ما الذي لم يُقطِّره صوت الثمانينيات الشعري؟

جسٌّ عابرٌ لثلاث من قصائد جمال الرموش
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 28, 2021

ما الذي لم يُقطِّره صوت الثمانينيات الشعري؟

جسٌّ عابرٌ لثلاث من قصائد جمال الرموش
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 28, 2021

(1)

يقال إن الابن الأوسط في الأسرة هو الأكثر إهمالًا من قبلها؛ فبكرها، الذي يسبقه، يحظى بقيمة الشخص "العود" والسند والمرجع، أما الأصغر، الذي يعقبه، فيحظى بالاهتمام والرعاية بشكل لافت من قبلها، هذا التقريب يصح مع مستدركات قراءة جيل الثمانينيات الشعري في اليمن، الذي وقع بين جيلين شعريين حظيا من القراءة والمتابعة بالشيء الكثير، فيحسب، عند الدارسين، للشعراء السبعينيين أنهم استطاعوا كسر العزلة الطويلة التي عانتها أصوات سابقيهم من الشعراء بسبب حالة الانغلاق التي فرضها نظام الحكم بإرثه الكهنوتي، وانعدام منابر التوصيل، مستفيدين في ذلك من العديد من العوامل، منها الاستقرار السياسي النسبي الذي شهدته البلاد شمالًا وجنوبًا، وعودة الكثير من الطلاب المبتعثين، ومنهم شعراء وكتاب زادت خبراتهم بوجودهم في تجمعات تفاعلية مؤثرة، إلى جانب تأسيس العديد من المنابر الثقافية، وعلى وجه الخصوص الدوريات المتخصصة بالموضوع الثقافي، ومنها "مجلة الحكمة"، التي أعاد عمر الجاوي إصدارها باسم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين بعدن عام 1971، و"مجلة الكلمة" التي أصدرها في مدينة الحديدة محمد عبدالجبار سلام في ذات الفترة، إلى جانب إصدار المجلتين الحكوميتين الرائدتين "اليمن الجديد" في صنعاء و"الثقافة الجديدة" في عدن، في فترات متقاربة مطلع السبعينيات.

  هذا الجيل أيضًا خطا الخطوة الأهم في حسم تردده مع مسألة الشكل لصالح النص الجديد، إذ صار معظم المنتوج المنشور في الدوريات والصحف، وكذا محتويات الإصدارات الشعرية نصوص جديدة "شعر حر" و"قصائد نثر". وعلى هذا الجيل سيُسلط الضوء الأكثر في الدراسات النقدية والأدبية، التي انصرفت لاحقًا لقراءة تحولات الخطاب الجديد برافعته الشعرية. 

أما في التسعينيات، فقد كان للشعراء الشبان مغامراتهم الأكثر جرأة في التماهي مع جملة التحولات الكبرى في الداخل اليمني وفي محيطه. لهذا صار الحديث عن كسر تابوهات الشكل وأصنام الأبوية وسطوة اليقين، أهم أدوات هذه المغامرة، حتى وهي تعبِّر عن وجودها باضطراب بائن.

وجد، هؤلاء الشعراء، في الحدث مساحة لمعاينة السؤال الوجودي: من نحن وماذا نريد؟! ومع هذا السؤال استطال مفهوم التجييل، الذي تحول في القراءات النقدية إلى مجهر معاينة لخصوصية هذا الصوت باندفاعه الحالم، وتاليًا بارتطاماته الدامية على الصخور الصلدة للواقع العاري، الذي تحول في ظرف أعوام قليلة إلى حفرة امتصاصية ابتلعت كل شيء! 

وحده الشعر، ظل يستنهض حلمًا من ركام السياسة. فالانفجار الشعري التسعيني لم يكن فقط في التطييف اللوني للأسماء، ولا في تعدد مرجعيات هذه التجارب الطرية، وإنما في تحول الكتابة ذاتها إلى هجاء للسياسة، التي من شدة سيولتها لم تعد تغري في تمثلها الكثير منهم، كما كان الحال عند من سبقوهم من آباء الشعر منذ الثلاثينيات. فمتلازمة المثقف المناضل والشاعر السياسي، التي حكمت حضور أهم الأسماء الشعرية طيلة الفترات السابقة لهذا العقد، تلاشت مع هذا الجيل بسبب سقوط اليقينيات الكبرى. 

