة، على رأسها الزراعة.

فيما تشير دراسة محلية، نُشرت في 2019، بعنوان عمالة الأطفال في المجتمع اليمني، للباحثة أروى باعلوي، إلى أنّ "العوامل الاقتصادية تقف في الصدارة بصفتها أحد أهم وأبرز الأسباب المؤدّية لانخراط الأطفال بالعمل؛ نظرًا لوجود علاقة وثيقة بين الفقر وتدني دخل الأسرة والبطالة أيضًا"، واعتبرت الدراسة البطالة من أخطر المشكلات التي تزيد من عمالة الأطفال في المجتمع اليمني، إلى جانب أزمة انقطاع الراتب التي يماطل أطراف الصراع في حلها.

آثار نفسية واجتماعية 

نائب مدير مركز الإرشاد النفسي والتربوي بجامعة صنعاء، الاستشاري النفسي، الدكتور عبدالخالق حندة خميس، يقول لـ"خيوط": "عمالة الأطفال -في مزارع القات تحديدًا- من المشكلات الكبيرة التي يعاني منها المجتمع اليمني، وهي ظاهرة سلبية لا يقتصر خطرها على الطفل نفسه، بل تمتد إلى المجتمع أيضًا، كونها تدمر نمو الطفل على المستوى النفسي والعقلي والثقافي، إضافة إلى أنها تترك أثرها في شخصيته وعلاقته بمحيطه الاجتماعي ونظرته للحياة، حيث يتولد لديه شعور بالنقص، خصوصًا إذا كان أقرانه مستمرين في الدراسة، بينما تم حرمانه منها، ويتطور معه هذا الشعور تدريجيًّا ليصبح عدوانيًّا تجاه أصدقائه ومجتمعه ونحو عائلته أيضًا؛ لكونه يراها سببًا رئيسيًّا في مأساته".

ويضيف خميس: "لا يعاني الطفل العامل في مزارع القات من الشعور بالحرمان فقط، وما قد يترتب عليه من آثار نفسية، بل ويكتسب سلوكيات سيئة منها مضغ القات والتدخين، قد يصل إلى حالة الإدمان، مما يؤثر على صحته ونشاطه الذهني، إضافة إلى ذلك يكتسب لغة هابطة وألفاظًا نابية، ومن ثم نجد أنفسنا في المستقبل أمام طفل غير سوي نفسيًّا وصحيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا".

ويؤكّد خميس أن: "الظروف الاقتصادية المتدنية للأسرة ليست مبررًا للتضحية بحياة الطفل ومستقبله"، ناصحًا الأسر بـ"الحرص قدر الإمكان على حماية أطفالها من الانخراط بالعمل في مزارع القات، وأن تتحمل مسؤولية تنشئتهم نشأة سليمة، بما يخلق إنسانًا قادرًا على العطاء وخدمة مجتمعه".

الجدير بالذكر أنّ الحرب المستمرة في البلاد منذ عقد كانت قد ألقت بظلالها على حياة اليمنيين، وفاقمت صراعاتهم اليومية مع الجوع والفقر، حيث يقبع حوالي (18,2) مليون يمني؛ أي ما يعادل تقريبًا نصف السكان، تحت خط الجوع والفقر، ويحتاجون إلى مساعدة إنسانية عاجلة بحسب تقارير أممية، وتسبب انقطاع الراتب في 2016 بمضاعفة المشكلة، باعتباره مصدر دخل أساسي لكثير من الأُسَر، ما جعلها تدفع بأطفالها إلى سوق العمل؛ لسدّ احتياجاتها الضرورية، في ظل انعدام مصادر الدخل وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. والسؤال: إلى متى يستمر هذا الوضع الكارثي؟! هل سنشهد في التقارير الأممية القادمة انخفاض نسبة الجوع أم سنُفاجَأ بارتفاعها؟! وحدهم أطراف الصراع من يعرفون الجواب!

•••
إبراهيم السليطي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English