الأمثــــال والأدب الشعبي

في أنواعها والفرق بينها وبين الحكمة
زيد الفقيه
December 24, 2020

الأمثــــال والأدب الشعبي

في أنواعها والفرق بينها وبين الحكمة
زيد الفقيه
December 24, 2020
© محمد المخلافي

 المَثَلُ: "جملةٌ من القول مقتضبة من أصلها، أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول"[1]، قال أبو عبيد: "الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية غير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاث خصال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه"[2]. فالمثل جملة أدبية شعبية خالصة، وعلى الرغم من أن المثل يحتل حيِّزًا بارزًا في المخزون الأدبي الشفوي والكتابي، فهو لم يستقل كنوع أدبي مختلف؛ بل ظل مرتبطًا بالذاكرة الشعبية كلون تراثي، وليس غريبًا أن يحمل المثل في جوهره ما يعني الأمثولة أو ما يدل عليها[3]، وهي أكثر النثر العربي تداولًا وفاعلية، وهي سائرة بين الناس حتى يومهم هذا، وهو يشبه الحكمة في إيجازه ورصه، ويختلف عنها بعمقه وتداوله في الوسط الشعبي، ويكون أقرب إلى قلوب الناس، ويروى موقوفًا وإن شابه الخطأ. والأمثال "بطبيعتها أدب شعبي مضطرب متطور، يصح أن يؤخذ مقياسًا لدرس اللغة، ومقياسًا لدرس الجملة القصيرة كيف تتكون"[4]، وليس كل ما اختزل قوله وكثفت عبارته مثلًا، ولكن أن تجتمع فيه أربع خصال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، ووجود الكناية[5].

متى ظهرت الأمثال؟

    لم تستطع الدراسات حسم هذه الجدلية النقدية الشعبية، لكن ما يثق به المتلقي هو أن تاريخ ظهور الأمثال اليمانية يعود إلى الدولة الحميرية، وأن كتاب "شمس العلوم" لنشوان بن سعيد الحميري، قد أورد بعض هذه الأمثال، ومنها: "استمع الأكبر ولو هتر"، ويقابله اليوم المثل: "اسمع من هو أكبر منك بيوم"[6]، هذا ويظل الباب مفتوحًا لمزيد من الدراسات للتحري والتدقيق عن تاريخ ظهور الأمثال العربية.   

متى تطلق الأمثال؟

    وأطلقت الأمثال في مناسبات ومواقف عديدة، استنبطها العرب من معايشهم وسيرهم اليومية، "فالمثل والحكمة من الأنواع الأدبية المعبرة عن تجارب الإنسان، ويجتمع فيه ما لا يجتمع في غيره من صنوف الأدب"[7]، كما تجتمع فيهما أربعة أمور: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية.

ما الذي يميز المثل عن الحكمة؟ 

    أهم ما يميز المثل عن الحكمة:

1ـ أنه موقوف على السماع، يُلْزَمُ رَاوِيه بنطقه كما ورد، حتى إن كان يشوبه الخطأ. 

    والمميز للأمثال عن غيرها أن "يُتَكلَّم بها كما هي، فليس لك أن تطرح شيئًا من علامات التأنيث؛ وإن كان المضروب له مؤنثًا"[8]، مثل: "أن تسمع بالمعيدي خيرًا من أن تراه"، "مجبر أخاك لا بطل".  

2ـ أنه مرتبط بحكاية أو حادثة، ولهذا سمي مثلًا.  

 3ـ أنه شائع بين الناس حتى يومهم هذا.

    وهناك كثير من الحكايات التي ارتبط بها المثل، منها: "من دخل ظفار حمَّر"؛ أي تعلم لغة وعادات وتقاليد حِمْيَر، ويرتبط بحكاية الملك الحميري، الذي قال للرسول الذي جاء إليه وهم على حافة جبل: "ثب"، ويعني اجلس بلغة حمير، لكنه فهمها بلغته بمعنى اقفز فقفز، وهناك مثل شعبي شائع مماثل يقول: "إذا دخلت البلاد عملت بسلف أهلها". والمثل: "رُبّ كلمة تقول لصاحبها دَعْنِي"، وهو مرتبط بحكاية ملك حميري آخر، وقف مع نديمه على صخرة ملساء، فقال النديم: "لو أن إنسانًا ذُبح على هذه الصخرة إلى أين سيبلغ دمه، فقال الملك اذبحوه عليها ليرى دمه أين يبلغ، وبعد ذبحه عليها قال الملك: "رُبّ كلمة تقول لصاحبها دَعْنِي"، فصارت مثلًا. 