غير أن اللافت في تجارب هذا الجيل الشعرية هي تلك المتجاورات القاتلة لأشكال الكتابة، إذ سيلحظ متفحص الخارطة الشعرية أن شعراء النثر حضروا جنبًا إلى جنب مع كتاب القصيدة الوزنية، الذين لم يبتعدوا بخطوات واسعة عن كتّاب العمود من أقرانهم، ومرد ذلك حسب ظني إلى الإرباكات الشديدة في وعي منتجي النصوص، التي ضاعفت من ترددهم في حسم مسالة الشكل؛ لأن هشاشة الحوامل المعرفية بتمثلاتها القرائية بدرجة رئيسية عند أكثرهم صنعت هذا الاضطراب. 

وبين الجيلين الشعريين -السبعيني والتسعيني- حضر الشعراء الثمانينيون بدون ملمح هوياتي واضح إلا بغنائيتهم الفارطة، والكتابة بفوائض التنويعات على موضوعات وتقنيات السبعينيين، ومنهم من حاول لاحقًا الذوبان في جسم التسعينيين، ولهذا صاروا داخل المعاينات القرائية أشبه بشتات موزع بين المحطتين، وليس تمثيلًا لجيل مستقل له حساسيته الخاصة ومزاجه المتأثر بظرفه الوقتي ومشغلاته الثقافية. ومثل هذا الاستنتاج لا يمكن إسقاطه، بكثير من الأحوال، على تلك الأصوات التي مضت قدمًا، وعلى ظهرها إرث خاص، قادر على المنافسة في سوق الشعر ومنتوجاته المتعددة. وفي رحلة التتبع هذه، تعددت الأسماء وتمايزت في عبورها الخاص، ومنها رحلة صاحب مجموعة "مجد الخجل" الشاعر جمال الرموش. 

كل شعراء جيل الثمانينيات نالهم نصيبٌ من التسويق والترويج الثقافي، حتى أولئك الأقل موهبة ومثابرة، إلا جمال الرموش؛ فقد كان حظه قليلًا من هذه العملية، حتى وهو حاضرٌ في قلب المشهد

(2)

حين كنا نتحسس أولى الخطوات في عالم الكتابة أواخر ثمانينيات القرن العشرين الماضي، كان الشاعر جمال الرموش أحد أصوات جيل الثمانينيات الشعري، الذين ملَؤُوا الساحة ضجيجًا محببًا.

في أمسية شعرية في مقر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، في مقره القديم في حي التحرير في العام 1989، شارك بها ضمن مجموعة شعراء، تنظمهم جمعية الأدباء الشباب، إحدى واجهات اتحاد شباب اليمن الديموقراطي الثقافية آنذاك. كان صوته ليلتها مختلفًا، ليس في طريقة إلقائه المسرحية الباذخة فقط، وإنما في مهاراته في بناء الجملة وتقطير الصورة الشعرية غير المتوقعة، على أذن معتادة على التطريب وشهقة الغناء. 

كان صوت الثمانينيات في الجنوب والشمال معًا لم يزل واقعًا تحت سطوة جيل السبعينيات الممهد الأكبر لعملية تحول الحالة الشعرية نحو الحداثة غير الملتبسة في اليمن، وكانت تأثيرات سعدي يوسف ومحمود درويش في مرحلة بيروت باستطالاتها الغنائية لم تزل تعمل في جسم الشعرية مياسمها الحامية، لكن ما كان يحاول فعله جمال هو المخالف لتلك السمة، وإن كانت الطريقة الدرويشية في الإلقاء تفعل فعها الجارح في صوته، بالرغم من أن نصه كان يصاغ خارج إرث الغنائية والوزن.

كل شعراء هذا الجيل نالهم نصيبٌ من التسويق والترويج الثقافي، حتى أولئك الأقل موهبة ومثابرة، إلا جمال؛ فقد كان حظه قليلًا من هذه العملية، حتى وهو حاضرٌ في قلب المشهد، وقارئًا مقتدرًا لتحولاته العميقة، وهو في وجوده الآن في قلب الألفية الثالثة بعد أربعة عقود من مشوار الكتابة، لم يزل يكتب بتلك الحيوية الشابة.

