حروب اليمنيين الداخلية

ونمضغ أكلنا دون تلكؤ!!
محمد الكرامي
July 27, 2022

حروب اليمنيين الداخلية

ونمضغ أكلنا دون تلكؤ!!
محمد الكرامي
July 27, 2022
Photo by: Hamza Mustafa- - © Khuyut

بعد أقل من عقد على اندلاع الحرب في اليمن، صار الفشل في تغيير الحياة الفردية أنموذج مُماثل للفشل في تغيير الحياة السياسية، تبدّلت الخُطط وتعلّقت الآمال على جملة "يمكن بكرة تفرج". ولئن أُنجزت التقارير عن الخسارات في الممتلكات والأبناء، فلا يمكن أن نغفل عن الخسارات الذاتية، وبشكل أدقّ الشباب الذين لم يملكوا شيئًا سوى أملٍ ببناء حياة أفضل بالدراسة أو العمل، وسرعان ما فرضت الحرب واقعًا آخر يسير باتجاه واحد؛ الاستنزاف النفسي والوجودي.

خلقت سنوات الحرب مأزقًا وجوديًّا لدى الكثير من اليمنيين، الذين لم يتسنَّ لهم امتلاك شيء والذين فقدوا أملاكهم، فلم يعد أحد يملك مصيره الخاص ولا يتحكم برزقه، حتى صار الزمن مختزلًا في صيغة الحاضر المَعاش بلا ماضي ولا مستقبل، ما دفع الكثير من الشباب الذين لم ينخرطوا في الحرب، والعائدين من الجبهات، إلى خوض تجربة جديدة، بالتوجه إلى محافظات أخرى للبحث عن العمل أو الهروب إلى بلدان مجاورة، منها المملكة العربية السعودية، فلا وجود للفراديس كحالة شعورية أو وجودية، ومن تبقّى في الداخل لا يني يمارس النكوص بشتى الوسائل من أجل تحقيق ذاته، ومن يفشل بتحقيق الاعتبار الذاتي يرزح تحت وطأة الغَبن الاجتماعي والمأزق النفسي والعجز المالي، بحيث لا يغدو العيش أكثر من قضاء محكومية خلف جدران زنزانة، ولكن بقضبان أوسع أو غير مرئية.

في الماضي، حينما سقطت أول جثة في بداية الحرب، أتذكر كيف سيطر على جميع سكان الحارة حالة هلع وذعر، ربما لأن ذواتنا كانت ما تزال سويّة، بحيث تحولت الحادثة آنذاك إلى مادة للاستنكار والاستهجان في عموم المدينة. في الوقت الحالي، لا يقلُّ المشاهد مبالاةً عن مذيع الأخبار نفسه.

مع تغيُّر خارطة الحرب، نجا الكثير من اليمنيين في الأماكن التي توقفَ الموتُ فيها عن حصد الأرواح، مع ذلك، يمكن القطع بأنّ أحدًا لا ينجو من الحرب بمن فيهم الأحياء، إذ أوضحت التجارب أن اعتياد البشاعة يتقاطع مع سلوك الإنسان وهُويته وحياته. نستحضر ما كتبه البردّوني يومًا ما في مجلة الجيش العدد 71 - فبراير 1976م، بأن "هذا الشيء الفظيع الذي نفعله ولا ندري، ويفعل فينا ولا يدري، يحوّل كل شيء خطير إلى شيء عادي، إنه الاعتياد".

اعتاد الكثير من الشباب فظاعات الحياة اليوميّة باعتبار أنها جزء من آلية النجاة في الحرب، وبمرور السنوات،  أصبح الاعتياد أسلوب حياة؛ بالنظر إلى استمرار تغيُّر الوضع من السيّئ إلى الأسوأ. وشيئًا فشيئًا، انقلب من آلية للعيش والتكيف والنجاة إلى آلية للهدر التام، لا يكتفي بتكريس اليأس في أوساط الشباب وحسب، إنما يلغي فاعلية الفرد في المجتمع، ما لم يعرقل أي تحولات سياسية واجتماعية وثقافية محتملة في المستقبل باعتبار أنّ الشباب أساس كل تغيير. ما يوحي بتأبيد الحرب، إذا لم يكن في المجتمع فهو في ذوات الناس.

لم يفرض الاعتياد مسارات وسلوكيات وهُويات جديدة في حياة الجيل الذي عاش الحرب فقط، بل إنه قد سلب حتى إنسانيتنا، بحيث يمكن أن نسمع عن موت أسرة بأكملها أثناء تناول وجبة العشاء ونمضغ أكلنا دون تلكؤ. في الماضي، حينما سقطت أول جثة في بداية الحرب، أتذكر كيف سيطر على جميع سكان الحارة حالة هلع وذعر، ربما لأنّ ذواتنا كانت ما تزال سويّة، بحيث تحولت الحادثة آنذاك إلى مادة للاستنكار والاستهجان في عموم المدينة. في الوقت الحالي، لا يقلُّ المشاهد مبالاةً عن مذيع الأخبار نفسه، إذ تأثرت وسائل الأعلام بالصراع العنيف وانعكس الانقسام في لغة الخطاب، بحيث صارت تتعامل مع الحياة والموت على قدر كبير من الاستهانة.

‏لا يمكن أن نقرّ بنهاية سعيدة لعذابات الناس إذا ما توقفت الحرب في اليوم أو الغد، وإنما يمكن أن نأمل انتهاءها من أجل الجيل القادم، كي نحصّنه من اعتياد الموتُ والحياة الميتة، أما نحنُ، الجيل الذي شهدَ فظاعات الحربِ، فلا مردّ من عزل آثار الحرب عن ذواتنا.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English