    ويروي القاضي إسماعيل الأكوع: أن أحمد بن أحمد العنسي خرج إلى وادي "عرَّد" بذمار، لقسمة تركة رجل بين ورثته، وتبين للقاضي وهو يقسِّم التركة أن على المتوفى دينًا، فأخذ يخرج الدين من أصل التركة، قبل فرز الأنصبة وتعيينها لكل منهم، فاعترض عليه الورثة، ورفضوا حجته، فبيَّن لهم حكم الشَّرع، وقرأ عليهم قول الله تعالى: "من بعد وصية توصون بها أودين"، فلم ينصاعوا، فأخذ القاضي يعد نفسه للتخلي عن القسمة والعودة إلى مدينة ذمار، وفجأة تذكر مثلًا مشهورًا، فقال لهم إن علي بن زايد [حكيم شعبي يمني] يقول: "الدَّين قبل الوراثة"، وما إن سمع الورثة ذلك حتى استجابوا للقاضي، وقالوا: اقسم يا قاضي، وبذلك المثل "قطعت جهينة قول كل خطيب"[9].

للأمثال أربع وظائف: أدبية تنبّه لها علماء اللغة فأكثروا منها خطبهم ورسائلهم، وتمثيلية تبصّر إليها الحكام في الإقناع وتقريب المعنى، ودلالية تومئ فيها دلالة المثل إلى غاية المتحدث، ورمزية تحيل معنى المثل إلى رمز ما.

    ومثل "وافق شن طبقة" يرتبط بقصة "شن" وصاحبه، اللذين ترافقا في الطريق، ثم قال "شن": "أتحملني أم أحملك؟"، فقال له الرجل: "يا جاهل، أنا راكب وأنت راكب، فكيف أحملك أو تحملني؟"، وحين وصلا إلى زرع قد استحصد، قال "شن": "ترى هذا الزرع أُكِل أم لا؟"، فقال الرجل: "يا جاهل، ترى زرعًا مستحصدًا فتقول أُكل أم لا؟"، وسارا حتى وصلا القرية المبتغاة فرأيا جنازة، قال "شن": "ترى صاحب هذا النعش حيّ أم ميت؟"، فقال الرجل: "ما رأيت أجهل منك! ترى جنازة تسأل عنها أميت صاحبها أم حي؟ وحين أراد "شن" مفارقته، أبى الرجل أن يتركه حتى يصير به إلى منزله، فمضى معه وكان للرجل بنت تدعى "طبقة"، فلما دخل عليها أبوها سألته عن ضيفه، فأخبرها بمرافقته، وشكا إليها ما دار بينهما، فقالت هذا ليس بجاهل؛ فأما قوله "أتحملني أم أحملك"، فأراد أتحدثني أم أحدثك، حتى نقطع الطريق بيُسر، وأما قوله "الزرع أُكِلَ أم لا؟"، أي هل باعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا، أما الجنازة، فأراد أن الميت ترك عَقِبًا يحيا بهم ذكره أم لا. حينئذٍ خرج الرجل وحدث شنًّا بذلك، فقال: "هذا ليس من كلامك، فأخبرني عن صاحبه"، قال: "ابنة لي"، فخطبها إليه وزوّجه بها وحملها إلى أهله، فلما رأوهما قالوا: "وافق شن طبقة"[10].     

وظائف الأمثال  

تتعدد وظائف المثل بتعدد مدلولاته، ومن هذه الوظائف:

1ـ الوظيفة الأدبية. 

2ـ الوظيفة التمثيلية. 

3ـ الوظيفة الدلالية. 

4ـ الوظيفة الرمزية.

    الوظيفة الأدبية: وهي التي تنبَّه لها علماء العربية لسلطة المثل، فأكثروا منه في كلامهم، في الخطب، والرسائل، وغيرها.