قبل أشهر ليست بالقليلة قرأت له نصًّا شعريًّا مستعادًا من تلك المرحلة عنوانه "تضادُ الهُدنَةِ، تضادُ البكتيريا المُقَدَّسة"، ومؤرخ بديسمبر 1987، جاء مقطعه الأول مركبًّا بهذه الهيئة:

"لم أرتعد/ حين جاءني مرتين/ لم أقُل له عفوًا سيدي/ إن بيتي ضَيِّقٌ بالغياب/ وأصابعي تَعِبَت من فيض التحايا/ تحايا الظل/ لم أقُل لَهُ/ إنني راكضٌ نحو حجرٍ طائرٍ/ أو مطر بدائي/ ولم أقُل لَهُ/ سأخلعُ عن جثتي الغموض/ وأكنسُ من عتبات روحي/ مدى الأصدقاء الثعالب/ أو أهتف للرب/ يا رب قَدِّسني/ أنا بياضك النامي/ وغُناؤك العالي/ وسُندُسُك/ فَقَدِّسني". 

يمكن للقارئ تتبع قدرة الشاعر الهائلة على بناء الجملة الشعرية من أبسط مستدركات الألفاظ وأكثر المساحات وضوحًا، التي ستضيء مثلًا غموض الجثة، لتنهض راكضة نحو ملاذ الطائر، أو باتجاه المطر غير المستأنس والمروَّض. الشاعر لم يقل، لكنه ترك للقارئ أن يقول ذلك بفعل المحفزات التي يضخها النص في حاسة التلقي:

 "لم أقُل لَهُ إنني راكضٌ نحو حجرٍ طائرٍ أو مطر بدائي/ ولم أقُل لَهُ/ سأخلعُ عن جثتي الغموض". 

ظهرت موضة الابتهالات النصية في القصيدة الجديدة، باستدعاءاتها الصوفية الزخرفية، بعد موجة التكفير التي طالت الشعراء والمفكرين والكتاب، ونسجوا على منوال قصيدة "ابتهالات" للدكتور عبدالعزيز المقالح، عشرات النصوص قليلة القيمة، غير أن جمال الرموش كان هناك يسبقهم جميعًا، من سنوات طوال؛ يكتب ابتهالاته من الزاوية الأكثر حميمية وصدقًا، غير مبالٍ بلافتات الأيديولوجيا، وسطوة خطابها، وتنمر حراسها من المثقفين: 

"سأخلعُ عن جثتي الغموض/ وأُكنسُ من عتبات روحي/ مدى الأصدقاء الثعالب/ أو أهتف للرب/ يا رب قَدِّسني/ أنا بياضك النامي/ وغُناؤك العالي/ وسُندُسُك/ فَقَدِّسني". 

***

لم يصدر لجمال مجموعة منفردة إلا في العام 2008، بعد أن تشارك في النشر، قبل ذلك بعقدين تقريبًا، مع مجموعة شعراء ثمانينيين في إصدار خاص تبنته "الجمعية الأدبية للشباب"، وحمل عنوان "إشراقات".

عدن المستعادة في التفاصيل، هو كل ما يمكن أن يقال عن النص الثاني، المكتوب بعد ما يقرب من ثلث قرن على كتابة الأول، بلغة تستعيد حيويتها بدهشة الأشياء. فعدن المستعادة اليوم هي التي كانت في ذات وقت: 


"بؤبؤ عين الله الرحومة

كعبة الأعراقِ، والأجناسِ، الإثنيّات، المِلل، والنِحَل، الملالي، السادة، والحاخامات

تلك ذات "عدن" جوهرةُ القراصنةِ، مهبطُ الآلِهات، ومحطةُ القوافل بين البرية، ودروب الماء مأوى اليساريين العرب". 


غير عدن الآن، المستباحة بالبداوة والتطرف والدم، التي صارت فقّاسة ساخنة للتنمر والضيق بالغيريين من غير أهل القرية معوجي الألسنة والسوية.

عدن المستعادة، التي يمكن إعادة تظهير المستبطن من تفاصيلها البسيطة في: 

 "كاتلكس، وكباب بالو"، و"السمبرة جرام"، "عشارُ الليم" و"البُرتة"

و"شوكليت البُلاعة" و"آيسكريم بابا شرف"، "شرابُ الدوردورمة"، "السكر يا قاند" و"الجنجو" بلونها الأحمر القاني، ذي الملمس الزجاجي، المصقول كالمرمر، "الفوفل الملبَّس"، و"ماء لبِّ البرقوق"، "شَعْرُ البناتِ المُسَكّرْ"، و"معاصر زيت الجلجل"، "القوارمةُ" المُصَدَّرَةُ، من اللغالغة الصومال، والخالةُ "عمبرو" الصومالية، وتيسها، الذي كان يقصمُ ظهورَ عنزات الـ"بدويزم"، و"عاشوراء" الحبيب الحسين، والحلقاتُ العيدية لأطفال الـ"بُهرى"،

والـ"خوجة، الجعفريون"، أتراحُ، وأمراحُ الـ"بنانية" -الذين لم نلحظَ حتى الآن، أين يخفون "كُعَالهم"؟-، "المعمداناتُ"، و"التراتيلُ، وقداديسُ كنائس المَسْيا"، لـ"كُرُسْتان" والـ"بوذيون"،

بيارقُ الأولياء، الخفّاقة، والأزهى من رايات الممالك، والجمهوريات الكسيحة، ومقاماتهم "العيدروس، عُمر، وأخته: سعيدة بنت علي، العراقي، وجوهر، الجيلاني، والمظلوم"، وأعيادُ زياراتِهم، التي كنا نقتنص خلال بهجة مسيراتها، البنات القرويات الساذجات، اليَتَقدمنَ من الريفِ المتاخمِ لبلداتنا، واصطياداتنا الحِرِّيفة لأحلى الصبايا العدنيات،

ودِقَّةَ رمياتنا التي لم تُخطئ كفوفهن، وهي تتلقفُ منا الهريسة، والحلوى المجففة، وحبات الكعك المدورة، من لدن جداتنا المرحات، اللاتي –عادةً– ما كنَّ يتمنين لقلوبنا الغضة:

فألَ خير، بينما كنا نحسبها في ذاك عمرنا المُبكِر، أُولى مراتب الغرام، ثم "جوكر "المجاذيب" علي حسين، طُز البيسة"، الذي تخيلناه بألاعيبه السحرية، وسطَ سِرداقه الخشبي، إلهًا شائبًا بلون الشكولاتة،

وشيوخُ الطرق الصوفية، والمُريدون، في ابتهالاتهم الراقصة حوالين صحن "الأحمدية"، ثم عاداتُ أُمي،

في وداعاتها للحُجّاج، وحلقات الذِّكر! التي يتمترسُ بين حافات دوائرها،

في الغرفة الكبيرة، ببيتنا،

صامولُ أبي، ليَصُدَّ بِهِ شغبَ إبليس، وعبث عفاريته

يتجاور في هذا النص الشعري بالسردي الحكائي، الذي يمكن تركيب صورها المشهدية لتكون شريطًا استعاديًّا قوامه الحنين لتلك التفاصيل في عدن من وجوه وأطعمة وأساطير، خرجت من قعر البركان الخامد.

***

لم يصدر لجمال مجموعة منفردة إلا في العام 2008، بعد أن تشارك في النشر، قبل ذلك بعقدين تقريبًا، مع مجموعة شعراء ثمانينيين في إصدار خاص تبنته "الجمعية الأدبية للشباب"، وحمل عنوان "إشراقات". 

في عديد من نصوص مجموعة "مجد الخجل" يتكثف الحزن شفيفًا، وفي مقامه يكون الرثاء ناصعًا، وتقطيرًا شعريًّا تخلص من سيلان الغناء والسرد المخاتل لصالح الجملة الشعرية المتماسكة، التي تبدأ بالتقرير، وتنتهي بالسؤال في ذات اللحظة:

"مر عام/ لم أقلِّب كفك في الهواء/ لأعرف أي زهر تثمرين/ هل مر عام؟/ هل أكظم أضلاعي بصمت غابر/ وهي قادرة على البكاء/ كيف أدهن صوتك على ظل وريدي/ لتكوني وضوء نبضي ورضاي 

ضعتُ/ وضعتِ/ صرت دونك ودون أهلي/ قتيلًا تشظى من سهام!! هل مر عام؟!".

  تنشأ بين التقرير في "مَرَّ عام"، والذي يصير سؤالًا في: "هل مر عام؟" جملةُ الحزن الشاهقة، فيصير الغيظ غير المكظوم ضلعًا تارة، وتارة أخرى صوتًا، يُستبدل بالبكاء الذي يصير دهنًا في ظل وريد الراثي الشفيف الضائع والمضيَّع، ليصير دونها قتيلًا، تشظى في السهام، دون أن يدرك تمامًا مرور العام على غيابها.


إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English