    الوظيفة التمثيلية: وهي التي تبصَّر أولي الحُكم إليها في الإقناع وتقريب المعنى عند العامة، ولنا في القرآن الكريم القدوة الحسنة، فقد تعددت الآيات القرآنية الدالة عليه، قال تعالى: "ألم ترَ كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء"[11].

    والوظيفة الدلالية: هي التي تومئ فيها دلالة المثل إلى غاية المتحدث لتحققَ أغراضًا يقصدها ضاره.

    الوظيفة الرمزية: هي التي تحيل معنى المثل إلى رمزٍ ما من الرموز.

أنواع المثل 

للمثل أنواع متعددة، من أهمها وأشهرها في تراثنا العربي الأنواع التالية:

- المثل الديني (قرآن، حديث).

- المثل النثري (القصص، التمثيلي، الخرافي).

- المثل الشعري.

- المثل الزراعي[12]. 

- المثل الديني؛ مثل قوله تعالى: "ضرب الله مثلًا عبدًا مملوكًا"، وقوله تعالى: "ضرب الله مثلًا كلمة طيبة"، وقوله تعالى: "مَثل الجنَّة التي وُعِدَ المتقون"، وقوله: "ساء مثلًا القومُ..."، وقول رسول الله ﷺ: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير...إلخ"[13].

- المثل النثري؛ خلاصة القصص التي وردت في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "إنَّا نقص عليك أحسن القصص"، وفي سورة يوسف: "إن كان قميصه قدَّ من دبرٍ فصدق وهي من الكاذبين".

- المثل الشعري: وهو أن يضمّن الشاعر أبيات شعره بالأمثال، وهي كثيرة جدًّا في الشعر العربي، وفي اليمن منها مثل قول الشاعر التهامي الذي ارتحل إلى صنعاء في الشتاء وضره البرد، فقال: 

ما عاد أشاء الحمَّام وقولة نعيم    الدُّخن، واسكن لي تهامة

"البَرْد مِفْتاح العِلل للسليم"       وأرض الحما فيها السلامة[14] 

  • المثل الزراعي؛ وهو ما ورد على ألسن الحكماء الزرّاع، مثل قول علي بن زايد: "الدين قبل الوراثة"، وقول الحميد بن منصور: "أمسيت من فقر ليلة * سارق وزاني وكذّاب"، "الذيب لا تأمن الذيب * ولو عرج لك برجله"[15]، وغيرها من الأمثال. 

 الهوامش:     

[1] ـ المزهر للسيوطي ص487، النثر في العصر الجاهلي، هشام مناع، ص169.

[2] ـ العلامة عبدالرحمن جلال الدين السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار الجيل - بيروت، د.ت، ج1 ص486.  

[3] ـ انظر: عبده وازن، مجلة دبي الثقافية، العدد (109) يوليو 2014، ص93،92.

[4] ـ طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف القاهرة، ط17، 2001، ص331. 

[5] ـ انظر النثر في العصر الجاهلي، ص172.

[6] ـ شمس العلوم، نشوان بن سعيد الحميري، تحقيق: مطهر بن علي الإرياني، د.حسين العمري، د.يوسف محمد عبدالله. 

[7] ـ انظر د.حسن علي المخلف، التراث والسرد، وزارة الثقافة والفنون والتراث - قطر،  ط1، 2010، ص122.

[8] ـ المستقصى، المقدمة ص(هـ).

[9] انظر الأمثال اليمانية، القاضي إسماعيل بن علي الأكوع، وزارة الثقافة، 2004، ص11.

[10] ـ انظر: مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد الميداني، ج2، المكتبة العصرية - صيدا، 1998، ص359.

[11] ـ انظر التراث والسرد، ص123، 124.

[12] ـ هذه الأمثال ارتبطت بأقوال الحكماء الزرَّاع، مثل: علي بن زايد، والحميد بن منصور، وأبو عامر. 

[13] ـ انظر مجمع الأمثال، ص 1، 2، 6.

[14] ـ الأمثال اليمانية، ص274.

[15] ـ الحكيم الفلاح الحميد بن منصور، د.علي صالح الخلاقي، مركز عبادي صنعاء، ص32، 103.



•••
زيد الفقيه

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English